الأغنية والمرددات الشعبية في الشعر اليمني المعاصر

الأغنية والمرددات الشعبية في الشعر اليمني المعاصر

الأغنية والمرددات الشعبية في الشعر اليمني المعاصر

د. عبده منصور المحمودي

  يُعدُّ التوظيف الرمزي ــ لإحالات الأغنية العامية والمرددات الشعبية ــ واحدًا من تجليّات التجديد والحداثة، في الشعرية العربية المعاصرة. وفي سياق ذلك ــ وامتدادًا إلى هذه الطفرة التحديثية ــ يأتي التعاطي مع هذا النسق، ضمن فضاءات الرمز الشعبي في الشعر اليمني المعاصر.

[1ــ1]: الأغنية العامية الشعبية        

   من مظاهر تخصيب الشعر اليمني المعاصر، برمزية الأغنية العاميّة الشعبية، استئناس الشاعر لطفي جعفر أمان، بهذا النوع من التراث الثقافي الشعبي، في قصيدته “صفيّة الصنعانيّة”. تلك القصيدة، التي تحكي معاناة شخصية اجتماعية متخيلة، ليس لها وجود فعلي بالاسم نفسه والصفات نفسها. ولكنها تجسيدٌ لكثيرٍ من الشخصيات، التي تتّسمُ بهذه الصفات، في واقع الحياة.

[1ــ2]: “صفية” من التسوّل إلى الابتذال

 تعيش “صفية”، وحيدة؛ إذ غاب عنها زوجها، فبحثت عنه، وأُخْبرت أنه في عدن. تحمّلت مشاق السفر إلى هناك؛ باحثةً عنه. وصلت إلى عدن، لكنها لم تجد لقمة العيش، فاضطرت إلى التسول. بيد أن التسول لم يُجد معها، فاضطرت إلى مهنة الغناء والرقص في الحانات، حتى سقطت في البغاء:

“راحتْ تجرُّ جمالَها الوضَّاءَ في أوج الشبابْ

وهناك في كَنَفِ “المقاهي” واصطخابِ العابثينْ

الظامئين إلى الدم المبذولِ في شبقٍ لعينْ

راحتْ تغنِّي في افتتانْ

وتهزُّ أردافًا حسان

“أخضَرْ .. جهيشْ .. مليانْ”

……………..

.. ويجوعُ ذئبُ الليل

يبحثُ في دماها عن سُعارْ

ويقودُها الإغراءُ ..    

يطفحُ بالحرائرِ والنُّضار

فتطيح جسمًا عاريًا عجنتْه بالآثام نارْ”(1).

[1ــ3]: الأغنية وسياقها

يستحضر هذا المقطع الشعريّ الأغنية الشعبية: “أخضر جهيش مليان”(2). تلك الأغنية اليمنية المشْتهرة. التي كتب كلماتها الشاعر أحمد الجابري، وقام بتلحينها وغنائها الفنان: محمد مرشد ناجي. يقول مطلع الأغنية:

أخْضَرْ جَهِيْشْ مَلْيانْ حَلَا عُدَيْني *** بكَّرْ غَبَشْ، شُفْتُهْ الصَّباحْ بِعَيْني

  يقوم السياق الجماليّ، في هذه الأغنيّة، على المزج بين اكتمال النضج في أنوثة المرأة واكتمال النضج في ثمار النبات؛ ذلك لأن “الجمال الأنثوي في أغنياتنا الشعبية يصدر عن ذوق حضاري، وعن ملكة فنية تغوص من البهاء إلى الأبهى، وتمزج بدائع الطبيعة بقسمات الحسن البشري … ولعل هذا المزج بين الحسن الكوني والحسن الإنساني من تأثير المحيط الريفي الذي يبدع الجمال ويبدع تصوره وتصويره، لأن الريف عالم البساطة ورمز النقاء في كل صوره وفي كل انتاجه المادي والفني”(3).

[1ــ4]: الرمزية إلى واقعٍ بائس

يتجلى في هذا التمازج التوظيفُ الفني لإيحاءات هذه الأغنية الشعبية. وما تضمّنَتْه ــ هذه الإيحاءات ــ من إحالةٍ رمزية على واقعٍ، تتسع فيه الهوة بين الفقراء والأغنياء. كما يتّسع فيه اختلال القيم الإنسانية، الذي يظهر في معاملة الأغنياء للفقراء بتعالٍ، فيمتهنون إنسانيتهم، ويعبثون بكرامتهم. حتى وصل هذا التعالي، إلى الالتذاذ بالأنثى الفقيرة، وبمفاتنها المشتهاة. وهو ما اضطلعت بالصياغة التعبيرية عنه هذه الرمزية، التي أحالت على الأنثى بالمحصول اللذيذ الشهيّ. وكأن المرأة في هذه الرمزية الشعرية “جهيشٌ”، في أوج نضجه ولذته، يقدم لذئاب البشر. والجهيش”، في هذه الصياغة الشعرية، يحمل الدلالة على ثمر الزروع، بعد وصولها إلى مرحلة النضج والاكتمال.

   ويكمن في هذه الرمزية نسقٌ من الإيحاء بتشييئ المجتمع للإنسان، وانعدام الشفقة والرحمة فيه. بما في ذلك، الإيحاء بإفراغ سطوة المجتمع المادية كُلَّ جميلٍ من معناه. وبذلك كان توظيف الشاعر لهذه الأغنية الغزلية ــ والمقطع الموحي فيها بالجمال واللذة ــ توظيفًا مغايرًا لهذا الإيحاء؛ إذ حوَّل دلالته، من دلالةٍ تفيض بالجمال، إلى دلالة تفيض بالقبح اتّساقًا مع قبح الواقع المادي البغيض.

    كما أوحى هذا التوظيف الرمزي بألم الحرمان الممتلئ بالنضج الأنثوي، الذي كان غياب الزوج وراء تناميه مدفوعًا بالفقر؛ حتى وصل بصاحبته إلى عالمَ الرذيلة.

[1ــ5]: رؤية رومانسية

   الشاعر ــ هنا ــ متأثر بالنزعة الرومانسية، التي يرى الشعراء فيها أن البغايا ضحايا الفقر والمجتمع الذي لا يرحم. وقد كان من أبرز مَنْ عالج هذا الموضوع ــ من شعراء الرومانسية الغربية ــ الشاعر الفرنسي (موسيه)([iv]4)، في قصيدة له بعنوان “رولا”، التي رثا فيها حالَ فتاةٍ زلّت بسبب الفقر.

   كذلك، كان لهذه النزعة الرومانسية صداها في الشعر العربي المعاصر. من مثل ما نراه من أثرٍ لقصيدة (موسيه) ــ هذه ــ عند الشاعر مطران، في قصيدته “الجنين الشهيد”. وكذلك، ما نجده من صدىً لهذه النزعة، عند الشاعر صالح جودت، في قصيدته “الهيكل المستباح”. وقصيدة الشاعر محمود حسن إسماعي “دمعة”(5).

[2ــ1]: المرددات الشعبية في الشعر اليمني المعاصر

    تمثل المرددات الشعبية واحدًا من الأبعاد الجمالية المهمّة، التي تتجلّى في توظيف الشعرية اليمنية المعاصرة للرمزية الشعبية في أنساقها الجمالية والتعبيرية.

  ومن تلك الأنساق ــ التعبيرية والجمالية ــ ما يظهر من توظيفٍ لهذا النسق ــ من الثقافة الشعبية في اليمن ــ في قول الشاعر شوقي شفيق:

“أمي تغسل الأثوابَ للجيران والرقعَ القديمةَ في صباحِ العيدروسِ، وإخوتي جوعى.

صباحٌ كلُّه قلقٌ على صحنِ الغدا، وأنا، على ريقي”(6).

في هذه الدفقة الشعرية استيحاءٌ للمرددة الشعبية: “على ريقي”، التي يرددها قائلها؛ ليؤكد عدم تناوله طعام الإفطار. بل والتأكيد على عدم تذَوَّقه أيّ شيءٍ لا طعامًا، ولا شرابًا حتى لحظة تفوّهه بهذه المرددة.

وقد استلهم الشاعر ــ هنا ــ هذه المرددة الشعبية رمزًا للمعاناة. وذلك، ليجسّد ــ من خلال إيحاءاتها ــ المدى الذي وصل إليه البؤس الملبّد بأحزان الفقراء. والمدى الذي وصل إليه اتٍّساع الهوّة بين الفقراء والأغنياء. تلك الهوّة التي تعمل السلبية الاجتماعية على تعزيزها، وتعزيز ما يترتب عليها من اضطهاد قاسٍ للذات الإنسانية، في مشاعر البائسين المطحونين بالفاقة والحاجة.

    وقد تساوقت مكونات الثراء الإيحائي ــ في رمزية الاستدعاء لهذه المرددة الشعبية ــ بتَسَنُّمِها خاتمةَ سياقٍ شعريّ، كان أكثر ثراءً بإيحاءاتِ مضامينه. تلك الإيحاءات، التي تحيلُ على استفحال الشعور الحاد بالحاجة والجوع. كما تحيل على تلك الحال المعذّبة بقلقٍ موحٍ بالمشقة، التي تعانيها الأسر الفقيرة، وهي تسعى إلى توفير أبسط متطلبات الحياة. لا سيما ذاك القلق، الذي يكون أكثر فتْكًا بالأم من بين أفراد الأسرة، كما يكون ــ في الآن نفسه ــ دافعًا وحثًّا مباشرًا على الكدّ والعمل.

[2ــ2]: إشكالية الفقر والثراء

      تبرز مشقة الحصول على أبسط مقومات الحياة ــ في مضامين هذا السياق الرمزي ــ حينما تعمل الأم الفقيرة في منازل الأثرياء؛ لعلّها تظفر بما يسدّ جوع أسرتها. بما لهذا العمل ــ في منازل الأثرياء ــ من أحوال التعالي، التي توغل فيها قصدية الأثرياء ونسائهم، في ممارسة تعاليهم على طبقة الفقراء، حينما يعمل أفراد هذه الفئة الاجتماعية لدى هؤلاء المتضخمين في ذواتهم الاستعلائية.

  تتكفّل هذه المرأة ــ في سياق القصيدة وفي السياق الواقعي ــ بالعمل في منازل الأثرياء، من مثل تكفّلها بغسل ثيابهم و”(الرُّقع القديمة). بما في إدراج هذا النوع من الثياب المتقادمة، من إيحاءٍ دلاليٍّ، ذي ارتباطٍ محوريٍّ، بتلك المشاعر المتعالية.

  كما يجسّد استهلال العمل في الصباح التأزُّمَ المتتابع بفعل حدة الجوع. تلك الحدّة، التي تشتد ضراوتها، بسطوة الزمن المتسارع، الذي يأخذ أسرةً معدمةً، لم تظفر بوجبة إفطار، نحو موعدِ الوجبة الثانية (الغداء).


  1. لطفي جعفر أمان، “الأعمال الشعرية الكاملة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـ 2004، ص: (162،161). ↩︎
  2. ينظر: دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة والأمن، “موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين”، مطابع التوجيه المعنوي، ط2، صنعاء، 2007، جـ1/ ص: (122). ↩︎
  3. عبد الله البردوني، “فنون الأدب الشعبي في اليمن”، دار الفكر، ط3، دمشق، 1995، ص: (269،268).    ↩︎
  4. موسيه، ألْفْرد دو Alfred de Musset (1810ـــ1857): شاعر وكاتب فرنسي. يعتبر أحد أبرز وجوه الحركة الرومانتيكية الفرنسية. دوَّن سيرة حياته في كتاب “اعتراف فتىً من فتيان العصر” عام (1836). وقد تحدّث فيه عن حياته مع جورج ساندSand، وكشف عن سلوك جيله ومتاعبه. من أشهر قصائده الغنائية “ليلة أكتوبر” (عام1837). ↩︎
  5. أحمد قاسم أسحم، “الأدب المقارن”. مكتبة أبي حامد، ط2، تعز، 2008م، ص: (203). ↩︎
  6. شوقي شفيق، “شرك شاهق”. الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 1999م، ص: (15). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *