أنسنة الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

أنسنة الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

د. عبده منصور المحمودي

كانت حياةُ الدكتور عبد العزيز المقالح زاخرةً بعطائهِ الأدبي والثقافي، سواءٌ في ثراءِ تجربتهِ الشعريةِ ورؤاه النقدية، أو فيما عايَشَهُ فيهِ الأديبُ والمثقفُ اليمني ـ والمجتمعُ اليمني بوجهٍ عامٍ ـ من ملامسةٍ لإشكالاتِ الأدبِ والحياة.

لقد أفلحَ الموتُ في مصادرةِ جسدِ المقالح، لكنّ عطاءَ المقالحِ حيٌّ وخالدٌ في طيّاتِ دواوينهِ ومؤلفاتهِ ومقالاتهِ، وفي مقدماتهِ لكثيرٍ من الإصداراتِ والكتبِ أدبيةً وغير أدبية. كما هو خالدٌ فيما أثْمَرتْهُ أدوارُهُ الفاعلةُ في رحلتهِ التنويرية، وفي ريادته للحداثةِ الأدبية والفكرية والثقافية.

كثيرًا ما كُتِبَ حولَ تجربةِ المقالح الشعرية والنقدية، لكنّها ـ على ذلك ـ لا تزال تجربةً خصبةً، وفيها كثيرٌ مما ينتظرُ أن تُلامِسهُ تأملاتُ البحث والكتابة. من مثل الاشتغال على صور من الاستعارة التشخيصية الخاصة في أنسنة الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح للشعر، وهو ما تهدف هذه المقاربة النقدية إلى سبر تجليّاته الشعرية، في سياق من التعاطي النقدي مع صورة الألم والمعاناةِ في شعر المقالح.

[1]: الشِّعْرُ يرثي الراحلين

للشعرِ رثاؤهُ الباكي على رحيلِ مَنْ تستضيءُ بهم الأزمنةُ والأمكنة، بعد أن انتقلَ به المقالح من ماهيتهِ الذهنية ـ كمفهومٍ إبداعي ـ إلى حقلِ التفاعلِ الإنساني، وبثّ فيه روحَ الإنسانِ وخصائصه وسماته؛ فتَجَلَّى الشعرُ في تجربتهِ إنسانًا مأهولًا بمشاعرِ الحزن والألم، من مثل ما جاءَ في نصِّه: (مرثية)(1):

“كلما مالَ نجمٌ على الأفْقِ

حُزْنًا، وماتْ

ذرفَ الشِّعْرُ دمعتَهُ

وبكتْهُ بكلِّ عواطِفها الكلماتْ ..

يا رفيقي

القصيدةُ بعدَكَ شاحبةُ اللَّونِ

باكيةٌ،

والمعاني ـ التي فقدَتْ

ضوءَ معناكَ (يا صاحبي) ـ

شاحباتْ”.

يتداعى الشعرُ في ـ هذا النص ـ مع ما يتركهُ موتُ المبدعين من خسارةٍ فادحةٍ في البنى الثقافية لمجتمعاتها، ومع ما يترتب على ذلك، من حزنٍ وحسرة. وقد استوعبَ الشعرُ هذا الحزنَ الإنساني، بعدما أَضْفَى السياق عليه أنسنة الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح. من خلال صبغه بخصائصَ الإنسان الوجدانية؛ فحزنَ وبكى، وتَفَتَّقَتْ فيه عاطفةُ الكلماتِ حزينةً باكية.

وعلى القصيدة أيضًا ـ بوصفها كائنًا شعريًّا ـ أضْفَتْ هذه الشعريةُ أنْسَنةً وجدانية؛ فَبَكَتْ القصيدةُ وشحب لونُها. ومثلها المعاني بماهيتها التجريدية، بعد أن نالتْ نصيبَها من روحِ هذه الأنسنةِ الشعرية.

لقد قام نسيجُ التصوير الشعري في هذا النص، على الألمِ الوجداني الذي يتركه فقدانُ عزيزٍ على النفس البشرية المكلومة برحيله. لاسيما رحيل الشعراء. فمع رحيل كل شاعرٍ يخسر الشعرُ واحدًا من روافد ديمومته. فيبكيه منْهَمرًا من وجدان الشعراء المحزونين عليه. كما في هذا النص من شعر المقالح.

[2ــ1]: أنسنة الشعر وصلاح عبد الصبور

حينما انتشى الموتُ ـ ذات ليلةٍ ـ بروح الشاعر المصري صلاح عبد الصبور، صُعق المقالحُ بذاك الانتشاء؛ فكتب رثائيته (حدث في النصف الثاني من الليل)، التي استهلّها بأنسنة الشعر حروفًا وكلمات:

“أفاقَ مِنَ الرعبِ ماءُ الحروفِ

وعَبْرَ محيطٍ منَ الدَّمِ هاجَرَت الكلماتُ”(2).

تجسّدتْ حروف الشعر ـ هنا ـ في صورة الماء. ثم تأَنْسَنَ الماءُ؛ بامتلاكه خاصية الإنسان (النوم/الإفاقة). ومن خلالها عايش رعبَ المأساة التي أفاق على وقعها. ثم تنامت تقنيةُ الأَنْسَنَةِ من الحرف ـ أصغر وحدةٍ في القصيدة ـ إلى وحدَةٍ أكبر ـ الكلمة ـ إذ أفاقت الكلماتُ وهاجرت في محيطٍ من الدمِ. فجمعت سمتين إنسانيتين اثنتين: (الإفاقة/ الهِجْرَة). وهجرة الكلمات ـ هنا ـ هي هجرةٌ في تشكيلِ نصِّ الرثاء ـ هذا ـ الذي تداعى حزنُه صورًا من الحسرة. منها هذا التصويرُ الاستدعائي لحال الفقيد قبل وفاته:

“كانَ رابعَنا

يتمنطقُ وجهَ معلَّقَةٍ

ويحاورُ وجهَ الشوارعِ،

منتعشًا، كنتُ والموتُ،

والذّكرياتُ،

ووجهُ (صلاحَ)؛

نتابعُ أصداءَ أغنيةٍ

أطبقَتْها العصافيرُ بعدَ العشيّةِ

نِمْنا على هَمْسِها

وارتعاشاتِها.. “(3).

أثَّثَتْ ـ هذه الحالَ الاستدعائيةَ ـ تفاصيلُ أربعةِ عناصر: (الشاعر ـ الموت ـ الذكريات ـ وجه الشاعر صلاح عبد الصبور ). بما في هذه التفاصيل من شاعريةٍ أضْفَتْها عليها متابعةُ عناصرها ـ الأربعة ـ لأصداءَ أغنيةٍ انتهت منها العصافير قبل أن يدلف المساء.

[2ــ2]: دموع القصيدة

على تلك الأصداء الهامسة المرتعشة، داهم النومُ عناصرَ الصورة وأُنْسَها. فلم تفق إلا على صوت المأساة، التي اتخذ الشاعر من أنْسَنَةِ القصيدة سبيلًا إلى شعريتها التصويرية:

“فجأةً أيقظَتْني دموعُ القصيدةِ،

حاصرَني صوتُها المتهدّجُ.

تغرزُ أحرفَها في دمي

وتجاذبُني لغةَ الخوفِ.

أنهضُ منْ نوميَ المتقطِّعِ

تشطرُني

وتمدُّ أظافرَها في الهواءِ

إلى عُنُقِ اللّيلِ،

ثم تناجي النُّجومَ:

ـ اخْتَصِرْنَ المواعيدَ ..

وانشقّ وجهُ القَمَرْ”(4).

نوبةُ بكاءٍ حادةٍ هي التي أيقظت الشاعر. وقد كانت القصيدةُ هي مصدر هذا البكاء. جاءت على صورةِ امرأةٍ صاخبةِ الدمع، وفي وصفِ صوتِ الدمعِ بالصخبِ إحالةٌ على ما وصل إليه أثرُ المأساةِ من قسوةٍ حدّ إيقاظها الشاعر.

ويظهر جهدٌ شعريٌّ ملحوظٌ؛ رغبةً من الشاعر في أن يشمل نصُّهُ طقسَ اللحظةِ الباكيةِ ومهابتها ورهبتها، طقسٌ يمكن تأويلُ تفاصيلهِ بنحيبٍ تقاسمَهُ المتشاركون مع الشاعرِ فضاءَ الإقامةِ والشعرِ، فكانت القصيدةُ صوتَهم الإنساني الواحدَ المشتعلَ بكاءً وحزنًا وحسرة.

[2ــ3]: خوف القصيدة

لم تكتف القصيدةُ/ المرأة بالبكاء، وإنما أتقنتْ تَمَثُّلَ وعائها الإنساني (المرأة)، ضمن أنسنة الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح، وبذلك، فقد غَرَزَتْ القصيدة حروفَها في دم الشاعر، مثلما تغرزُ امرأةٌ مصعوقةٌ بوفاة عزيزٍ عليها أظافرَها في جسدِ أقربِ شخصٍ يحاولُ تهدئتها. وتداعت القصيدةُ في أنْسَنَتْها مع الشاعر؛ فجاذَبَتْه لغةَ الخوف، بعدما أسقط عليها خوفَهُ ورعبَهُ تلك اللحظة؛ ووجدها مثله خائفة، ثم ماهت بينهما اللغةُ بمستواها الوجداني (الخوف).

لم يستطعْ الشاعرُ إغراقَ ذاته في النوم؛ هربًا مما هو فيه، فيما بلغتْ هي ذروةَ اضطرابها وانفعالها، وأسفر غرزُها لأظافرها في دمِ الشاعر عن تمزيقها له، فتحرّرتْ من قبضةِ محاولاته في تهدئتها، وخلا لها المكانُ وفضاؤه الذي لم تصلْهُ أظافرُها وهي تَمُدُّها نحوه، كما لم تتمكن من العبثِ بعنقِ الليل الذي وَصَلَتْهُ أظافرُها؛ حيث حالتْ ماهيتُه غير المقدور على لمسها دون غرزِ أظافرِها في عنقه. ثم تشرئبُّ ـ بعد ذلك ـ إلى النجوم، مكتفيَةً بمناجاتها، متوسِّلةً إيّاها أن تختصرَ المواعيد، حيث تمثّلت القصيدةُ المُؤَنْسَنَةُ هذه ـ ضمن تَمَثُّلِها لصوت الشعراء الواحد ـ رغبتَهم في اختصارِ حياتهم بعد رحيل صديقهم إلى السماء.

[3]: الشعر في مراسيم الغسل

يمضي النصُّ الشعري نفسه، في مهمةِ استيعابهِ اللحظةَ المأساويةَ وتفاصيلَها، فيتضمّنُ مراسيمَ الغسلِ التي اشترك فيها الشِّعرُ:

“كنتُ رابعَهم:

مِصْر، والنِّيلُ .. والشعرُ

كنّا نُطَهِّرُهُ منْ جحيمِ المعاناةِ ..

نمشي به في النُّجُوعِ

ونغسلُ أجفانَهُ منْ زبانيةِ الحزنِ،

نَنْزعُ عنْ ظهرِهِ (قُبَلَ) الأصدقاءِ

وعن صدرهِ دبَقَ الأوسمةْ”(5).

مثلما أثَّثتْ أربعةُ عناصر الحالَ الاستدعائية السالفة، أثَّثتْ حالَ الغسلِ ومراسيَمهِ ـ هنا ـ أربعةُ عناصر: (الشاعر ـ الشعر ـ مصر ـ النيل). وبعد أن أهّلتْ فنيّةُ النصِّ الشعرَ إنسانيًّا، صار قادرًا على تنفيذ مهمة الغسل، التي اشترك في تنفيذها مع عناصر الحال الأربعة هذه. وقد اتَّسَمَتْ هذه المراسيم بميزةٍ التقطتْها من استثنائيةِ المتوفّى؛ كونَهُ شاعرًا مرهفَ الحسِّ؛ لذلك كانت لعمليةِ غسلهِ خصوصيتُها التي تبلورت من المدى الذي وصلَ إليهِ تطهيرُها إيّاه؛ إنّه مدى الذات الشاعرة الذي طُهّر في هذه الطقوسِ من المعاناة والحزن، ومن بصماتِ قُبَلِ الأصدقاء، ومن ظلال الأوسمةِ التي فَقَدَتْ ماهيتها بعد رحيل صاحبها، ليرحلَ في خلودِه موشّحًا بأوسمةِ الشعرِ ونقاءِ القصيدة، التي كان اللحد مما اشتركت فيه مع إنسانها في جماليات التشكيل الشعري، محتفظة بماهيتها الخالدة في واقعية التدوين والكتابة التي تحيل على خلود الشخصية الشعرية في فضاءات الإبداع السرمدي.

  1. عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، جـ3/ ص547. ↩︎
  2. نفسه، جـ2/ ص406. ↩︎
  3. نفسه. ↩︎
  4. نفسه، جـ2/ ص407. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *