المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر

المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر

المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر

د. عبده منصور المحمودي

  يتجلّى المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر نسقًا جماليًّا ورمزيًّا فاعلًا، في إضفاءِ ثراءٍ دلاليٍّ، على الصياغات الشعرية. سواءٌ ما يتعلق ــ من هذا النسق ــ بتلك الأمثال الشعبية المتداولة بلهجة عامية. أو تلك الأمثال العربية الفصيحة، التي تتّخذ طابعًا شعبيًّا(1).

  وقد استأنس الشاعر اليمني المعاصر بكلا النمطين، ووظفهما في تجربته الشعرية. فتجسّد ــ بذلك ــ جانبٌ من فاعلية الثقافة الشعبية والرمز الشعبي في الشعر اليمني المعاصر. لا سيما ما يظهر من ذلك، في التجربة الشعرية عند الشاعرين: عبد الله البردوني، وعبد العزيز المقالح.

[1ــ1]: المثل الشعبي في شعر عبد الله البردوني

     من أهم ما يمكن ملاحظتُه من استدعاء المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر، ما نجده في التجربة الشعرية عند الشاعر عبد الله البردوني. فهو أبرز من تمثّل خصوصية التراث الشعبي، بحكم عمق ثقافته الشعبية، ومزاجه الباحث عن دقائق تفاصيل الحياة. وكذلك، بحكم رؤاه النقدية، الباحثة عن الخصوصية المحلية(2). من مثل رؤيته في شعر محمد محمود الزبيري(3)، الذي يبدو عدم توظيف تجربته الشعرية للإيحاءات الرمزية التي يكتنزها المثل الشعبي.

[1ــ2]: “مَن تزوّج امّنا هو عمّنا”

ورد توظيف البردوني لهذا المثل الشعبي، في قوله(4):

فلم أعْهَدْ إلى عمِّي بأُمِّي *** ولا بأبي إلى صِهْري وخِدْنِي

  يستوحي الشاعر ــ هنا ــ مضمون المثل الشعبي اليمني: “مَنْ أزَّوَّجْ أمَّنا هو عمَّنا”(5). الذي ورد ــ أيضًا ــ بصيغة أخرى: “من تزوجْ بأمَّنَا كانْ أبونا”(6).

  وعادةً ما يضرب هذا المثل، حينما يأتي حاكم بدل حاكمٍ آخر ويؤدي دورًا سلبيًّا. وتداعيًا مع هذه السلبية، يجد الإنسان نفسه مندفعًا إلى الاسْتِسلام والتَّخاذُل. فبه تُقيّد قواه العقلية، وتُشلُّ حركتُه في البِنَاء(7). ذلك أن المجموع المتكلم ــ في هذا المثل ــ ينطلق من موقع مستلب، من كائن مفروض عليه بالضرورة، ويقوم بمصادرة حقه في التفكير والاعتراض. فهو متكلم بما لا يحقق حضوره الحقيقي، لكن بما يحقق ذاته المستلبة المذعنة لما يفرض عليها قبلًا، ويراد لها لا ما تريده هي(8).

وتظهر جمالية الاستدعاء لمضمون هذا المثل، في تحوير مساره الاستيحائي المذعن، نحو المسار المناقض. فالشّاعِرُ فِي هَذا البَيْت “يُعبّر عنْ ثورةِ رفْضِهِ التِيْ يَرى بأنَّها أحَد أَهَمّ دَلائِل الحَياةِ والتّدفُّق”(9). وهو تعبير عن اتجاه اجتماعيّ، متشكّل من شرفاء الوطن، الذي أحالت عليه رمزية الأم في هذا البيت. أولئك الشرفاء، الذين يعزّ عليهم تسليمه لمن يعيث فيه فسادًا. وبذلك، تجلّى التوظيف العكسي لمضمون هذا المثل، القائم على بنية موحية بالخنوع والرضا بالواقع كما هو، من دون تفكير بالتمرد عليه. وهي بنية متبلورة في نسقٍ ثقافي، جاءت رمزية هذا البيت نسفًا له، ومن ثم هدمًا لمضمون المثل. من خلال الاستلهام الرمزي المغاير لهذا النسق، في إيحاءاته بضرورة التمرد على الواقع المستسلم المتخاذل. وضرورة الثورة، في وجه عوامل السكون فيه؛ بغية الانتصار عليه والتحرر من سلبياته ومآسيه.

[2ــ1]: المثل الشعبي في شعر عبد العزيز المقالح

من السياقات الشعرية التي تضمّنت توظيفًا للمثل الشعبي في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح، ما ورد في قصيدته “في الصيف ضيَّعنا الوطن”:

“أضعتُكِ في الصيفِ،

في مطلعِ الصيفِ

لَكنني مَا افتَقدْتكِ إِلّا غَدَاة أَطَلّ الشِّتاءْ،

وَلَمْ أَبْكِ حِيْنَ رَحَلْتِ

لَأَنِّيْ مَع الصِّيْفِ كُنْتُ أَضَعْتُ الدُّمُوْعَ

وَهَا أنَا يا طِفْلتي ضَائعٌ في البُكَاءْ..”(10).

لقد استدعى الشاعر ــ هنا ــ المثل العربي المشتهر: “في الصيف ضيَّعتِ اللبن”(11). الذي قد يرد بروايةٍ أخرى، هي: “الصيف ضيعت اللبن”(12). ويضرب هذا المثل لمن يطلب شيئًا قد فوّتَهُ على نفسه(13).

   وقد صاغ الشاعر عنوان قصيدته ــ هذه التي تضمّنت هذا الاستدعاء الرمزي للمثل الشعبي ــ صياغة استيحائية لمضمون هذا المثل العربي. مع تحوير في بنيته التركيبية، باستبدال فاعلية الجمع بفاعلية المفرد، ومفعولية الوطن بمفعولية اللبن.

[2ــ2]: رمزيةٌ تجسيديةٌ لمأساة النكسة

   لقد جاء مضمون القصيدة بيانًا لهذا العنوان، وتفصيلًا لغاية الاستيحاء الرمزي. تلك الغاية المتمثلة في تجسيد مأساة النكسة العربية في “حزيران”، من خلال ما يتجلى من “مقابلة بين “الصيف” كزمن نحياه ثم كمثل في تراثنا العربي، إنها مقابلة مؤلمة بين المأساة في قصتنا التراثية التي نتندر بها، وبين مأساة نكسة يونيو1967 التي أفجعنا لهيبها”(14).

  وفي هذه المقابلة المؤلمة، تحميلٌ للإنسان العربي مسؤولية ذلك، من خلال رمزية القناع، الذي أوحى بالمستوى المزري، الذي وصل إليه الإحساس العربي. فبدت بذلك جمالية المعاناة والألم، في استثمار مضمون الفقدان، الذي تختزنه إيحاءات المثل الشعبي استثمارًا رمزيًّا لمأساة فقدان الأرض العربية في تلك النكسة. كما تجلت هذه الجمالية في الإحساس بهذا الفقدان؛ إذ “بدأ الشاعر يحس المأساة الحقيقية حين أطل الشتاء، زمن الجدب والاستكانة وافتقدنا العون والعطاء ولم نجد سوى الأرض السليبة والهزيمة المنكرة”(15).

ومركزية التوظيف الرمزي لإيحاءات هذا المثل، تتمحور في تأخر الإحساس بالفقدان زمنًا، يتعذر بعده استدراك الأمر. إذ اشتعلت أحزان فقدان الأرض؛ فتداعى إلى فضاء التعبير عنها مضمون المثل الشعبي، الذي أوحى بفقدانٍ معنويٍّ موازٍ لهذا الفقدان المادي. جسّده فقدان الإحساس بخسارة الأرض العربية آنذاك. كما جسّده فقدانُ القدرة على الشعور بالحزن والأسى، في زمنية الصيف، الذي حدَثتْ فيه مأساة تلك النكسة.

  1. ينظر: حافظ المغربي، “التوظيف المتغير للموروث الشعبي والأغنية في نماذج من الشعر المعاصر”. مجلة علامات في النقد، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد: (72)، صفر1432هــ ـــ يناير2011م، جـ1/ ص: (166). ↩︎
  2. ينظر:
    ــ حفيظة قاسم سلام، “شعر عبد الله البردوني قضاياه الموضوعية وصوره الإبداعية”. رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الإسكندرية ـــ كلية الآداب، 1421هـ ـــ 2001م، ص: (11،10).
    ــ عبد الحميد الحسامي “الحداثة في الشعر اليمني المعاصر”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م، ص: (226). ↩︎
  3. أخذ البردوني على الزبيري خلو شعره من الخصوصية المحلية والإيحاء المكاني. ينظر:
    ــ عبد الله البردوني، “من أول قصيدة إلى آخر طلقة دراسة في شعر الزبيري”. دار البارودي، ط3، بيروت، 1997م، ص: (48).
    ــ عبد الله البردوني، “رحلة في الشعر اليمني قديمة وحديثه”. دار الفكر، ط5، دمشق، 1995م، ص: (149). ↩︎
  4. عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ط1، صنعاء، 1423هـ ـ 2002م، جـ2/ ص: (1355). ↩︎
  5. إسماعيل بن علي الأكوع، “الأمثال اليمانية”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (1162).      ازّوج، تعني في المحكية: تزوج. ↩︎
  6. نفسه ↩︎
  7. ينظر: أحمد علي الهمداني، “الفلكلور اليمني بعض الحقائق والملاحظات”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، ط1، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (130). ↩︎
  8. ينظر: عبد الحميد الحسامي، “النقد السياسي في المثل الشعبي دراسة في ضوء النقد الثقافي”. إصدارات مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، تعز، 2012م، ص: (73). ↩︎
  9. حفيظة قاسم سلام، “شعر عبد الله البردوني قضاياه الموضوعية وصوره الإبداعية”. المرجع السابق، ص: (368). ↩︎
  10. عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، جـ3/ ص: (18). ↩︎
  11. الميداني، (أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني)، “مجمع الأمثال”. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، ط2، بيروت، 1407هـ ـــ 1987م، جـ1/ ص: (434). ↩︎
  12. نفسه ↩︎
  13. نفسه، جـ1/ ص:/ (435). ↩︎
  14. محمد محمود رحومة، “دراسات في الشعر والمسرح اليمني”. دار الكلمة، ط1، صنعاء، 1406هـ ـــ 1985م، ص: (107). ↩︎
  15. نفسه. ↩︎

4 أفكار عن “المثل الشعبي في الشعر اليمني المعاصر”

  1. في الصيف ضيعت اللبن
    . الأمثله العربيه عميقه التعبير مختصره في ثلاث كلمات لاكنها تترجم وتفسر إلى أسطر عده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *