عذارى الينابيع في رواية الكاتبة البحرينية ليلى المطوع المنسيّون بين ماءين

عذارى الينابيع في رواية الكاتبة البحرينية ليلى المطوع “المنسيون بين ماءين”

د. عبده منصور المحمودي

   من تيمةِ “الماء”، تناسلت الخطوط السرديّة، في رواية الكاتبة البحرينيّة ليلى المطوع(1)، “المنسيّون بين ماءين”(2).

   وقد قامت البُنية السردية ــ في هذا العمل ــ على تأطير حيّز المكان السردي ــ لأحداثه ــ بجغرافيا مملكة “البحرين”. ومثل ذلك، تأطير حيّز الزمن السرديّ، بتاريخ هذا البلد. بما هو عليه، من خصوصيةٍ، في اتّصال حاضرهِ بماضيه. من خلال تسريدِ أحداثٍ، تنتمي إلى حقبٍ تاريخيةٍ، تمتدّ إلى ما قبل 4000 سنة، قبل الميلاد(3).

  انعكس هذا التنوع التاريخي، في بُنية الشخصية الروائيّة؛ إذ تنوّعت شخصياتُ الرواية بتعدد العصور التاريخية. كما تنوعت بتنوع أحداثها، التي نُسجت بها سيرة الماء المتقادمة، في منطقة الخليج، فانعكست بُنىً سردية في الرواية الخليجية.

    ولعل شخصية “ناديا”، هي أبرز شخصيات العمل. بما هي عليه من محوريةٍ فاعلةٍ، في الاضطلاع بتسريد الأحداث. تارةً على لسانها بضمير المتكلم، وتارة أخرى بضمير الغائب. مستأنِسَةً ــ في ذلك ــ بما اعتمدت عليه، من المرجعيات السردية. لا سيما مرجعيتا “الواقعات الست”، و”أدبيات أهل الجزر”.

    وتجانُسًا مع تنوع العصور التاريخية، تنوعت اللغة السردية. لذلك؛ فقد جاءت، على صيغٍ متناسبة ــ في مستواها المعجمي والدلالي ــ مع كل حقبةٍ زمنيةٍ، تعاطت معها سردية الحكاية.

   ومثل ذلك، هي سمة التنوع في السياقات السردية. التي تنوعت، بين سياقات: أسطورية، وواقعية، وسياقات مختلطة، تشكّلت من مزيجٍ خياليّ وواقعي، أفضت إليها نوباتُ الهذيان، التي كانت تُصاب بها “ناديا” بين الحين والآخر.

استرضاء مصادر الماء

  لطقوس استرضاء مصادر الماء جذورها التاريخية، في فضاءٍ من عمومية البدايات الأولى في التاريخ الإنساني. من ذلك، تلك العادة المصرية السنوية القديمة، المتمثّلة في استرضاء نهر “النيل”. حينما كان يتمُّ البحثُ عن فتاةٍ جميلة، تكون بِكْرَ أبويْها. وبعد التراضي الاجتماعي مع أسرتها، يتم تزيينها، بأجمل الحُلى والثياب. ثم يتمّ إلقاؤها في النهر(4).

   ولهذه الأسطورة جذورها وامتدادها، في تاريخ المجتمعات العربية. من مثل ما يتجلّى من مركزيةٍ للماء وطقوسه، في تاريخ مملكة “البحرين” الثقافي والاجتماعي. وهو ما استندت إليه الكاتبة ليلى المطوع، في روايتها ــ هذه ــ التي شكّلتْ فيها هذه الأسطورة ــ أسطورة استرضاء مصادر الماء ــ نسقًا سرديًّا محوريَّا، تداخل مع أنساق أخرى، أسطورية وغير أسطورية. كما تجلّى في أكثرِ من مساحةٍ سردية، على صورتين اختلفتا باختلافِ صفة الماء في كلٍّ منهما. إحداهما كان ماؤها عذبًا (مياه الينابيع)، بينما كان الماء في الثانية ماءً مالحًا (مياه البحر).

عذارى الينابيع                        

  يبدأ تسريد هذا النسق ــ في رواية “المنسيون بين ماءين” ــ من استشعار الناس تضاؤل ماء العيون، وخوفهم من جفافٍ قادم. في تلك الجزيرة، التي كان من أهلها، تلك العائلة. التي تتكوّن من: الأب “صفوان”، والأم “سليمة”، وابنتهما “أميمة”.

   مثل غيرها من عائلات الجزيرة، قلقت عائلة “صفوان” من نضوب الماء. فاشتركت مع أهل الجزيرة، في طقوسهم، التي يحاولون ــ من خلالها ــ الحيلولة دون حدوث ما يخشون حدوثه.

  في خضم هذه الطقوس، كان “صفوان” يتلفت يمينًا وشمالًا، ثم “يعاود النظر إلى الأمام، إلى الكاهنات الراقصات والمنشدات قرب نبع ماء آخذ في الزوال، يتوسّط حفرًا دائريّةً حُفِرت من حوله، اثنتي عشرة حفرة. يدير وجهه ناظرًا إلى الرجال الواقفين قُرْبه … أمامهم بناتهم الأبكار، الأحبّ إلى قلوبهم، من لم تنزف أرحامهنّ بعد … يضع يديه على كتفي ابنته، يدلّكهما كما اعتاد أن يفعل”(5). ثم يجد نفسه ــ مثل كثيرين غيره ــ مُلزَمًا بالتخلّي عن ابنته؛ إذ “جرت الكاهنة باتجاهها، خاطفةً إيّاها مُهرولةً صوب الحفرة، مُلقيةً الطفلة في أحشائها … هنا المثوى الأخير لطفلته هي واثنتي عشرة فتاة”(6).

  وفي سياق تسريد هذا المشهد الأسطوري، تتنامى الحبكة السردية الخاصة بالنسق نفسه؛ لتصل إلى عاقبة التضحية بالفتيات. تلك العاقبة، التي اتّسقت مع المعتقد السائد؛ إذ “صاحت الكاهنة: “البشارة، البشارة، إنّه الماء!”. ولكن لم يستبشروا حتّى سمعوا خريره وهو ينساب. تدفّق الماء، فهلّل الناس فَرحًا … [و] اقتربت الأمهات من النبع ليشربن من النبع، لتتعرّف كلّ واحدة منهنّ طعمَ ابنتها الأضحية ورائحتها”(7). ثمّ “أُطلق على النبع اسم “عذارى”، لذكرى اللاتي غبن”(8)؛ تخليدًا لذكرى الفتيات، اللواتي قُدّمن لاسترضاء النبع.

عينُ الماء امرأة      

   إن كانت العلاقة بين المرأة والنبع ــ في السياق السابق ــ قد أحالت على محورية المرأة في استدامة ماء الينابيع. فإنها في سياقاتٍ أخرى، قد أحالت على محوريّةٍ أبعد من ذلك. حينما أعادت هوية ماء العيون إلى المرأة؛ إذ “كانت الجزيرة تحوي نساءً دُفنَّ تحت الرمال، وتحوّلنَ إلى عيون”(9).

  ومثل ذلك، هي المحورية الكامنة، في حديث إحدى شخصيات الرواية “يعقوب”، عن نبعِ ماءٍ عذْب. كانت قد غرقت فيه فتاةٌ، فانبجس ماؤه: “هناك نبع ماء عذب في جزيرة صغيرة في الغرب، تراها ولكأنها ظلٌّ في البحر، يتزوّدون منه، شربْتُ منه فلم أجد أرقَّ منه على البدن. يقال: إنّ في هذا الموضع غرقت فتاة صغيرة، فتفجّر الماء الصالح للشرب”(10).

عين الماء أنثى متكاملة

  يتنامى تسريد هذا النسق الأسطوري، فينتقل بالعلاقة بين المرأة وعين الماء إلى مستوى أعمق، من حيث التماهي بينهما (المرأة/ وعين الماء)، واتحادهما كائنًا واحدًا. ذلك، فيما اكتسبتْه عينُ الماء من صفات المرأة، وأحوالها، وعاطفتها، وأنوثتها. فصارت عين الماء أنثى: تعشق، وتتعاطى الحب مع عاشقها.

  هذه الصفات الأنثوية، هي ما عملت الرواية على إضاءتها. في سياقِ تسريدٍ لحكاية إحدى عيون الماء القديمة. تلك العين، التي كان يُطلق عليها اسم “حوز”. التي احتار أحد الشباب في التفريق بين أن تكون عينَ ماءٍ، أو أن تكون امرأة: “كان مدهوشًا من أن المرأة المكتملة الأنوثة والعارية أمام عينيه ما هي إلّا عين تسقي أرضًا توارثتها عائلته منذ أجيال”(11).

  لقد استوقفته عين الماء ــ هذه ــ بما لاحظه عليها من صفات الأنوثة، بعد أن استوت ــ بهذه الصفات ــ امرأةً متكاملة. من تلك الصفات الأنثوية فيها، ما سمعه من غنائها. اتّجه إليها، لكنها “سمعت صوته بين الحشائش، فجرت عابرةً أشجار الترنج، وتلاشت فجأة حين وصلت إلى الماء! هل غاصت داخل البركة؟ غسل وجهه وبحث عنها، حاول رؤية آثارها في التراب، ولكن لا أثر لأقدام عبرت غير قدميه”(12).

   ثم تنامت العلاقة بينهما (الشاب/ وعين الماء “حوز”)، حتى وجد نفسه متعاطيًا معها كامرأة كاملة، امتزج بها، واستمتع بأنوثتها. غارت يوم زفافه من عروسه، ففاضت إلى باب بيته. و”حين ولدت زوجته وصرخ الطفل أول صرخة، أقسمت النساء على سماعهن صوت صرخة أتت من بين الأشجار، صرخة متألمة”(13).

أمومةُ عين الماء

    استمر تسريدُ السياقات، في تخصيبه لنسق استرضاء عيون الماء، بما توارثته الثقافةُ الشعبية، من مروياتٍ أضفت الحياة الإنسانية على مصادر الماء. ذلك، من خلال تسريد الرواية، لتداعياتِ عينِ الماء مع أنوثتها الأسطورية، ومحاولتها إشباع رغبتها في الأمومة؛ لأن “عيون الماء في الجزيرة نساء رغبن بالأمومة، فأدركن رغباتهنّ بشكل متأخّر”(14).

   ولأن عين الماء عاجزة عن إشباع تلك الرغبة، إلّا بما يجود به عليها بعض الآباء من فلذات أكبادهم. فإنها ــ حينما لا يتيَسّر لها ذلك ــ تضطر إلى خطْف ما تستطيع خطْفه من الأطفال. وهو الأمر، الذي أقلق عاشق “عين حوز” بعد ميلاد طفله. لذلك؛ حرص على تحذير أمّه، من نزوله إلى عين الماء: “لا تخلينه ينزل العين، لا تخلينه”(15). لكن لم يُجْدِ تحذيره، وعلى حين غفلةٍ منهما، اتجه الطفل إلى العين، ولم يعد منها.

  وقد يأتي خطفُ عيونِ الماء للأطفال عقابًا إلهيًّا، يُعاقب به آباؤهم على جُرْمٍ اقترفوه. من ذلك، ما ورد في سياقٍ كانت تهذي فيه “ناديا”، ثم تصغي إلى امرأة هُلاميّة. كانت تحدّثُها بحزن، عن خطف إحدى عيون الماء لأطفالها: “انفجرت العين وخطفت الأطفال عقابًا من الله، انشقّت وبلعتهم”(16).

  ومثل ذلك، ما حدث في مشهدٍ حديث، اتصل من خلاله ماضي المكان بحاضره، الذي تعيش فيه “ناديا”. ذاك المشهد، الذي تضمّن تسريدًا لحادثةٍ، انفجرتْ فيها عيون الماء. في حديقة أطفالٍ، تم إنشاؤها في مكانٍ كان عامرًا بعيون الماء، قبل ردْمه. وعقابًا على ردم عيون الماء، انفجرت تلك العيون، فابتلعت عددًا من أطفال الحديقة: “انشقت الأرض وأخذت من كان عليها. الأطفال فقط. أمّا الكبار فكانوا منتفخين، كلٌّ منهم يزن أضعاف وزنه”(17).

أطفال مياه البحر

  كشف التسريد الأسطوري ــ في هذا العمل ــ عن سياقِ استرضاءِ الماء المالح بالأطفال؛ فتضمّن إشاراتٍ سردية إلى أطفال مياه البحر. مثلها كمثل تلك السياقات السردية، التي تضمّنت الإحالة على أطفال الينابيع. وبالتنوع نفسه، بين السياقين  (الهِبَة/ والخطْف). الأول: سياق تقديم الأطفال؛ هِبَةً للبحر. والثاني: سياقُ اضطرارِ البحر لخطفهم؛ عقابًا لآبائهم.

  من السياق الأول، تسريد حادثة إغراق “مارا” لأطفالها الثلاثة. فقد أخذت أكبرهم إلى البحر “كانت تهمس في داخلها ويدها تضغط على رأسه: “أهبه لك، فاقبله” استسلم لاعتقاده بأنها تطهره”(18)، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة غريقًا. ثم استدرجت طفليها الصغيرين، إلى عمق البحر، وتركتْهم هناك يغرقان مثل أخيهم. ومثل ذلك، هو الأمر فيما أقدمت عليه الجدة “نجوى”، من إهدائها حفيدتها “ناديا” ــ أيّام طفولتها ــ إلى البحر: “نجوى منحتْ البحر إيّاكِ!”(19).

   ومن السياق الثاني، ابتلاع البحر لابن “شنانة”؛ عقابًا على جرمٍ اقترفتْه أمه. وقد عاشت طيلة حياتها تبكي طفلها، تهذي باسمه، وتخاطب البحر أن يعيده إليها: “أيها الغدّار، لِمَ أخذته وتركته من دون أمّ؟! أعده”(20).

   ومثل ذلك، هي مشاهد العقاب، التي أسفرت عن جموع من النسوة، اللواتي كانت ترتفع أصواتهن، وهنّ “ينحن على أطفالهن، [في] جزيرة مقدّسة يموت فيها الأطفال”(21)

  1. ليلى المطوّع: روائيّة، وصحافيّة، ونسويّة بحرينيّة. من مواليد عام 1986، في منطقة “المحرق” ــ مملكة “البحرين”. تعلّمت حبّ القراءة من والدها، الذي ترك بعد رحيله مكتبةً، تضمُّ روائع “الأدب العالمي”. كما أسهمت والدتُها، في تعزيز حبِّها للقراءة، من خلال شرائها للمجلات والكُتب.
      اشتُهرت بدفاعها عن حقوق المرأة، فيما تكتبه من نصوصٍ، منها ما تمت ترجمته إلى أكثر من لغة. كما اشتُهرت بمواجهاتها الفكرية مع نشطاء الطوائف الأيديولوجية. وأنشطتها، التي تسعى فيها إلى تغيير بعض التقاليد الاجتماعية.
       سافرت في مطلع العشرينيّات من عمرها ــ بمفردها ــ إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. وهناك، اختمرت في ذهنها فكرةُ كتابةِ الرواية، متأثّرة بموقفٍ عاطفيّ، تعرضّت له إحدى صديقاتها، التي وقعت في حبِّ رجلٍ سيءٍ، غير جدير بها. فانتقلت ليلى بمعاناة صديقتها ــ هذه ــ إلى الفضاء السرديّ؛ وبدأت في كتابة تلك المعاناة روايةً، استمرت في تدوينها من عام 2008 إلى عام 2012، العام الذي صدرت فيه روايتها الأولى ــ تلك ــ بعنوان: “قلبي ليس للبيع”. أمّا ثاني روايتها، فهي “المنسيون بين ماءين”؛ التي صدرت طبعتها الثانية عام 2024.
      تناول الكاتب السعودي فهد عريشي جزءًا من حياة ليلى المطوع، في كتابه “أحلام لا تموت”، الذي صدر عام 2015. وسبق أن شاركت الكاتبة، في “ورشة الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”” عام 2016. واختارتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو”، عام 2019، في كتاب “كم رئة للساحل”، الذي صدر عام 2020. وحلّت ضيفةً على “معرض الشارقة الدوليّ للكتاب”، عام 2020. واختيرت عام 2021 للمشاركة في “مهرجان ليون للأدب”. ↩︎
  2. ليلى المطوّع، “المنسيين بين ماءين”. ط2، دار رشم للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، 2024م. ↩︎
  3. نفسه، ص170. ↩︎
  4. ابن عبد الحكم، “فتوح مصر والمغرب”. تحقيق: علي محمد عمر. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2004، ص176. ↩︎
  5. ليلى المطوع، “المنسيون بين ماءين”. المصدر السابق، ص12. ↩︎
  6. نفسه، ص13.       ↩︎
  7. نفسه، ص16. ↩︎
  8.  نفسه. ↩︎
  9. نفسه، ص58. ↩︎
  10. نفسه، ص244. ↩︎
  11. نفسه، ص157. ↩︎
  12. نفسه، ص158. ↩︎
  13. نفسه، ص164.     ↩︎
  14. نفسه، ص58. ↩︎
  15. نفسه، ص165. ↩︎
  16. .نفسه، ص205. ↩︎
  17. نفسه، ص152. ↩︎
  18. نفسه، ص240. ↩︎
  19. نفسه، ص305.     ↩︎
  20. نفسه، ص369. ↩︎
  21. نفسه، ص233. ↩︎

فكرتين عن“عذارى الينابيع في رواية الكاتبة البحرينية ليلى المطوع المنسيّون بين ماءين”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *