الصورة الاستعارية المفهوم والرؤى النقدية

الصورة الاستعارية المفهوم والرؤى النقدية

الصورة الاستعارية المفهوم والرؤى النقدية

د. عبده منصور المحمودي

المفهوم اللغوي وتعدد المفهوم الاصطلاحي

  تقوم الصورة الاستعارية على بُنية المجاز الخاص بالاستعارة. و”الاستعارة” في اللغة مأخوذة من العارية والعارة، وهو ما تداوله الناس فيما بينهم(1).

   وتعددت الرؤى النقدية ــ قديمةً وحديثةً ــ في المفهوم الاصطلاحي للصورة الاستعارية/ الاستعارة. ففي النقد الأدبي القديم، أثارت الاستعارة كثيرًا من النقاش منذ أرسطو، الذي عرّفها بأنها “نقلُ اسم شيء إلى شيء آخر”(2).

المفهوم الاصطلاحي للصورة الاستعارية، في النقد العربي القديم

     بيّن النقاد والبلاغيون العرب القدماء، أن الاستعارة هي استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة. ولعل الجاحظ (255ه ـــ 868م)، هو أول من عرَّف الاستعارة في الأدب العربي، فهي عنده “تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه”(3).

     ويقول ابن المعتز (296هـ): “إنها استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها”(4). أمّا ابن قتيبة (276هـ ــ 889م)، فيراها طريقة من طرق العرب في التعبير. حينما يستعيرون لفظًا ويضعونه مكان لفظٍ آخر، إذا كان بينهما علاقة سببية أو علاقة مجاورة(5).

     وتقَدّم المبرد (285هـ ــ 898م) خطوةً، مستفيدًا من الجاحظ في دراسته للاستعارة. وقد عرّفها بأنها “نقل اللفظ من معنى إلى معنى”(6). وجاء الرماني (ت 384هـ)، فعرفها بأنها “تطبيق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة”(7). أما الثعالبي (429هـ ـــ 1038م)، فيشير في تعريفه لها إلى أنها سنة من السنن العربية. التي تقوم على استعارة شيءٍ من الأشياء لشيءٍ آخر غيره(8).

ودرسها عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، فقال في تعريفه لها: “اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفًا. وتدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع. ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، فينقل إليه نقلًا غير لازم، فيكون هناك كالعارية”(9).

تحليل المفهوم الاصطلاحي القديم

  من خلال تأمُّل هذه المفاهيم المتعلقة بالصورة الاستعارية/ الاستعارة، يمكن ملاحظة أنها تكاد تكون متفقة في المضمون، الذي شمله مفهومُ عبد القاهر الجرجاني للاستعارة.

ومن ناحية أخرى، يتضح أن هذه التعريفات مقصورة على الجانب الشكلي من الصورة الاستعارية. فهي لا ترقى في بحثها الصورة الاستعارية إلى وظائفها الجمالية والنفسية، والأسطورية.

    وتفتقر هذه المفاهيم إلى الدقة الاصطلاحية المستوعبة للسمات الفنية والجمالية، ذلك أن الباحث لا يستطيع أن يقصرها إجرائيًّا على الاستعارة، بوصفها صورة تتسامى على أنها لفظٌ مكان لفظ. ذلك أن كثيرًا من التقنيات الفنية، التي تقوم عليها المحسنات البديعية والبيانية تنطبق عليها هذه المفاهيم الشكلية. من ذلك، أن التضمين لفظٌ أُشْرِبَ معنىً للفظ آخر مختلف عنه. ومثله التورية، إذ تتشرب معنيين. وهذا يعني أنه لم تكن  هذه المفاهيم مستوْعِبَةً الإمكانات الفنية والإبداعية، التي تتسم بها الاستعارة.    

النقد الحديث والصورة الاستعارية

   اهتمَّ النقاد والدارسون المعاصرون اهتمامًا خاصًّا بالصورة الاستعارية/ الاستعارة. ومن تجليات هذا الاهتمام في النقد العربي الحديث. ما نجده عند مصطفى ناصف، الذي يرى أنها ـــ أحيانًا ـــ تكون مرادفة للصورة(10).

   ومن سياقات اهتمام النقد الحديث بالصورة الاستعارية/ الاستعارة، سياق النظرة إليها بوصفها مُعطىً أسطوريًّا. لذلك يرى (نورمان فريدمان)، أنها أسطورة مصغرة، أو أنها تنطوي ـــ في كثير من الأحيان ـــ على أسطورة منسية(11).

علاقة المشابهة في الرؤية القديمة

     بالموازنة بين مفهومي الصورة الاستعارية/ الاستعارة ــ القديم والحديث ــ نجد أن الاستعارة في عرف الرؤية القديمة، تقوم على ما رآه النقاد من ضرورةِ أن تكون هناك علاقة صحيحة عقلية بين المستعار والمستعار له، هي علاقة المشابهة.

   وظل مفهومها يقوم على علاقة المشابهة، التي رسخت في الأذهان حتى اليوم. ولا تزال الاستعارة تُعرّف في كثير من المدارس، بأنها: ضرب من المجاز، الذي يقوم على تناسي التشبيه، وهو مفهوم قريب الشبه بمفهوم أرسطو للاستعارة بأنها: “إيجاد نقاط التشابه في الأشياء التي تبدو غير متشابهة”(12).

العلاقة بين طرفي الاستعارة في الرؤية الحديثة

     تختلف العلاقة بين طرفي الصورة الاستعارية (المستعار/ المستعار له)، في الرؤية النقدية الحديثة، عنها في الرؤية القديمة. فهي في الرؤية النقدية الحديثة علاقة متجاوزة أيّ محاولةٍ لمَنْطَقة الصورة؛ ولذلك فإن النقد الأدبي الحديث، في بيت أبي هذيل:

وإذا المنيّة أنشبَتْ أظفارَها *** ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

   لا يميل إلى الطريقة القديمة، في تدريس الاستعارة، أو الصورة بوصفها “قشرة خارجية يجب انتزاعها”(13). خاصةً حينما تكون الصورة صورة معاصرة؛ إذ “استجدت علائق جديدة مع نشأة الشعر الحديث، لا تستطيع علاقة المشابهة التقليدية بأسِّها المنطقي أن تفسرها”(14).

“الاستعارة”، و”التشبيه”

     يمكن القول إن تقديم التشبيه على الاستعارة، في الفكر النقدي والبلاغي عند العرب، يستند إلى نسق من الأطر الفكرية، التي تعاطت مع آلية الفهم لفنون القول وأنماطه. وهو ذلك النوع من الفهم، الذي يستمد ما يقوم عليه من مصداقية، من الرؤى التي تنطلق من فلسفة الاعتزال. تلك الفلسفة، التي تستأنس بآلية منطقية أرسطية. وإلى ذلك، فهو ــ من جهة أخرى ــ ذلك الفهم الذي يرتبط بمنظومة كتابية قائمة ــ في وجهٍ من وجوهها ــ على اشتراط توافر مبدأي الملاءمة والقرب في جمالية الصورة الاستعارية(15).

    وعلى ذلك، فإن الاستعارة ــــ مقارنة بغيرها من ألوان المجاز ـــ تظل هي أفضل المجاز(16)، وأكثر ضروب التصوير بينها بالنسبة إلى غيرها من الصور البيانية حتى “التشبيه”. ذلك، لأنها “مرحلة أنضج وعملية أدق من التشبيه“(17). كما أنها تؤدي (التصوير)، أكثر ممّا يؤديه التشبيه (التمثيل)، فهي “أكثر قدرة على تخطي الواقع، ورسم صورة جديدة، بما فيها من ادّعاء وتخييل”(18). وإلى ذلك، فهي تشكل الخاصية الأساسية للغة الشعرية عند جان كوهين(19). وبذلك، فإن الشعر على حد قول (تشارلتن)، يكاد يستحيل أن يكون شعرًا بغير الصورة الاستعارية/ الاستعارة(20).

الصورة الاستعارية والنقد الجمالي

     يتعاطى النقد الجمالي الحديث مع الصورة الاستعارية/ الاستعارة، بوصفها ضربًا من الوعي الخاص بالذات، وإطلالة على حقيقتها.

    وأول مظهر جمالي للصورة الاستعارية/ الاستعارة، هو استعادة الحياة توازنها، واستئناف الانسجام الداخلي بين المشاركَين فيها. وأغرب من ذلك أنها تعيدنا إلى الفهم الصحيح لعلاقات الوجود وكائناته. فالاستعارة، إذ تعيد استئناف الانسجام بين الكائنات، تقدم وعيًا أصيلًا بالحياة وللحياة(21).

وظيفة الصورة الاستعارية

   طغت الصورة الاستعارية/ الاستعارة على غيرها من الصور البلاغية في الشعر الحديث، متقدمة بذلك على التشبيه الذي ساد في الشعر التقليدي والقديم.

   وتختلف الدراسة المعاصرة للصورة الاستعارية/ الاستعارة عن الدراسة القديمة، في النظر إلى وظيفتها، فطالما نُسب إليها ــ في القديم ــ أنها وسيلة للتحسين والتنميق. أو أنها وسيلة للتوضيح أو البرهان على صحة الفكرة(22).

  هذه النظرة إلى وظيفتها مرفوضة في الرؤية المعاصرة، التي ترى أن الاستعارة “ليست في أي مجال من مجالاتها عنصرًا إضافيًّا”(23). وإنما هي “الوسيلة العظمى التي يجمع الذهن بواسطتها في الشعر أشياء مختلفة لا توجد بينها علاقة من قبل، وذلك لأجل التأثير”(24).

تصنيف الصورة الاستعارية

    اختلفت الرؤيتان ــ القديمة والحديثة ــ في تصنيف الصورة الاستعارية/ الاستعارة؛ إذ تعددت المصطلحات التي ابْتُكرت لتصنيفها. فقد صُنّفتْ، في البداية، إلى: “الصورة التشخيصية”، و”الصورة التجسيدية”(25).

   ولما شاع هذان المصطلحان، ظهرت مصطلحات أخرى، فصنفها بعض الدارسين إلى أربعة أنواع: “استعارة مجسمة”، و”استعارة مادية”، و”استعارة باعثة للحياة”، و”استعارة نقلية حسية”(26).

   وميّز (ريتشاردز) بين نوعين من الاستعارات: “الاستعارة اللغوية”، وهي استعارة غير موحية. و”استعارة فنية جمالية”، وهي الاستعارة الشعرية(27). وحاول نعيم اليافي، أن يضع لها درجات تختلف فيما بينها؛ تبعًا لعلاقة الذات بالموضوع، وارتباط الذهن بالمادة. هذه الدرجات هي: “العاطفية”، و”التعاطفية”، و”التجسيدية”، و”التشخيصية”، و”التقمصية”(28).

  1. ينظر: ابن منظور (محمد بن مكرم)،(630ـــ 711هـ)، “لسان العرب”. تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، د.ت، مادة: (ع.ا.ر). ↩︎
  2. أرسطو، “فن الشعر”، ترجمة: شكري محمد عياد، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967م، ص: (116). ↩︎
  3. الجاحظ، “البيان والتبيين”، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، ط7، القاهرة، 1418هـ ـــ 1998م، جــ1/ص: (153). ↩︎
  4. عبد الله بن المعتز، “كتاب البديع”، اعتنى بنشره: أغناطيوس كراتشكوفسكي، دار المسيرة، ط3، بيروت، 1982م، ص: (3،2). ↩︎
  5. ابن قتيبة: أبو عبد الله بن مسلم، “تأويل مشكل القرآن”، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، القاهرة، 1981م، ص: (103،102). ↩︎
  6. سيد بن علي المرصفي، “رغبة الآمل من كتاب الكامل”، دار البيان، بغداد، 1969م، جـ3/ ص: (149،145). ↩︎
  7. أبو الحسن على بن عيسى الرمانى (ت384هـ)، “النكت في إعجاز القرآن”، تحقيق: محمد خلف أحمد، ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، 1968م، ص: (85،86). ↩︎
  8. الثعالبي: أبو منصور، “فقه اللغة وسر العربية”، تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1972م، ص: (382). ↩︎
  9. عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة”، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـــ القاهرة، دار المدني ـــ جدة، 1412هـ ـــ 1991م، ص: (32). ↩︎
  10. مصطفى ناصف، “الصورة الأدبية”، دار الأندلس، بيروت، 1981م، ص: (3). ↩︎
  11. ينظر: مصطفى ناصف، “نظرية المعنى في النقد العربي”، دار الأندلس، ط2، بيروت، 1981، ص: (150). ↩︎
  12. مصطفى الصاوي الجويني، “البيان فن الصورة”. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1993م، ص: (197).                             ↩︎
  13. نفسه، ص: (81).                                                            ↩︎
  14. بشرى موسى صالح، “الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث”، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1994م، ص: (95). ↩︎
  15. حبيب موسى، “بلاغة الكتابة المشهدية. نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية”، مجلة التراث العربي، إصدارات اتحاد الكتاب العرب، العدد: (89)، دمشق، محرم 1424هـ ــ مارس 2003م، ص: (157). ↩︎
  16. ينظر: ابن رشيق القيرواني، “العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده”، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، بيروت، 1401هـ ـــ 1981م،  جـ1/ ص: (268). ↩︎
  17. علي إبراهيم أبو زيد، “الصورة الفنية في شعر دعبل بن علي الخزاعي”، دار المعارف، القاهرة، 1981م، ص: (289). ↩︎
  18. أحمد مطلوب، “الصورة في شعر الأخطل الصغير”، دار الفكر، عمّان، 1985م، ص: (50). ↩︎
  19. يُنظر: الولي محمد، “الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي”، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1990م، ص: (8). ↩︎
  20. يُنظر: يوسف بكار، “قضايا في النقد والشعر”، دار الأندلس، بيروت، 1981م، ص: (37). ↩︎
  21. يُنظر: حبيب موسى، “بلاغة الكتابة المشهدية. نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية”، مجلة التراث العربي، المرجع السابق، ص: (158). ↩︎
  22. يُنظر: مصطفى ناصف، “الصورة الأدبية”، المرجع السابق، ص: (144).  ↩︎
  23. نفسه، ص: (147). ↩︎
  24. ريتشاردز، “مبادئ النقد الأدبي”، ترجمة: مصطفى بدوي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة، القاهرة، د.ت، ص: (310).       ↩︎
  25. أحمد قاسم أسحم، “الصورة في الشعر العربي المعاصر في اليمن 1980ـــ1995″، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة آل البيت ـــ كلية الآداب والعلوم، عمّان، 1999م، ص: (65). ↩︎
  26. رجاء عيد، “فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور”، منشأة المعارف، ط2، الإسكندرية، (د.ت)، ص: (98). ↩︎
  27. يُنظر: رينيه ويلك وأوستن وارن، “نظرية الأدب”، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الدين الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 1981م، ص: (204). ↩︎
  28. يُنظر: نعيم اليافي، “تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث”، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، د.ت، ص: (156،157).   ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *