الرواية وفلسفة الذاكرة السردية

الرواية وفلسفة الذاكرة السردية: مقاربة نقدية في رواية “اليقطينة”

الرواية وفلسفةُ الذاكرة السردية: مقاربة نقدية في رواية “اليقطينة”

د. عبده منصور المحمودي

    فلسفة الذاكرة السردية واحدٌ من أهم المحاور الرئيسة، في رواية الكاتب اليمني الدكتور محمد مسعد “اليقطينة”(1). وإذا كانت الذاكرة منجمًا تستمد منه الرواية ــ أية رواية ــ مادتها بشكل أو بآخر، فإن رواية “اليقطينة”، قد قدمت رؤية فيما يمكن أن تكون عليه آلية التعاطي مع أبعاد الذاكرة. كما ألقت الضوء على محورية الذاكرة، في حياة الفرد، بمفهومها العام ووظيفتها الأرشيفية الحيوية.

  وبذلك تبلورت سمةٌ سردية خاصة بهذه الرواية، تجسّدتْ فيما عملت على تسريده من علاقة، ليس بين الرواية والذاكرة، وإنما بين الرواية وفلسفة الذاكرة. بما هي عليه الفلسفة من نسقٍ فاعلٍ في تسريد الحكاية وأبعادها.

   وقد قام نسيج هذا العمل، على سياقاتٍ متعددةٍ من تجارب الحياة الاجتماعية والعاطفية والنضالية والثورية والسياسية. تلك التجارب التي خاضتها شخصيات العمل. لا سيما الشخصيتان الرئيستان: “علي”، وأبوه “سعيد”، اللتان تشاركتا كثيرًا من الخصائص والصفات الجوهرية، التي تخلّقت فيهما من أحداثٍ ومواقف متشابهةٍ عاشتها الشخصيتان.

فلسفة الاسترجاع

   تمثل التقنية السردية (الاستذكار/ الاسترجاع) تقنية محورية، في سرد خيوط الحكاية؛ حيث تذكر السارد جلسات الحديث التي كانت تجمعه بأبيه وأمه وجدته. من تلك الجلسات، ما كانت تقوم فيها الأم بدور الحاكي. فيما الجدة تحاول مساعدتها ومساعدة الأب على استقصاء الذاكرة؛ علّها تثري مضامينها، ص: (250).

   يتذكر الأب تجارب الحياة التي صقلت شخصيته، يكتبها؛ فيؤلف منها مذكراته الزاخرة بتفاصيل متنوعةٍ بين: شخصية، واجتماعية، وسياسية. ويتذكر “علي” قراءته لتلك المذكرات مع أخته سميرة في 1982، ص: (291). كما يتذكر إعارته هذه المذكرات لحبيبته الأولى “سهى”. كذلك هو تذكُّرُه الجلسات التي كان فيها يتناوب على قراءة المذكرات مع حبيبته الثانية “سمية”. فقد كانت “سمية” تقرأ نفسها في أمه، وتقرأه في أبيه. وكان هو الآخر يقرأ “سمية” في أمه، ويقرأ نفسه في أبيه، ص: (102).

   ويتذكر رسالة عتابٍ من حبيبته “سهى”، على انشغاله عنها بابنة عمه. تلك الرسالة التي أفرغت فيها ما تقادم من ذكريات حبهما، ص: (135). كما يتذكر رسالة “سمية”، التي بعثتها إليه من غربتها في المهجر. وفيها سردت ذكرياتها والمواقف التي مرت بها منذ افتراقهما، ص: (377 ـ402).

   وفي التذكر ذاته ــ وفلسفة الذاكرة السردية التي تستند إليه ــ استدعى السارد صورًا من التاريخ، مؤكدًا فيها على محورية الذاكرة. من مثل قوله: “الذاكرة هي سيدة الموقف في هذه الجلسة ولا أحد سواها … هذه القلعة [صيرة] التي تعلو رأسها جمجمة تمتلئ بذاكرة هذه الأمة العظيمة”، ص: (61). ذلك، أن “الضجيج لا يمنع الذاكرة من إعادة مشاهد التاريخ الناصعة”، ص: (63).

فلسفة الذاكرة السردية والتدوين

    اقترنت فلسفة الذاكرة السردية، بعمليةٍ تدوين التفاصيل، التي تتداعى في ذاكرة السارد. وقد اضطلع حبر الكاتب/ المؤلف، بهذه العملية. التي كانت مادتها الرئيسة منتمية إلى حيز زمنيٍّ أقدم من زمن التدوين، وهو الزمن الذي ظهر في عددٍ من الإحالات التاريخية، من مثل: “اليوم 18ـ12ـ2011م، وصلت عربة أمي إلى محطتها الأخيرة”، ص: (40). و”أنقل هذا الكلام من المخطوط إلى جهازي لأهيئه للنشر في هذا اليوم 9ـــ1ــ2015″، ص: (188). و”زرته أمس في منزله 15ـ12ـ2013″، ص: (215). و”أكتب هذه الذكرى في 15ــ1ــ2016″، ص: (324). حتى نهاية هذا الزمن التدويني في: “25 ــ 1 ــ 2016″، في ذيل الصفحة التي انتهت بها سردية العمل، ص: (413). مع إشاراتٍ مقتضبة إلى أحداثٍ معاصرةٍ، متزامنة مع عملية التدوين، من مثل هذين التساؤلين: “أين الربيع العربي”، ص: (188)، و”أين الحوار الوطني”، ص: (215)(2)

   لقد ارتدَتْ الذاكرة ـ في هذا العمل ـ ثوبًا من الرؤى التي تفلسف الذاكرة والتذكر، والتي أشارت إليها “سمية” في رسالتها لحبيبها “علي” قبل رحيلها عنه: “لن نلتقي بعد اليوم .. لأني سأرحل لأبحث عنك في مكانٍ آخر وأنا متأكدة أني لن أجدك إلا في تلافيف الذاكرة .. إن أهم ما تعلمناه أنا وأنت من مذكرات عمي (فلسفة الذاكرة)”، ص: (162).

قبلةٌ على جبين الذاكرة

    من تجليات فلسفة الذاكرة السردية ـ هذه ـ ما ظهر في سياق تذكر “سعيد” لقبلة حبيبته “خديجة” على جبينه، بعدما مص سم الأفعى التي لدغت ساعدها، فأصيب بالسمية حد اقترابه من الموت. كان لا بد من إنقاذه، فنُقل إلى دار حبيبته ليتلقى الدواء والرعاية، وهناك، اقتربت منه فتظاهر بالنوم، فقبلته: “اقتربت الأنفاس الحرى من جبيني وإذا بشفتين تهبطان على جبيني وتمنحاني قبلة حفرت لنفسها مكانًا في الذاكرة … هذه القبلة لم تكن على جبيني بل كانت على جبين الذاكرة .. كل شيء جميل نتذوقه تنتهي حلاوته بانتهاء لحظته إلا الأشياء التي يهبها من نحب لذاكرتنا .. إن إحساسنا بها يزداد بمرور الزمن؛ الزمن يمنحها في كل لحظة مذاقًا جديدًا ومختلفًا … كل شيء يرحل عنا إلا الذاكرة هي التي تستطيع أن تهزم الزمن وتعود بنا إلى الخلف”، ص: (102).

  والأمر ذاته يتكرر مع ابنه “علي”، بعدما توعك إثر محاولته إنقاذ سمير أخ حبيبته “سهى”، من السيل الذي أوشك أن يجرفه، حيث كان دارها مكانًا لاستشفائه: “اقتربت سهى بلطف وجلست عند رأسي أحسست دفء شفتيها على جبيني حين هبطت لتمنحني قبلة .. لكنها قبلة للذاكرة .. فتحت عيني وقلت لها بصعوبة: أهلًا قبلة على جبين الذاكرة”، ص: (301). وقبلة أخرى منها، “منحتني قبلة على جبيني قائلة: “أفدي قلبك” .. أهذا ما تريده؟ .. قبلة على جبين الذاكرة”، ص: (302).

المفارقة وفلسفة الذاكرة السردية

   ضمن فلسفة الذاكرة السردية في رواية “اليقطينة”، تظهر المفارقة بين تفاصيل الماضي الجميلة ونسبية جمالها المنقوص فيما لو تكررت في الحاضر: “الذاكرة حين تعيد الزمن تعيده جميلًا مهما كانت قسوته علينا.. حين أتذكر ذلك الخبز الجاف الذي كنت آكله في طفولتي .. كان مذاقه جميلًا، وحين آكله اليوم لا أحس بذلك المذاق .. فآكله من أجل الذاكرة .. الذاكرة تمنح الأشياء مذاقًا مختلفًا ومميزًا .. وأنا كائن ذاكراتي .. لا يعيش خارج الذاكرة .. هكذا هو الإنسان كائن يعيش في الذاكرة، وحين يموت يعيش في التاريخ، فماذا عملنا للتاريخ وماذا عملنا للذاكرة؟”، ص: (142).

   والقدرة على الاحتفاظ بالهدايا التي ليس في المستطاع القبض عليها، واحدة من تجليات فلسفة الذاكرة السردية، وردت هذه الإشارة في رسالة العتاب التي وصلت إلى “علي”، من “سهى”، تقول: “كنتَ أحيانًا تغرف بمرآتك قطعة من الشمس فترمي بها إلى نافذتي كلاعب تنس محترف .. متأكدة أنا أن ذلك كان مقصودًا .. أن تلك القطعة التي غرفتها من كبد الشمس كانت مهداة لي .. ولي وحدي .. أجمل شيء في هذا النوع من الهدايا أنك لا تستطيع أن تقبض عليه لأنه مهدى للذاكرة فقط، وهي أكثر قدرة على الاحتفاظ بهذا النوع من الهدايا.. الهدايا التي لا تتعفن ولا تتلف”، ص: (135).

لذلك، لا غرابة أن تحتفظ ذاكرته بمشهدٍ من مشاهد تعاشقهما حيًّا، وكأن هذا المشهد لم تمر عليه ثلاثة عقود. كانت الحبيبة فيه، في فستانها المتلألئ وهو يهديها قطعة من كبد الشمس: “تلك اللحظة تموضعت في الذاكرة فلا يمكن لها أن تزول أقسم أنها أمامي الآن أراها رأي العين وكأنها حدثت قبل دقيقة وليس قبل أربع وثلاثين سنة”، ص: (324). ولم يجد أهميةً لتخليد لحظات خطوبتهما بالتصوير؛ “هذه اللحظات لا تحتاج لتصوير لأن الذاكرة لا تنساها”، ص: (348). ولم يغضب من إزالة أمه كل ما يذكره بها، بعد مقتلها: “حين دخلتُ غرفتي لأول مرة منذ استشهاد القديسة سهى لم تترك أمي شيئًا يذكرني بسهى .. لم أزعل مما قامت به أمي لأن سهى لا تحتاج لما يذكرني بها”، ص: (363).

وجدانيات فلسفة الذاكرة السردية

     إن السياقات التي كانت أكثر احتفاءً بفلسفة الذاكرة السردية، كانت تلك السياقات الوجدانية، التي تجلت في محاور هذه المقاربة النقدية، ومنها أيضًا، ما تجلى في العلاقة الوجدانية بين “علي”، و”سهى”، ظهرت عددٌ من الإشارات التي تفلسف الذاكرة. من ذلك، أن ذكريات الحبيبة خالدة في غرفتها بعد مقتلها، ص: (366). ويهدي لذكراها قطعة من كبد الشمس كما كان يفعل في حياتها، ص: (368). ولم يستطع أن يأكل “الفتة” الشهية التي صنعتها له أمه، لأنه تذكر “فتة” حبيبته التي صنعتها له قبل سنين، ص: (371،370).

   كما ظهرت فلسفة الذاكرة السردية، في عددٍ من المساحات، بشكل أو بآخر؛ فكان من وجدانياتها “ضمةٌ خالدة رسمت لنفسها مكانًا مميزًا في جغرافيا الذاكرة”، ص: (174). ومن اللحظات ما يحتفي به “مكانٌ في حيز الذاكرة لا يزول”، ص: (190). ولا تتشكل الذاكرة إلا بتفاصيل الوطن، وتجليات الحياة، والعلائق الإنسانية فيه، ص: (408).

وبذلك

   فقد كانت فلسفة الذاكرة السردية هي النسق الغالب في تسريد أحداث الرواية. وحملت صياغتها مذاقًا فلسفيًّا؛ إذ تضمنت فلسفةً للزمن، ص: (40). وأخرى للحزن والبكاء والفرح، ص: (60). ومثلها فلسفة الحب، وعشق الجمال الفلسفي، ص: (67). وكذلك هو الأمر في فلسفة الجنس والغريزة، ص: (104).

وفي هذا النسق تبلورت التأملات الفلسفية واضحة التعاطي مع الفكرةِ السردية. وكذلك واضحة التعاطي مع مفاعليها الرئيسة في غايات الذات الإنسانية، وفي ديمومة الحياة، بتطلعاتها إلى اتزانٍ وتكاملٍ، تستقر عليهما سياقاتها ومساراتها الزمانية والمكانية.

هوامش

  1. صادرة عن دار أمجد للنشر والتوزيع، عمان ـ الأردن، 2017. ↩︎
  2. إشارة إلى الحوار الوطني الذي أجري بين المكونات السياسية اليمنية، والذي خرج بـ “وثيقة الحوار الوطني الشامل”، صنعاء، 2013ـ2014. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *