أحفاد المساءات

أحفاد المساءات

أحفاد المساءات

د. عبده منصور المحمودي

  صديقي القديم المتجدِّد في لطافة روحه، ورقة طباعه. لم يستطع التخلّي عن انتمائه إلى أحفاد المساءات، إن لم يكن مستمتعًا بقضاء مساءاته مع جوقة السهر الطويل، والنوم الصباحي الذي لا فكاك منه لديهم. اتصل بي صديقي ــ ذاك ــ قُبيل انتصاف الليل، فاستغرب من استعدادي للنوم، ومن تفريطي في ليلةٍ ماطرةٍ، فيها كلُّ ما يُغري بالاستمتاع سمرًا حتى الصباح.

  كان التحصيل العلمي الجاد في اليمن ــ قبل سنوات ــ يستلزم بَذْلَ جُهدٍ استذكاريٍّ كافٍّ. لذلك، كان هذا الأمر ذا دورٍ فاعلٍ، في أن يكون صديقي ــ ومثله كنتُ قبل أن أتحرّر من هذه العادة بصعوبةٍ بالغة ــ ضمن فئة أحفاد المساءات؛ إذ كانت الامتحانات الوزارية ــ في السنة الأخيرة من المرحلتين التعليميتين الأساسية والثانوية ــ مستدعيةً أكبر قدرٍ ممكنٍ من استثماٍر للوقت. وكانت المساءات الطوال مناسِبةً لهذا الاستثمار. أما النوم، فقد حل الصباح محلها في احتوائه. وإلى التعليم الجامعي، بمراحله المختلفة، رافقت هذه العادة أحفاد المساءات، بنسبٍ متفاوتةٍ، متوائمة مع حياة كل شخص، وخصوصية كل بيئة ومرحلة.

  ثُمّ بانْحسارٍ مُتَوَالٍ ــ سَنَةً بَعد أخرى ــ بدأت فاعِليّة  التّحصيل العِلمي ــ هذه ــ بالانزواء المتنامي. حتى فقدت دورها المحوريّ في اكْتساب عادةِ السّهر الليلي، والنّوم الصباحي. بعدما تنوّعتْ، وتعددت العوامل الفاعلة، في اكتسابها واطّرادها واتّساعها. فصارت ساعاتُ الليل زاخرةً بالحياة، بشكل يفوق حيوية النهار.

العمل وأحفاد المساءات

   قليلون هم النهاريون، وقليلةٌ هي نسبةُ العاملين في ساعات الصباح؛ فكثيرٌ منهم قد اتّخذوا من الليل زمنًا لنشاطهم. كما أن عمل الليل، لم يعد مُتعلقًا ــ فقط ــ بالأعمال التي تتناسب خصائصها مع زمن تنفيذها ليلًا. وإنما صار عادةً مُطردة. وإلى الليل، انتقل إنجازُ نسبةٍ كبيرةٍ من أعمال النهار. فمثلًا كان العاملون في قطف أغصان النشوة، يشكلون دينامو حياةٍ نشطةٍ، في فترة الصباح.

  تنامت هذه العادة، فكان لها أثرها في تضاؤل هذه الحيَاة الصّباحية. بعدما تنامى اجتذاب هذه العادة لكثيرٍ من القَاطِفِين إلِى اللّيْل. وبذلك، بات المساء مأهولًا بهم، وممتدةٌ فيه الحياة ـــ في كثيرٍ من الأحيان ــــ حتى ملامح الفجر الأولى.

    الحال نفسها عند المزارعين؛ بعد أن كان عملُ الليل مقصورًا على الحراسة، أو عملية الريّ. لا سيما حيْنما يكونُ دور ريّ المَزرعة مُتزامِنًا مع ساعات المساء. وحينها، يحرص كثيرون على تفضيل المساءات زمَنًا مُناسبًا لعملهم هذا. وهو ما ترتب عليه تزاحم الرغبات، في الظفر بتزامنِ أدوار الريّ مع ساعات الليل. كما زادت نسبة إنجاز أعمالٍ أخرى، في المزارع ليلًا. من مثل: تقليم أشجارها بعد قطفها، أو تقليب التربة، ونزع الحشائش الضارة، وما في سياق ذلك من العناية الزراعية.

   ومثل حال المزارعين ــ هذه ــ كانت حالُ عددٍ من أصحاب المهن الأخرى، كالمشتغلين في البناء. وبوجه خاص، أولئك العاملون منهم في تكسير حجارة البناء، من الجبال بآلياتهم الصاخبة.

  حياةٌ ليليةٌ تسودها الحركة والحيوية، تتمظهر تفاصيلها المختلفة: أصواتًا مختلطة ومتعددة بتعدد أغراض أحفاد المساءات، وسياراتٍ بين ذهابٍ وإياب، ومثلها الدراجات النارية. أما المزارع، التي آن قَطْفُ أغصانها، فتبدو كأنها قرىً صغيرةٌ. تتكاثفُ  فيها الأضواءُ من المصابيح اليدوية “التراشليت”، التي استقر تثبيتُها في جباه القاطفين.

أحفاد المساءات أحفاد “السّمْرة”

   لا شك في أن انتقال حيوية الأعمال إلى المساءات، يُعدّ شكلًا من أشكال مشاكسةِ الطّبيعة المجبولة على تكريس النهار للعمل، والمساء للسكينة. وعلى ذلك، فإن هذه المشاكسة تظل في سياق الممكن، ولو في حيزٍ محدودٍ من المنطقية. لكنّ الأمر الإشكاليّ، يكمن في المساءات المُفرغة من العَمل، وذلك حينما تتحول خصوصية النهار إليه عند أحفاد المساءات. وعند نسبةٍ لا بأس بها، من الفئات الأكبر سنًّا. والأخطر من ذلك، التحاق الفتيان بفئة الليْلِيّين هذه.

   صار سهرُ الليل ــ في حياة هؤلاء ــ عادةً وبرنامجًا. إذ اعتادوا على أن يبدأ يومهم من لحظة استيقاظهم في منتصف النهار. حيث تنقسمُ وجْبة الغداء لديهم علَى نَوْعين: الأول تكون فيه وجْبةَ غَدَاءٍ بَحْتَة. والثاني، تزدوج فيه وجبتان، الإفطار والغداء. ثم تأتيي مُهِمة تَوفير كِميّة كافِية مِن أغصان السعادة. ولا مشكلة في أن يقضوا في هذه المُهمّة أكثر من ساعَتينِ. وذلك، لما لهذه المهمة من أولوية واهتمامٍ جوهريٍّ في برنامجهم؛ استعدادًا منهم لفترةِ المساء، ولا ضيرَ في أن تبدأ جلسةُ النشوة ــ عند بعضهم ــ قبل حلول المساء، بساعةٍ أو أكثر.

أحبابُ الساعة السليمانية                            

    ينقسم أحفاد المساءات في سمرتهم بعفويةٍ على جماعاتٍ، وفقًا لتقارباتٍ واهتماماتٍ يتشاركها أفرادُ كل مجموعة. يعيشون التنامي لفاعلية الكيف حتى يصلوا إلى الذروة منه، وفيها ينعمون بمشاعر النشوة والارتياح. وفي هذا المنحى، ما يدخل في طقوسها من تدخين السجائر، أو “الشيشة”. وتمثّل ــ بدورها ــ حافزًا محوريًّا، في لململة هُواتها، في مجموعةٍ متجانسة.

   تبدأ “الساعة السُليمانية”، عند أحفاد المساءات بعد انتصاف الليل. على غير ما هو متعارَفٌ عليه، من تزامن بدايتها مع غروب الشمس. تمنحهم تفاصيلُ ليلهم السُّليماني خصوبةَ خيالٍ، مترعةً بمتعةٍ متناهية. يطوح بهم الطموح، وتُحَلِّقُ بهم الأحلامُ في فضاءاتِ الانتشاءِ. تلك الفضاءات، التي تُيَسِّر لهم تحقيقَ الحلم، مهما تمادت شطحاته. تبدأ مساحة الأمل في التقلُّص، بعد قطف لحظات الانتِشاء الأخيرة. ثم تتناسل في الطريق العوائق، التي يبدو أن لا مناص من التعثُّر بها، ثم يخسف بهم اليأس والإحباط.

   غالبًا ما يمتد المقيلُ الليليِّ بأحفاد المساءات، حتى يتبيّنَ لهُم الخَيْطُ الأبيَضُ من الخَيْطِ الأسْود. عندها، يجدون أنفسهم وقد استسلموا للنهار ومَمْحاته، التي تهرع في إزالة كلام اللّيل ومُخططاته المتجاوزة لواقعية الضوء، في ابتسامات الفجر النديّة. ثم يحل زمنُ نومهم البيولوجي، مع زقزقة عصافير الصبح الأولى، حيث يمتد بصاحبه حتى الظهيرة. وقد يمتد به ساعاتٍ أخرى، تصل عند بعضهم حتى المساء.

مساءُ الشقيقتين         

    في هذه الحال، لا يكون السهر إلا لأجل السهر ذاته، لأجل استمتاع أحفاد المساءات بالسمرة الطويلة. مثلهم في ذلك، كمثل شخصيتين واقعيتين، وَجَدَتْ قصتُهما مكانها في الحكاية الشعبية المتداولة. حكايةُ أرملتين شقيقتين متقدمتين في السن، اعتادت كُلُّ واحدةٍ منهما على أن تقضي الليل سمرًا بطعم أغصان النشوة، ونكهة التبغ من النارجيلة “المداعة”.

    في ليلةٍ رمضانية، استضافت إحداهما الأخرى في منزلها. منزل الأخت المُستضيفة، من خلال ماهيته الشعبيّة، وفّرَ عليهما الخروجَ والدخول؛ فبابُهُ الخلفيّ يُفضي إلى صالةٍ صغيرةٍ. يظهرُ في إحدى جهاتها بابٌ يفضي إلى المطبخِ الشّعبي، حيثُ المَوْقد الطيْنيّ، الذي يتَكَوّمُ فيه جَمْر “المَدَاعَة”، كُلّما دَعَتْ الحاجَة إلَيْه. ومن أجل الفوز بأكبر قدرٍ من النشوة، عملت الأختُ ــ ربّةُ الدار ــ على استكمال أسبابها. لذلك، أغلقت النّافِذة الوَحيْدة الصَّغيْرَة فيْ حُجْرَة السّمْرَة. تلك النافذة، التي لم تزد الحاجَة إلى إِحْكَامِ إغْلاقِها على استخْدام وسَادَة قُطْنِيّة صَغيْرة.

   لم تدرك الشقيقتان إنهما بذلك، قد انفصلتا عن محيطهما الخارجي. استمرت النشوة في ليلتهما حتّى انتهت بما لم يكن في حسبانهما. تهيأت ربّة البَيْت لإنجاز الجولة الأخيرة من اسْتبدال الجَمر والتَّبْغ. وقبل أن تقوم من مكانها، مدّت يدها إلى الوسادة في النافذة، سحبَتْها من مكانها، فانصعقت، ومثلها انصعقت الضيْفة؛ لقد كان الزمَن متجاوِزًا الضّحى، في تلك الصّبِيْحة الرَّمضانِيّة، التي سارت بهما نشوةُ تلك الليلة السُّليمانيّة المتطاولة إلى قلب الضحى منها.

ما لا يجود به نوم النهار

يتطَرّق الكاتب (روبن شارما)، في كتابه “نَادِي الخَامِسَة صَبَاحًا”، إلى النّوم، وساعَتِه البيولوجيّة الطبيعية. وبأدلةٍ علميةٍ يُبرهنُ على الإيجابية الصحيّة والحياتية، التي تعود على الشخص النهاري. وكذلك، برهن على أهمية نوم الليل وجدواه، كما برهن على السلبية التي يتسم بها نوم الصباح. لا سيما ما يسفر عنه من خمول ونزق فور استيقاظ النائم ظُهْرًا. وفي ذلك، ما يُفسِّرُ نزقَ أحفاد المساءات وشعورهم السلبي. فلا يكاد أحدٌ منهم، يُنكر سلبية هذه العادة على حياته.

كما أن مِن بين أحفاد المساءات مَن يضيقُ ذرْعًا بهذه العادة. فكثيرًا ما كانت هذه العادة سببًا في الحيلولة دون نيله كثيرًا مما يهفو إليه من صور النجاح. لكنه ــ على ذلك كله ــ لا يجد سبيلًا إلى التحرر منها. وقرر بعضُهم التخلّي عنها، وبدأ بتنفيذ القرار، لكنه بعد أيامٍ قليلةٍ أُصيبَ باليأس والإحباط، وشعر باستحالة تغييرها، فمهما استيقظ صباحًا لا يظفر بالنوم ليلًا، إذ يرهقه السهر والأرق، فيجد نفسه مستسلمًا لها ثانيةً. لذلك، لا تفسير لهذا الأمر، سوى أن هذه العادة قد تمكنت منه، وامتلكت قوةً ليس من السهل تفكيكها، إلا بعادةٍ جديدةٍ تحل محلها وتكتسب قوتها. ولا يتسنى ذلك، في أسبوعٍ أو أسبوعين، وإنما في دورة كاملةٍ، حدّدها (روبن شارما) ــ في الكتاب نفسه ــ بستةٍ وستين يومًا.

اتزانُ الحياة 

  السهر المحدود لا سلبيةَ فيه، كذلك لن يفقد الليل خاصيته كـ “نهارٍ للأريب”، حسبما ورد في أدبيات التراث العربي. ولم ينل عشقُ الليل، من إنجاز الشاعرة العراقية “نازك الملائكة”، حينما لُقِّبَتْ بـ “عاشقة الليل” إن لم يكن فاعلًا في ثراء موهبتها وإبداعها. وتفَرَّدتْ أغنيّاتُ “فيروز”، بتناغمها مع لحظات الصباح، فكانت جديرةً بأن يُطلق عليها لَقَب “سيِّدة الصَّباحَات”. وعلى ذلك، لم يحلْ هذا التفرُّدُ دون الطاقةِ الوجدانية الهائلة، في الأغاني الفيروزيّة، وهي تنسابُ مع نسائم الليل الساحرة. إن سلبِيّة سهر الليالي كامنة ــ بدرجةٍ رئيسة ــ في ديمومة هذه العادة وتكرِيْسها، في حال ما كان السّاهر لا يملك مُبرراتٍ تُسَوّغ له صحوه الليلي، بعد أن يهنأ النومُ ويستطيب، في “عُيُون العَذارى، ويَخْتفي القمرُ”؛ وفقًا لما ترنّم به صوت الفنان أيوب طارش العبسي، من رائعةِ أحمد الجابري: “يا عاشقَ الليل ماذا أنت تنتظر”.

  وبذلك، فإنّ التّوازن بين “عُشّاقِ الليْلِ” و”عُشّاق النَّهَار”، يُعدّ من أهم مقومات المُساواةِ العادلةِ بين هاتين الفئتين العاشقتين للزمن. ذاك التوازن، وتلك المساواة، التي يتدفق بها نداء صاحب “الخبز الحافي” محمد شكري، وهو يوزع تفاصيل النداء على كلتا الفئتين، قائلًا: “أيُّها اللّيْليُّون وَالنَّهارِيُّون … لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة، لا يمكن أن نواجهها إلّا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة نشدانًا للحياة”. ولذلك، فما الحياة المنشودة، سوى تلك الحياة المستقيمة، بالتوازنات بين مكوناتها وجوانبها المختلفة.      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *