تشخيص الشعر والقصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

تشخيص الشِّعْرِ والقصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

تشخيص الشِّعْرِ والقصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح

د. عبده منصور المحمودي

الشعر في موكب التشييع

  توالت لحظات المأساةِ وتداعياتها المتصاعدةِ في بناء النص الشعري، الذي رثا فيه الشاعر عبد العزيز المقالح زميله الشاعر صلاح عبد الصبور (حدث في النصف الثاني من الليل)؛ إذ كان النص تداعيًا مترعًا بتشخيص الشعر في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح؛ إذ تتجلى فيه أنسنة الشعر، لتي اكتملت فيها مراسيم الغسل، فانسدل مشهدُ الجنازة والتشييع، فكان الشعر في مقدمته، بطبيعته الإنسانية التي أضفاها عليه الشاعر، فتوزعت على عددٍ من الأبيات الشعرية، التي اشتركت في تشييع الفقيد، حتى إنزاله القبر، وهناك انتابها ما يشعر به الإنسان، من الحاجة إلى مزيد من الهواء، المتناقص بحركية إنزال المتَوَفّى إلى قاع القبر(1):

“وضعوهُ على قفصِ الصمتِ

داروا بهِ

أنزلوهُ إلى حفرةٍ

ضاقَ بيتٌ منَ الشِّعرْ في جوفِها،

وضعوهُ وقد هجعَ السامرونَ

وغارتْ عيونُ الشُّموعِ

الثكالى؛

بدا صامتًا كالصَّحاري (أبو الهولِ)

وجهُ (المقطَّمِ) ..”.

     لقد شكّلتْ شعريةُ النصِ ـ هنا ـ تابوتَ الجنازة ِمن الصمت الحزين، وحينما وُضِعَ التابوتُ بصاحبهِ في القبر، كان الشعرُ في جوفِ القبر حاضرًا بسماته الإنسانية، فظهر عليه الضيقُ في ملامح واحدٍ من أبياته؛ تجسيدًا لهذا النسق من تشخيص الشعر والقصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح.

 أنسنة الشموع

 امتد نسقُ تشخيص الشعر والقصيدة في النص، إلى أنسنةِ الشموعِ بعيونٍ غائرةٍ ثكلى، وإلى هرم (أبو الهول) من خلال صَمْتِهِ المشابهِ لصمت الصحراء، وقد أحالت هذه المشابهةُ على سمةٍ إنسانيةٍ مناقضةٍ لسمة الصمت، هي سمةُ الكلامِ التي فَقَدها الهرمُ مصعوقًا بالمأساة.

  وقد اشتركتْ القصيدةُ في هذا النص ـ بهيئتها البشرية ـ مع الناس والزمان والمكان في معايشةِ تداعيات المصيبة، حتى وصلتْ المأساةُ إلى تَمَوْضُعِ صدْمَتِها في موضِعها من حتميةِ الحياةِ غيرِ المتعثرةِ بوفاةِ أحد. وفي هذه المحطة من رحلة المأساة، لم تستطع القصيدةُ التناغمَ مع هذا التموضع، كما لم تستطع العودةَ إلى حيويتها السابقة للمأساة:

“لم يَحْزَنوا

غَيَّروا موقعَ القلبِ

وابتهجوا لصفيرِ الرِّياحِ ..

القصيدةُ قالتْ بخوفٍ،

وقد مَزَّقَتْ ثوبَ لوعتِها:

للمصابيحِ لونُ الرّمادِ

وللماء طعمُ الترابِ

وللكلماتِ وميضُ الدّماءِ

وللحزنِ وجهُ الوطنْ”. جـ2/ ص: (410،409).

    لقد وصل الحزنُ إلى حتميتهِ الإنسانيةِ المتصالحةِ مع مابعديّات الفُقدان، وتضاءلَ حزنُ الإنسانِ والمكانِ والزمانِ بالتناسي المُتَجَسِّدِ في فرحٍ بصفيرِ الرياح المحيلِ على الأفراحِ الخاوية من جوهرها. عاد التصالحُ الحتمي بكل شيءٍ إلى طبيعته وماهيته السابقة للمأساة، إلا القصيدة، فبعد أن أهَّلَتْها سِمَتُها الإنسانية إلى الاشتراك في وجدانيات المأساة بتجانسٍ مع أقطابها الفاعلة، لم تساعدها ـ هذه السمة ـ على استمرار التجانس مع تلك الأقطاب؛ إذ فقَدَتْ القدرةَ على العودة إلى ما كانت عليه قبل المأساة؛ فقدَّمَتْها شعريةُ النص في هيئةِ امرأةٍ مزَّقتْ ثوبَ لوعتها. ولم يَمُسْ فِعْلُ التَّمَزُّقِ ـ هنا ـ ثيابَ القصيدة، وإنما ثيابَ لوعتها، وفي ذلك انتقالٌ رشيقٌ من تكثيف الأنْسَنَةِ في الموضوع المُؤَنْسَن إلى ماهيةِ الموضوع ذاته (القصيدة)، كما أنه تجانسٌ بين جوهر القصيدة التجريدي وبين ثوبها (اللوعة).

    وتتحدث القصيدة ـ بلغةِ الخوف التي سبق وأن تجاذَبَتْها مع الشاعر ـ عما آلتْ إليه حالُها بعد المأساة؛ إذ فقدتْ المصابيحُ ـ لديها ـ تلألؤَ ضوئها بعد أنْ حَلَّ محَلَّهُ لونُ الرماد، وفقَدَ الماءُ ماهيةَ نقائهِ المجبولةَ على انعدامِ مذاقه؛ فصار له طعمُ التراب، واحمرَّ وميضُ الكلمات الراشح بالدماء، وصار الحزنُ وجهًا للوطن (وطن الشاعر الراحل/صلاح، ووطن الشاعر/ المقالح).

تدوير الأثر الوجداني

    لم يقفْ نصُّ المقالح ـ هذا ـ عند حتمية المآل الذي وصلت إليه المأساة، وإنما اضطلع بمهمةِ تدويرِ الأثرِ الوجداني حسرةً متجددةً في دموع القصيدة، التي وصل صوتُها إلى حنايا وطن الشاعر الراحل، متمثِّلٍ في واحدٍ من أبرز رموزه (نهر النيل):

“سمعَ النِّيْلُ صوتَ دموعِ القصيدةِ

وَدَّعَ مجراهُ

جاءَ ليحتجَّ،

يكشفَ عنْ حزنِهِ،

يتوشَّحَ بالدمعِ والجرحِ”. جـ2/ ص: (410).

  مثْلما وصل صوتُ دموع القصيدة إلى مسامع الشاعر، وصَلَ إلى مسامع نهر (النيل)، الذي داهمَهُ ما داهمَ الشاعرَ من حزنٍ وأسى، فاتشحَ بالدمع والجرح. ويظهر في هذا التماثل تجانسٌ فنيٌّ جسَّدَتْه تقنيةُ التشخيص، حينما أَضْفَتْ على نهر (النيل) سمات الإنسان، مثلما عملت على تشخيص الشعر والقصيدة، فكان هذا التجانسُ نسيجًا لعلاقةٍ حزينةٍ بين القصيدةِ وبين النهر؛ حسرةً على خسارتهما الشاعرَ الراحل، الذي لم يكن موته نهايةً لشعريته الخالدة، التي يحيا بها في ذاكرة الأجيال والأزمنة.

اغتراب الشعر والقصيدة

   لم تكن رحلةُ الإنسانِ الأبديةُ وحدها هي المشمولة بتقنية تشخيص الشعر والقصيدة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح، وإنما كانت ـ مثلها ـ رحلةُ الإنسان في الأرض واغترابه عن وطنه وأهله وأصدقائه، الذين إليهم ينتظمُ الشعرُ كواحدٍ منهم، فيعذّبُهُ فراقُ مغتربٍ في أرضٍ بعيدة:

وتذكّرْنا صديقًا نازحًا *** في (بروملي) يملأُ الدُّنيا هديلا

يحتسي الآهاتِ في غربتِهِ *** ليسَ يرضى عنْ هوى الأهلِ بديلا

كم ذكرناهُ فناجتْ صحفٌ *** وبكى الشعرُ لذكراهُ طويلا

وأهاجَ الجرحَ شعرٌ دامعٌ *** جاءَنا منْ (أحمدِ الشعرِ) رسولا” جـ3/ ص: (435)

  هذا واحدٌ من نصوص المقالح المثخنة بمعاناة الغربة، وبدءً من عنوانه (الأصدقاء بين الغربة والوطن) يظهر الألم الوجداني الاغترابي، حيث يقوم النص على شعرية الحزن المُتَوَالدِ من مرارة غربة الشاعر ورفاقه. وفي هذا السياق، تفْتُكُ الذكرى الحزينةُ بالشاعر وأصدقائه، حينما تطلّ عليهم بحال صديقهم البعيدِ عنهم في موطن اغترابٍ آخر (بروملي)، بكوا حُزنًا واشتياقًا إليه، فبكى الشعر مثلهم، وتمزّقَ كما تمزقوا، متمثِّلًا إنسانيّتَهُ التي حَرَّكَتْ فيه عواطفَ الإنسان، فاشتركَ مع المحزونين في طقوسهم الشجية.

أنسنة الشعر والنهر

في نصّه: (مرثيّة عصريّة لمالك بن الرَّيب)، أضفى المقالحُ السماتِ الإنسانية على النهر، في سياق أنْسَنَتِهِ للشعر والقصيدة:

“أخرجوهْ

أخرجوني منَ القبرِ .. قالَ الفراتُ،

لعلِّي أراهُ، يراني

وأقرأُ في وجهه آخر الكلمات

ويقرأُ آخرَ حزني عليهْ:

إنه النهر أما أنا فحروفٌ من الماءِ

أظمأُ إن هَجَرَتْني القصائدُ …”. جـ2/ ص: (412).

  مشاعرُ الرثاء العصري هي المتدفقة في بنية هذا النص، وقد تضمّنت موازنةً بين الرمز الأدبي (مالك بن الريب)، وبين نهر (الفرات) الذي أنْسَنَهُ الشاعرُ في هذا السياق الفني؛ فكان في مُسْتَطاعِ النهر أن يستغيث، وأن يلتمسَ إخراجَ الشاعرِ (الرمز) من قبره، متَّحِدًا به في إشارتهِ إلى أن تحريرَ شاعرِ القبرِ من قبرهِ تحريرٌ له هو (النهر) من قبره المعنوي. ويظهر مستوىً من الرمزيةِ إلى ما تحْمِلُهُ استمراريةُ تَدَفُّقِ الشعرِ من أهميةٍ فاعلةٍ في استمراريةِ استشعارِ النهرِ حريّتَه في جريان مائه. وتطلُّ من هذه الرمزيةِ الرؤيةُ الشعريةُ في علاقة الشعرِ بالحياة، بما في هذه العلاقة من إشارةٍ إلى الفاعليةِ ـ المتأتيةِ من سلاسةِ التدفقِ الشعري المتحررِ من السطوة السلطوية ـ في جريان الحياةِ دون إشكالات، وهي رؤيةٌ تنتصرُ للشعر، في مقامٍ يُعْلِي من هذه التقاطعاتِ الفكرية بين الشعر وبين الحياة.

  وفي سياقِ الموازنةِ ـ بين شاعر القبر وبين النهر ـ تضمينٌ لمفارقةٍ بينهما لصالح الأول منهما؛ وَرَدَتْ على لسان النهر، حاملةً إقرارَهُ بمحدوديتهِ مقابلَ المدى الواسع الذي مَنَحَهُ لشاعر القبر؛ حيث تنحو هذه المفارقةُ منحىً تعليليًّا لحال ِالنهر ـ كحروفِ ماء ـ يهلكُهُ الظمأُ حينما تَهْجُرُهُ القصائد. وصِفَةُ الهَجْرِ ـ هنا ـ سمةٌ إنسانية، دخلت على القصيدة؛ فَوَضَعَتْها في نسق البشرية، بما في ذلك من ضمنيَّةٍ تحديديةٍ لنوعية الأنثى من هذا النسق الإنساني؛ لما بين المرأة وبين الهَجْرِ من رابطٍ أدبيٍّ متوارثٍ في مسيرة الأدب الإنساني. كما أن صفة الهَجْرِ لا تأتي إلا بعد تجربةِ عشقٍ، وهو ما يسري على هَجْرِ القصائد للنهرِ بعد عشقها له. وما النهر ـ هنا ـ إلا رمزٌ للشاعر (شاعر القصيدة/ وشعراء العصر).

هوامش
  1. عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، جـ2/ ص: (409). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *