أنسنة القصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

أنسنة القصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

أنسنة القصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

د. عبده منصور المحمودي

القصيدة في مآلها الإنساني

 احتفت تجربة المقالح الشعرية، بإضفاء الصفات الإنسانية على الشعر، فتجلت في أنسنة القصيدة، على صور متنوعة من تماهيها في طبيعة الإنسان، ومشاعره وتفاعله، مع متغيرات الزمان والمكان، وصولًا ـ مثل الإنسان ـ إلى المحطة الأخيرة في حياته، موتًا وجنازةً. وعلى ذلك قامت عليه تقنية التشخيص في تجربة المقالح، التي استوعبت الأبعاد الإيحائية في مآل هذا التماهي بين القصيدة والإنسان(1):

“القصائدُ تأخذُ شكلَ الجنازةِ

تأخذُ شكلَ الرّصاصةِ،

شكلَ المصابيحِ

شكلَ الحرائقِ،

والموتُ يأخذُ شكلَ البلادْ”.

   فالقصائد تَؤُوْلُ حياتُها إلى نهايةٍ، والجنازةُ ـ كالإنسان ـ هي صورةٌ لخاتمة القصيدة. ولتبرير هذه الرؤية السوداوية في مآل القصيدة ـ التي تحملُ رمزيةً إلى مآلِ الإنسان ذاته ـ يأتي تجسيدُها في شكلِ رصاصةٍ قاتلة، وشكلِ نورٍ، وحريقٍ، ليكتمل هذا التبريرُ الشعري المدهش في صورةِ الموت الذي صار هو البلاد. ثم تتسع أنسنةُ القصيدة؛ لتشمل الشعر، فيناديه الشاعر:

“(يا شِعْرُ، غابةً منَ الرَّصاصِ

صارَ وجهُ الأرض

صارَ وجهُ العشقِ..

…..

…..

قميصُكَ هذا الذي ترتديهِ القصائدُ ..

هل أتلفتْهُ الرَّصاصاتُ؟

هل مَزَّقَتْ خَدَّهُ؟

والزّرائرُ هل فقدَتْ لونَها،

وتهشَّمَ عُنْقُ القصيدةِ؟”. جـ2/ ص: (419،416).

  يخاطبُ الشاعرُ الشعرَ، كإنسانٍ يسمعُ ويعي التساؤلاتِ الموَجَّهة إليه، يشكو إليه صيرورةَ وجهِ الأرضِ والعشقِ رصاصًا، يسألهُ عن أن تكونَ الرصاصُ هي التي أتلفتْ قميصَ القصائد؟ وفي هذا التساؤل، قدَّمَ القصائدَ كفتياتٍ مرتدياتٍ القميصَ الذي ألقاهُ عليهنَّ الشعر، بما في هذه الصياغة من رمزيةِ المُفارَقةِ في استثمار قصة النبي يوسف عليه السلام.

ومن هذا النسق التساؤلي يُوْلَدُ تساؤلٌ عن أن يكونَ خدُّ القميصِ قد تمزّق بالرصاص؟ وفي هذه النسقية التساؤلية المتوالدة إيغالٌ في أنْسَنَةِ كائنات الشعر؛ فبعد أَنْسَنة الشعر والقصيدة تنمو ـ هذه الأنسنة ـ لتشمل قميصَ القصيدة، يتلو ذلك إيغالٌ أعمق في تخصيص مكان التمزق في خد قميص القصيدة. ثم تُتَوّجُ ـ هذه الأنسنةُ الشعريةُ للقصيدةِ ـ بتصويرٍ تشخيصيٍّ مُفْزعٍ، تضمّنه التساؤلُ عن مآل القصيدة: (أتَهَشَّمَ عُنقُها؟!)، وعنقُ القصيدةِ واحدٌ من تفاصيل الإنسان الذي تمثَّلَتْهُ وأُثْقِلتْ بمعاناته.

بكاء القصيدة

من هذا النسق التساؤلي ـ المتوالد تساؤلاتٍ مثخنةً بالمأساة ـ في تجربة المقالح، انطلقتْ شعريته نحو فضاءاتٍ متعددةٍ من أنْسَنَةِ الشعر؛ كإجهاش القصيدة بالبكاء:

“حينَ يجيءُ الليلُ عاريًا

ينشرُ نفسَهُ فوق شوارعِ المدينةْ

يملأُ وجهَ الرِّيْحْ.

ترتعشُ القناديلُ على نوافذِ المقهى

وتجهشُ القصيدةْ.

يمارسُ الحزنُ طقوسَهُ”. جـ2/ ص: (420).

لقد استقام النسيجُ الشعري على أنْسَنَةِ الأشياء: فالليل يتراءى عاريًا، ناشرًا نفسَهُ في شوارع المدينة. والريح ذات وجهٍ ممتلئٍ بالليل، والقناديل مرتعشة. وفي تفاصيل هذه الحال القاتمة، لا تملك القصيدةُ المُؤَنْسَنةُ إلا الإجهاش، ولم يحدِّد النصُّ إجهاشها بالبكاء، وإنما تركَهُ إجهاشًا مفتوحًا، ولعلّ البكاء هو ما يَأْتَلفُ مع النسق الدلالي. على ما في هذه الصياغة من ممكناتٍ تفتحُ فضاءً من التأويلِ غير المستقرّ على معنى؛ تجانُسًا مع ماهيةِ فاعلِ الإجهاش (القصيدة). ثم تنعقدُ الأنْسَنةُ في مفهوم الحزن؛ لتخلقَ منه إنسانًا يمارسُ طقوسَه.

وقد التحمتْ أنْسَنَةُ الشعر ذات الصيغة الندائية، بصاحب المرجعيةِ الإنجازيةِ للشعر (الشاعر/الإنسان):

“أيّها الشاعرُ العربيُّ

المسافرُ في خطواتِ القصيدةِ،

بينَ (خُرسانَ) في الشرقِ

ما بينَ (تَطْوانَ) في الغربِ؛

إنّ الذِّئابَ تجوسُ خلالَ الدِّيارِ

وصوتُ القصيدةِ لا يؤنسُ الخائفينَ

فلا تترجل عن النعش

لا شيء أثمن من أن تموت الغيوم

لتحيا

ولا شيء ..

لا شيء في صمتِ هذا الخرابْ.

(ارتجفَ الشارعُ ساعةً ونامْ

ارتجف النهرُ ونامْ

ارتجف الشعرُ ونام”. جـ2/ ص: (420).

النداءُ موَجَّهٌ إلى الشاعر العربي، الذي استوعبتْهُ الرمزيةُ في شخصيةِ شاعر القبر (مالك بن الريب)، ومضمونُ الخطابِ موغلٌ في استقصاءِ الصورةِ القاتمةِ لواقع الشعراء العرب. وفي سياق ذلك تَأنْسَنتْ القصيدة؛ فامتلكتْ ـ كالإنسان ـ خطواتٍ حيوية الحركة، بما في ذلك من إحالةٍ على غايةٍ تقدميةٍ تنويريةٍ تقودُ الخطواتِ التي يسافرُ الشاعرُ العربي بينها، وفي ذلك هيمنةٌ للقصيدةِ على الشعراء بعدما استأنسوا السفرَ بين خطواتها، وهي هيمنةٌ إيجابيةٌ في نسقِ الرؤيةِ الشعريةِ اللائذة بالشعر من سعير الحياة.

 ويطل بيانُ النداءِ صورةً لوحشيةِ الإنسان الذي يجوس خلال الديار، مستهدفًا أصوات الحريةِ والانعتاق، والتي في صدارتها أصوات الشعراء؛ لذلك كانوا هم المعنيِّين بالنداء. كما تضمّنَ بيانُ النداء إشارةً إلى صوت القصيدة، الذي أَضْفَتْهُ عليها الأنْسَنَةُ الشعرية، والذي يستند إليه الشعراء، مع مكاشفةٍ لحقيقةِ هذا الصوت، الذي ليس في مقدوره أن يُؤْنِسَ الخائفين.

   تصل مناداةُ الشاعر العربي المعاصر المحال عليه برمزية (مالك بن الريب) إلى ما يشبه وصيَّةً، تضمّنتْ حثَّهُ على الإحساسِ بأفضليةِ استوائهِ على النعشِ من ترجُّلهِ عنه؛ لما في موت الغيومِ من حياةٍ لها في ذهنية الزمن والحياة. ثم يطل الشعرُ مُؤَنسَنًا في تداعيهِ مع شحوبِ اللحظة القاتمة؛ تماهيًا منه مع محيطهِ المرتجفِ اللائذِ بالنوم (الشارع/النهر)، ومثلَ محيطه ـ هذا ـ تجاوز الشعرُ بالنومِ ارتجافَه.

زلزالٌ في جسد القصيدة

    حينما ضربَ اليمنَ زلزالٌ ـ استقرّتْ قوَّتُهُ في محافظة ذمار عام 1982م، فكان واحدًا من أسوأ عشرة زلازل ضربت المنطقة العربية خلال القرن العشرين ـ تعاطى المقالحُ شعريّا في نصّه (قراءة في أوراق الجسد العائد من الموت)، مع مأساة الحدث:

“صوتُ الإمام يتصَدَّعُ، جدارُ القبلةِ يتصدَّعُ،

تتوارى آية الكرسي عن الأنظارِ،

يسقطُ السقفُ

ويسجدُ المصلُّون قبل أداءِ الرُّكوعِ،

وتذهبُ بيوتُ المدينةِ لأداءِ صلاةِ الموت”. جـ2/ ص: (348).

  ومع تَسارُدِ انهيارِ الحياة ـ هذا ـ تداعت القصيدة، بعد أن تَأَنْسَنَتْ، وصارت واحدًا من أفراد المجتمع الإنساني المتمزِّق بكارثة الطبيعة:

“يتشقَّقُ وجهُ القصيدةِ

وجهُ الظهيرةِ

يخرجُ نعشٌ،

وتسترجعُ الأرض أشياءَها

وحجارتَها،

يركضُ الشجرُ القرويُّ

وتأخُذُهُ نوبةٌ من نشيج،…”. جـ2/ ص: (352).

  لقد تشاركت القصيدةُ ـ في هذا النص ـ مع إنسان الوطن مأساتَهُ؛ فنالتْ منها آثارُ الحدثِ الماثلةُ في تشقُّقاتِ الأرضِ والمباني، وكان لذلك انعكاسُهُ الشعري على إنسانيةِ القصيدة؛ من خلال امتدادِ هذا الأثر إلى وجهها الذي تشقّقَ في استيعابه لتداعيات الحدث المأساوي، مع اكتنازِ هذا الاستيعابِ إحساسًا إنسانيًّا، هو الشعور بألم الجروح في وجه القصيدة. ثم تنمو أَنْسَنَةُ القصيدةِ نحو الغَرَقِ كحالٍ إنسانية:

“القصائدُ غرقى،

وطافيةٌ فوقَ رملِ الجنوبِ

الشعاراتُ،

طافيةٌ في نهارِ الشّمالِ المواسمُ

يا جبلَ (الشَّرْقِ)

كيفَ حملناكَ للقبرِ؟

كيفَ حملْنا إليهِ نوافذَ معشوقةِ القلبِ؟”. جـ2/ ص: (353).

لقد غرقت القصائدُ ـ مثل غيرها من الشعارات ـ في الرمل، لكنها لم تطفُ، فأحالت بذلك على فكرة خلودها المستعصي على عوامل الفناء. تمتد ـ بعد ذلك ـ الأنسنةُ نسقًا متجانسًا؛ لتشملَ (الجبل) بما تَؤُوْلُ إليهِ حياةُ الإنسانِ (القبر)، الجبل الذي حُمِلتْ إليه نوافذُ معشوقةِ القلب بعد أن حُقِنتْ بالخصائص الإنسانية: حياةً، وموتًا.

أنسنة الشعر والقصيدة

 لقد كان التشخيص تقنية مهمة بين تقنيات الصورة الاستعارية في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح؛ فتجلت فيها أنسنة الشعر، ضمن سياقات حافلة بتشخيص الشعر والقصيدة، الذي مثّلَ فضاءً مهمًّا، من فضاءاتِ أنْسَنَةِ غير الإنسان في هذه التجربة؛ إذ أحالَ الشاعر بها على ما يحظى به الشعرُ ـ عنده ـ من مكانةٍ أثيرة، وعلى حيويةِ علاقتهِ به، وتعويلهِ عليه في تجاوزِ إحباطاتِ الواقع وانكساراته.

وقد استوعبتْ تقنيةُ الأَنْسَنَةِ ـ في تجربة المقالح ـ هذا الفنَّ الإبداعي: مفهومًا، ومكوناتٍ تفصيلية؛ فَوَرَدَ الشعرُ ـ بمفهومه الفني ـ إنسانًا في عددٍ من الصورِ الشعرية، وكانت القصيدةُ إنسانًا في صورٍ أخرى، ومثلها الكلماتُ التي ظهرتْ ذات خصائص إنسانية يغلبُ عليها التجانسُ مع كينونةِ الأنوثةِ البشريةِ بكاءً وعاطفةً، وفي صورٍ أخرى جاءت الحروفُ أشخاصًا لهم قدراتُهم الإنسانيةُ على التعاطي مع مجرياتِ الحياة.

كما كان كائنُ (القصيدة) ـ من بين كائناتِ الشعر ومكوناته ـ هو الأكثر حظوةً بالسماتِ الإنسانية في تجربة المقالح الشعرية، وفي ذلك إحالةٌ على الحميمةِ المباشرةِ بين هذا الكائن وبين الشاعر.

هوامش
  1. عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، جـ2/ ص: (416). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *