عصافير الغِيَابَيْن

عصافير الغِيَابَيْن

عصافير الغِيَابِيْن

د. عبده منصور المحمودي

    عصافير الغِيَابَيْن، وحالهما المؤلمة، هي ما فوجئ به بشير، في حديث ابنته إليه. تلك الصغيرة، التي لم تتجاوز ربيعها الحادي عشر، كانت تتحدّث إليه بصوتٍ يمزّقه التهدّج. أخبَرَتْه بأن سلوى ــ زميلتها في المدرسة ــ أطلعتْها صباح اليوم على تفاقم الخلاف بين والديها. حتى وصل بهما إلى قرار كلٍّ منهما التخلّي عن الآخر. انفصلا عن بعضهما، انفصالًا سيضفي على كلٍّ منهما غيابَه الخاص. وبذلك، فعلى عصافير الغِيَابَيْن معايشة تداعيات قرارٍ، ومشكلة لم يكن لهم يد فيها.

  تحدّثت سلوى إلى زميلتها، عن قلب أمّها. الذي كان يتقطّع، وهي تودعها وتودع شقيقيها، اللذين يتقاربان معها في عمريهما. كان قلبُها يتقطّع؛ لأنها ستفارقهم، بعدما انعدمت أيّةُ صيغةٍ، يمكن أن تحتّم بقاءها معهم ومع أبيهم.

   كانت أم سلوى وهي تودّع عصافير الغِيَابَيْن، تحاول بأقصى ما تستطيع من المواربة التمويه عليهم. برّرت سفرها الذي كان قرارًا مفاجئًا، بضرورة قيامها بزيارةٍ إلى جدهم في تلك القرية البعيدة. الذي أُصيب بمرضٍ مفاجئ، بحسب زعمها الموارب. كما برّرت اضطرارها للسفر هذه المرة سيرًا على الأقدام، بأن ليس لها أحدٌ ــ هنا ــ يمكنها الاعتماد عليه، في السفر بها على متن سيارة. كانت في تبريرها الأخير، تبتلع الحقيقة، الكامنة في استحالة أن يفعل ذلك أبوهم. فلم يعد من الممكن أن يرافقها، بعدما انقطع حبل العلاقة الزوجية بينهما.

احترازات ومواربة منقوصة

   أعطت يمامة الأسى عصافيرها ــ عصافير الغِيَابَيْن ــ مبلغًا كبيرًا من المال. وذلك، ليستعينوا به على ما قد يحتاجون إليه من الغذاء. فيما لو حدَث ــ ولا شك في أن يحدث ــ تقصيرٌ من عمّتهم في الاعتناء بهم. فهي مَنْ ستؤول إليها رعايتهم، بعد مغادرة يمامتهم.

  وعلى محاولات يمامة الفراق المواربة، إلّا أنها لم تستطع حجب الحقيقة عنهم. تلك الحقيقة التي اسْتوعبتْها “سلوى” ــ على صغر سنّها ــ وتحّدثت عن تفاصيلها إلى زميلتها صباح اليوم. لم تستطع مواربة تلك الحقيقة، وما هي عليه من قطعية الحيلولة بين اليمامة وعصافيرها؛ إذ لم يعد لها مكانٌ بينهم، وليس بإمكانها اصطحابهم معها. فسياق الأعراف الاجتماعية يقتضي ــ في مثل حالها ــ منْح الأب الحق في الاحتفاظ بعصافير الغِيَابَيْن.

  حاول بشير التّهوين من الأمر على ابنته الباكية المشفقة على زميلتها. ثم اختلى بنفسه، وطيلة مقيله ــ الذي اعتاد على أن يكون فيه منفردًا ــ لم ينشغل بغير التفكير فيما سمعه من صغيرته. وفي تلك الإشكالية الاجتماعية، التي تدفّقت في ذهنه مشاهدُ متكررة منها، يعيشها مجتمعه الريفيّ المتصالح مع هيمنة التقاليد والعادات. بما في ذلك، ما تتضمّنه من جبرية إلحاق عصافير الغِيَابَيْن بأبيهم لا بيمامتهم الحنون.

خلافاتٌ وعذاب

   عادةً ما يتجرع تداعيات خلاف الوالدين فلذات أكبادهما، عذابًا ومعاناةً متجددة. سواءٌ أكانت نهاية تلك الخلافات تصالحهما أو افتراقهما؛ ففي كلتا الحالين، تفزع مشاهدها عصافير الغِيَابَيْن، وتخيفهم. ترتعد فرائصهم، كلما لفحتْهم نوبات الغضب المحتدم فيما بينهما. بل في كثير من الأحيان، تشملهم النار من كليهما، أو من أحدهما. وغالبًا ما يكون الأب هو الأقل اكتراثًا بهم، والأكثر إضرارًا بهم. كأن يقوم بضربهم، أو يوجه إليهم سيلًا من السخط اللفظي. وفي كل ذلك، لا غاية له سوى مزيدٍ من التمادي، في استفزاز يمامتهم المغلوبة على أمرها.

  في كثيرٍ من مواقف الخلاف، تضطر يمامة العذاب إلى مغادرة عش الزوجية إلى ديار أهلها. وفي هذه الحال، قِلّة هم الآباء، الذين يسمحون لها باصطحاب عصافيرها. لكن السائد هو أن يكونوا مسرحًا، للتجاذبات القاسية فيما بينهما؛يتّخذ الأب منهم ورقةَ ضغطٍ عليها، وغالبًا ما ينجح في ذلك. لا سيما حينما تفشل محاولةُ إصلاح الشأن بينهما بعد احتكامهما إلى أهلها؛ إذ يستعيدهم منها بقوة العرف، فيما لو كان قد سمح لها باصطحابهم معها، وهي تغادر منزله إلى ديار أهلها.

   يظهر نوعٌ من الانتهازية، في المساومة بهم. تلك الانتهازية، التي غالبًا ما يلجأ إليها الأب، حينما يكون هو المخطئ في حق يمامة عصافير الغِيَابَيْن. فإن كان خطأه مّما يمكن التغاضي عنه، فإنّ أصهاره يتواطؤون مع انتصار عاطفة ابنتهم لعصافيرها. يتداعون مع إيحاءات ملامحها، بتسامحٍ قسريٍّ، وتصالحٍ شكليّ معه؛ حفاظًا عليهم، فيعود بها وبهم إلى دياره. أمَّا في حال ما كان خطأه، في سياقٍ غير مقدورٍ على تمريره أو التغاضي عنه، فسرعان ما يبدأ تنفيذ تهديده باستعادتهم وحرمانها منهم، فيعود بهم من دونها. ثم بعد أيّامٍ يعاود المصالحة بطريقةٍ أخرى. قد تنجح في لمّ الشمل، وقد تنتهي بالقضاء على علاقتهما والإبقاء عليهم في حوزته.

عصافير الغِيَابَيْن والحنانُ البديل

   من صور المعاناة التي يعيشها عصافير الغِيَابَيْن، التي تداعت إلى ذهن بشير الموغل في تأمله وشروده. تلك الصورة المتعلقة بمحدودية الاعتناء بهم، حينما يصر الأب على الاحتفاظ بهم. سواءٌ أَوْكل هذه المهمة إلى إحدى قريباته، أو إلى زوجته الجديدة، التي يبحث عنها فور بَتْرِ علاقته مع يمامة عصافيره.

   زوجة الأب محكومةٌ بعوامل ومتغيرات متعددة، فاعلة في الطريقة التي تُعامل بها عصافير الغِيَابَيْن. فمنهنّ، مَنْ تكون معاملتها لهم معاملة حسنة. ومنهنّ ــ وهن الأكثرية ــ من تعاملهم بقسوة. وكثيرًا ما تتردد في التداول الشفاهي إحالات على زوجة الأب ــ الخالة ــ بوصفها نموذجًا للقسوة والظلم وانعدام الرحمة والشفقة.

  ولا يمكن ــ في هذا السياق ــ إغفالُ دور الأب وشخصيته وموقفه من معاملة زوجته الجديدة لعصافير يمامةٍ غائبة. فإن كان ضعيف الشخصية، فلا شك في أنه سيتداعى، مع نوعية المعاملة، التي ستفرضها عليه وعليهم. أمّا إن كان مستقلًّا في شخصيته، مسيطرًا على حياته، فسيحرص على أن ينالوا معاملة حسنةً منها أو من غيرها. وإن كان هذا الحرص غير مأهولٍ، لتجاوز غير المستطاع؛ لاستحالة الوصول إلى تعويضٍ بديلٍ متكاملٍ لحنان اليمامة الغائبة.

  قد يسمح بعضُ الآباء لعصافير الغِيَابَيْن، بزيارة يمامة الماضي بين الحين والآخر. بينما آخرون يرفضون ذلك، بتفاوتٍ بين التواطؤ مع ما يأتي من ذلك بشكلٍ موارب على غفلة من الأب. وبين الصرامة في منعهم من الزيّارة، واتخاذ تدابير عقابية فيما لو علم بإقدام أحدهم على ذلك. ولم تغب عن ذاكرة بشير تلك الحادثة، التي كان مسرحها في إحدى القرى القريبة من قريته. إذ انفصل أحد الآباء عن يمامة عصافيره، واقترن بأخرى، وبعد أيّامٍ علم بأن ابنه الصغير قد زار أمه، فأسرف في عقابه بقسوة، ضربَه بأشياء حادة، وتركه غارقًا في أنينه ونزيف جروحه، حتى صُعقت الأمكنة بمفارقته الحياة.

عصافير الغِيَابَيْن أحفاد الأزمنة

   يُقلب بشير في ذهنه مواقف ومشاهد وحكايات، كلها زاخرة بمأساة عصافير الغِيَابَيْن. استوقفتْه ظاهرةُ عدم اكتراث الأب بعصافيره، حينما يتخلى عنهم ليمامتهم أو لغيرها، غير ملتزمٍ بأيّ التزامٍ من التزامات الإنفاق عليهم.

  قد يأتي هذا التخلّي المقيت، في سياقٍ من التفاهمات والتسوية بين الأب ومن كانوا أصهاره. ترسو على أن يتركهم ليمامة حنانهم، مقابل إعفائه من النفقات التي يتكفلون هم بها.

  أطلت في تداعيات التأمل الذي يستوعب شرود بشير أحوال تخلٍّ أخرى، لا يكون هذا النوع من التسويات والتفاهمات وراءها. وإنما خللٌ قيميٌّ في شخصية الأب غير المبالي، منعدم الشعور بالمسؤولية تجاه عصافير الغِيَابَيْن.

   ذهب به التداعي، إلى مشاركته في إحدى المناسبات الاجتماعية، التي التقى فيها بشابين ممن كانوا عصافير غِيَابَيْن، تكفّل برعايتهما جدهما لأمها، حتى بلغا مرحلة الشباب، ودلف كلٌّ منهما حياته الزوجية الخاصة. أكْبَرَ بشير ــ في هذه الحكاية ــ أن الأم بعد سنواتٍ من بتر علاقتها بأبيهما، لم يمانع أبوها في اقترانها بزوج جديد. لا سيما وأن أباهما، كان قد اقترن بغيرها، فور انفصالهما. ومثلما انتهت علاقته معها انتهت مع زوجته الثانية، التي انفصل عنها واقترن بغيرها، بعد أن خلّف منها ولَدين اثنين. تخلّى عنهما ــ أيْضًا ــ فتكفّل بهما جدّهما لأبيهما، بينما التحقت الأم بحياتها الجديدة، التي حتّمها زواجُها الثاني.

إشفاقٌ تأمُّلي

  تأمل بشير في نسق الحياة العامة، التي يعيشها عصافير الغِيَابَيْن. أشفق عليهم، وعلى حياتهم الجديدة المغايرة لما اعتادوا عليه؛ إذ تتمزق فيها ذواتهم، بمشاعر السخط والعدائية تجاه والديهما، منذ اللحظة الأولى التي ينفرط فيها عِقْدُ أمانهم.

   أشفق على حالهم الجديدة، التي تتنامى فيها هذه المشاعر باتجاه المحيط الاجتماعي، فتنعكس سلبًا على أصحابها. وهم يعيشون، في قلقٍ دائمٍ، وإحباطٍ قاسٍ، كلما لمسوا الفارق بين حياتهم وحياة أقرانهم، التي لم تُصَب عوائلهم، بما أُصيبت به عائلتهم من التمزق والشتات.

  أشفق على حالهم، التي تسحقهم فيها مشاعر الحرمان من الحنان. وعلى فقدانهم للأمان النفسي، الذي يستحيل أن يتوافر في أيّة بدائل، مهما كان الحرص على أن تكون في أعلى مستوياتها.

  أشفق على حالهم تلك، التي تفترسهم فيها المشاعر السلبية. تلك المشاعر، التي تنتظم جميعها في بوتقة واحدةٍ، من: الحزن، والوحدة، واهتزاز الثقة بالنفس، وما في سياق ذلك من تداعيات الألم الوجداني الشرس.

ماذا لو كانت الإيجابية مسارًا ممكنًا؟

   انتهى يوم بشير، لكن لم ينته شروده ولا انهماك تفكيره المتصل بهذه الإشكالية الاجتماعية المزمنة. لذلك، امتدت هيمنتها على ذهنه إلى المساء، ومن ثم إلى فراش نومه الذي صادرت منه النوم، وأحلت محله السهر والأرق، في ليلة بشير المتطاولة.

لا يدري كيف انتقل من حال التعاطف والإشفاق، إلى حالٍ أخرى، وجد نفسه فيها محاولًا صياغة سُبلٍ إيجابية، يمكن من خلالها التعاطي مع هذه الإشكالية. أو قل بكل بساطة، حاول البحث عن حلولٍ لما هو حاصل منها، وحلولٍ أخرى؛ لتحاشي الوقوع فيها.

معالجة الحال الواقعية

   كان يتحدث إلى نفسه بصمت: يمكن التعاطي الإيجابي مع الأمر وفقًا لمسارين يجب أن يكونا متوازيين. الأول مسار المعالجة لأحوال عصافير الغِيَابَيْن، بالعمل على إشباع احتياجاتهم الوجدانية: حبًّا وحنانًا وعطفًا وشعورًا بالأمن والاستقرار، وفتح آفاق تواصلهم مع الوالدين. وكذلك، إشباع احتياجاتهم المادية، فيما يتعلق بمستلزمات اللعب والترفيه. وبإشباع احتياجاتهم المادية والعاطفية، يمكن التخفيف من حدة التداعيات السلبية، التي يتركها فيهم تفرُّق شمل عائلاتهم.

   وفي المسار نفسه، أخذه التفكير في حال أم سلوى إلى النظر في فكرة التنوير المعرفي، فيما يتعلق بهذه الإشكالية. التنوير الذي يستهدف الرجال والنساء على حدٍّ سواء، فالأمية الثقافية ــ لا الأمية الأبجدية ــ ذات أثرٍ فاعلٍ، في الجهل بالثقافة الخاصة بتشريعات الاستحقاق الاجتماعي، حتى عند كثير من المتعلمين والمتعلمات؛ فأم سلوى المتداعية مع هيمنة العرف الاجتماعي، واحدةٌ ممن نلن قسطًا لا بأس به من التعليم الرسمي. وهذا يستدعي الإشارة إلى تلك الإشكالية التعليمية، المتمثلة في عدم تضمين المنهج التعليمي ثقافةً معرفية في هذا النسق. ولو على سبيل التأسيس التثقيفي، لهذا المنحى من المعارف الإنسانية.

احترازٌ استباقي

  هل انتهيت من تفاصيل المسار الأول؟ نعم.

  هكذا، سأل بشير نفسه، وأجاب. ليدخل في تفاصيل المسار الثاني، الذي يتعلّق بما يمكن اتخاذهُ من تعاطٍ استباقيٍّ ذي طبيعةٍ احترازية؛ للحيلولة دون تكرار هذه المشكلة وتداعياتها.

    من أرشيف قراءاته، تداعى إلى ذهنه ما وجد فيه إمكانية أن يعينه على التعاطي مع هذا المسار؛ فتذكّر رؤيةً سبق أن قرأها، في كتاب خبير في العلاقات الزوجية. تتناول تلك الرؤية حال الزوجين، اللذين يدركُ كل واحدٍ منهما بعد الزواج صفات وطبائع الآخر؛ إذ تتضح لهما نسبةُ التوافق والاختلاف فيما بينهما. وعلى ذلك، يمكن القول: إن من أهم ما يمكن اتخاذهُ من تدابير احترازيةٍ استباقيةٍ ماثلٌ في أن يتخذ حديثو الزواج قرارًا، في تأجيل عملية الإنجاب فترةً زمنيةً مناسبة. تكون هذه الفترة كافيةً، لأن يستطيع فيها كلٌّ منهما استيعابَ خصائص الآخر وطبائعه، ومدى إمكانية الاستمرار معه أو الانفصال عنه. وبحيث لا يأتي اتخاذ قرار الإنجاب، إلا بعد الاطمئنان إلى نسبةٍ معقولةٍ من الانسجام والتوافق بين الزوجين؛ حيثُ تتكشّف الآفاق الحقيقية للحياة الزوجية القادمة، بتفاصيل مستقبلها الواضحة.

بين الرضا والأرق

 ــ وماذا أيضًا؟ لا شيء هذا كل شيء.

  بهذا التساؤل والإجابة، بدأ بشير يتأرجح بين الرضا عمّا وصل إليه من أفكار، وبين ما يشعر به من أرق وإرهاق. لا سيما وأن الفجر قد كان على مقربة منه. كان الإرهاق يتمادى في النيل من مشاعر الرضا، التي بدأ انحسارها ــ ليس تداعيًا مع تمادي الأرق ــ ولكن بواقعية ما لاح من ضبابيةٍ في الفضاء الاجتماعي، واستحالةٍ في إمكانية تطبيق ما وصل إليه من أفكارٍ، غير مُتّسقة مع ماهية الواقع، وطبيعته، وخصوصيته.

  تعاظمت تلك السحابةُ الضبابية، وبدأت في تشويش تركيز بشير، وصولًا إلى شعوره بتبخُّر رؤيته وتفاصيلها بسلسلة من التثاؤب، التي أخذتْه إلى نومٍ عميق، امتد به حتى ظهر اليوم التالي. وحينما صحا، حاول أن يلملم أفكار الليلة الفائتة، وما يمكن البناء عليه. لم يستطع؛ إذ تداعت إلى ذهنه تلك المقولةُ المتقادمةُ المحيلة على فاعلية النهار في محو خواطر الليل، فلم يجد غير التداعي معها بإيجابٍ صامت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *