فتاةُ الشّوْك نادية أغنية الأودية والمراعي

فتاةُ الشّوْك نادية أغنية الأودية والمراعي

فتاةُ الشّوْك نادية أغنية الأودية والمراعي

د. عبده منصور المحمودي

فتاة الشوك(1).

ليستوفي فصلُ “الخريف” اشْتراطاتِ هيمنتِهِ ووجوده المتكامل، تمضيْ طُقوسُه مُخلِصةً في نسجِ مَاهِيَته الشَّاحِبة. يتنامى تصاعدُها، تجريدًا للأشجار من معاني خضرتها المتكاثفة في أوراقها. حيث يختلف مستوى الاستجابة لهذا التجريد، من شجرةٍ إلى أخرى، باختلاف أنواعها وعائلاتها.

  تتكامل في “الخريف” اشتراطاتُ ماهِيَتِه ــ تلك ــ فيتجَلّى في صورةٍ من الانْتكاساتِ المُتتالية. انتكاسات تذْرِفُها الشَّجرُ مَع كُلِّ وَرقَة تُغادِرُ غُصْنها. حتّى تلكَ الفُرُوع التِي تُحاوِلُ ــ جاهِدةً ــ الثّبَات فِي وَجْهِ الطُّقُوس الخريفيّة، سُرعان مَا يَخْذلها جَوْهرُها الذي يحتسي فراغَه من أيِّ أهْلِيَّةٍ، يمكن أن يواجه من خلالها هذا التحوّل. لذلك؛ لا يجد سوى الإذعان، ثم التعري من ألوان أوراقه.

 محدودةٌ هي الأشجار القليلة. تلك، التي يمتدُّ اعتِراكها ــ مع سطْوة “الخَريف” ــ أيَّامًا، أو أسَابِيْع. من تلك القلة المحدودة، ما لا تصل به قدرة المواجهة حتى انتِهاء فصل “الخريف”. لذلك؛ يرفع أغصانه رايةً للاستسلام، مُجرّدةً من أوراقها. ومنها ما يستطيع الخروج من الخريف بما يحفظُ به ماءَ لونهِ. كأن تتشبّثَ به أوراقٌ، يُفصحُ اصفرارُها عن بلوغها حالًا متقدمةً من الإنهاك.

شجرة “السدر” وفتاةُ الشّوْك نادية

      شجرةُ “السّدر” عصيةٌ على هذه النواميس الفصلية. يفقد “الخريف” على ثباتها اللوني سطوته. ويبتلع هزيمته وانكساره. ويستمر مهرجانُ الخضرة احتفالًا بديمومته على غصونها، غير مفرّطة في أوراقها. وكأنها على علمٍ بمكانتها، في حياة كثيرٍ من المزارعين. وعلى علمٍ بمسؤوليتها تجاه أغنامهم. فعليها يُعَوِّلون الاضطلاع بسد حيزٍ، من حاجة أغنامهم إلى طعامٍ، تنجو به من محنة “الخريف”.

    تلك المحنة، المتمادية في مُصادرتِها لممكناتِ الرعي، في السفوحِ منزوعةِ الجدوى، بعد تساقط أوراق أشجارها القصيرة. هكذا ينجو موردُ رزقٍ مهمٍ في سياق ما يتخذه المزارعون، من سبلٍ متنوعةٍ. من أجل تأمين أبسط قدرٍ ممكن من مقومات الحياة. وهكذا هي أغنية الأودية والمراعي ــ فتاةُ الشَّوْك نادية ــ التي وجدتْ نفسها بالتزامن مع خريفها الثالث والعشرين أمام مسؤولية إنقاذ قطيع أغنام العائلة، في أول أسبوع/ شهر من انتقال مهمة الرعيْ إليها.

     انتقلتْ مُهِمّةُ الرعي إلى نادية، من أختها الكبرى صفية. بعدما التقطها قطار الزواج. هذا القطار الذي يبدو متلكئًا ومترددًا في المرور بنادية، التي لم يتجاوز تعليمها “الصف السادس”. حيث تتوقف عنده رحلة النور غالبًا، بالنسبة لجميع فتيات قريتها، متعثرةً بعدم السماح لهن بالسير في الطريق الذي يسير فيه زملاؤهن. وفي مدرسةٍ متوافرٌ فيها التعليم حتى آخر صفوفه، يمكن لهؤلاء الزملاء أن يصلوا إلى الصف الأخير. أمّا هنّ، فلا يكون بانتظارهن غير العمل المُوْكلِ إليهن من عائلاتهُنّ. كالرعي، في حال نادية.

    على الرغم من حداثة استلامها لهذه المهمة، إلا أنها تعرف ــ جيدًا ــ تفاصيل عملها. وعلى ذلك، فعليها في كل “خريف”، أن تتلقى من أبيها بعض الإرشادات، التي تفرضها خصوصية هذا الفصل.

تعليمات “الخريف”

   هذه واحدةٌ من ليالي الخريف الجرداء. وفيما اعتادت الأسرة على قضائه من مسامرة مقتضبة ــ ككل ليلة ــ يتطرق الأب إلى بعض التفاصيل، التي على نادية إنجازها؛ فطعام القطيع غدًا، سيكون جزءًا من سدرةٍ، تنتصب في طرف مزرعةٍ، على بعد كيلومترين من القرية.

   لم تُقطع أغصان هذه السدرة منذ سنتين. وقد أخذ الأب إذنًا بقطعها من مالك المزرعة. وعلى خلاف الملاك الآخرين، الذين اعتادوا على تربية أشجار السدر لبيعها في الخريف، اعتاد هذا المالك ــ الذي ينتمي إلى الفئتين الأوليين من ملاك الأرض ــ على الاكتفاء بشرط واحد، مقابلَ الاستفادة من أشجار السدر المنتشرة في مزارعه. هذا الشرط هو تسييج المزارع، بالأغصان كثيفة الشوك. بعد أن تستنفد الأغنام أكل أوراقها.

   سيكون التسييج واحدًا من تفاصيل الغد. وهو ما يعني توفير الأب على نفسه، عبء دفع الثمن. فيما لو كان المالك، من الفئات الأخرى. الذين يحرصون على قبض ثمن أشجار السدر نقودًا، أو هديةً من القطيع نفسه. مع اشتراطهم ــ في الغالب ــ أن تكون الهدية من صغار القطيع، ذات الخصوصية المشتهاة من اللحم.

     كانت التعليمات التي نامت عليها فتاةُ الشّوْك نادية واضحةً لها. وفي مداعبة الصباح لاستيقاظها كانت نصب عينيها. فدلفتْ بمعية صفية، إلى تراتيل الصباح خلف القطيع المنسوج بأغنامها وأغنام صهرها ــ زوج صفية ــ الذي يتقدم القطيع متمنطقًا فأسه. حتى احتضنهم وقطيعهم محيطُ السدرة.

تعرية السدرة     

     يتسلق زوج الشقيقة الكبرى فروع السدرة، بمهارةٍ عاليةٍ، اعتاد عليها كخبرةٍ اكتسبها من عمله راعيًا لسنوات من شبابه. شرَعَ بفأسه يُعَرِّيها من أغصانها اللدنة الشوكية الخضراء، فتتساقط إلى محيطها كومةً بعد أخرى. وكلما سقطت كومةٌ، فرَّقتْ الشقيقتان أغصانها: تقف كلُّ واحدةٍ منهما في جهة من الكومة متلمّسةً واحدًا من أغصانها، من طرفه الأسفل. حيث قَطَعَ الفأسُ للتو صلةَ قرابته بالسدرة. تُشَذِّبُ فيه من الشوك ما يكفي مساحةً لكفِّها، لتتمكن من الإمساك به وسحبه. ثم في لحظةٍ متزامنةٍ تسحب كلُّ واحدةٍ منهما الغصن، الذي أمسكت به من أسفله نحوها. حتى يتحرر الغصنان من كومتهما.

   لا مناص من تكرار هذا الروتين، حتى آخر كومةٍ؛ ليتكامل تشتيتُ الأغصان تباعًا. وتندفع الأغنام؛ لالتقاط أوراقها ورؤوسها اللدنة. وبذلك، تغادر الأوراقُ منابتها في الغصون، التي تظهر أشواكها أكثر كثافة، كأسنان مغطاة بطبقة من الرماد.

    يتوالى تساقطُ كُتَلِ الأغصان الشوكية، متكوِّمة على الأرض. وبين سقوط كل كتلة وأخرى مسافةٌ زمنية غير ثابتة. تحددها اعتبارات متعددة: كخصوصية الشجرة. والتواءات فروعها. وخبرة القائم بتعريتها من أغصانها.

    من أعالي السدرة، قدّرَ صاحب الفأس أن ما اقتطعه من غصونها، يكفي طعامًا للقطيع هذا اليوم. وعلى ذلك، اتخذ قراره في التوقف. ولا مناص لمن هو في مكانه من اتخاذ مثل هذا القرار؛ ليؤمّن طعام القطيع أيامًا قادمة، حتى آخر جزء من أغصان السدرة.

   نزل من الشجرة بسرعة. لكن ليس برشاقة الشباب، التي كانت موضوع حديث الفتيات كل “خريف” وبعد اطمئنانه إلى انهماك القطيع في قضم لدانة الأغصان وأوراقها، ذهب نحو جهته التالية. واحدة من المرزارع القريبة؛ فهو بحاجة إلى “مقيل” قصير لراعي أغنام.

مهمتان: تسييجٌ ورعي

    في خضم تشتيتهما للأغصان، تنسج الشقيقتان المكان بها حتى آخر كومة. ثم تحتفي بهما مهمتان: تسييج المزرعة، والانتباه للقطيع. تتولى صفية المهمة الثانية، حائلةً دون شرود أيٍّ من القطيع، باتجاه عمق الوادي أو باتجاه السفح القريب. وبالمهمة الأولى تضطلع فتاةُ الشّوْك نادية؛ فكلما لاحظت مجموعةً من الأغصان مستنفدةَ الأوراق، أعادتْ تجميعها بـ”المَشْعِب”؛ أداتها ذات المقبض الواحد والرأسين متفاوتي الطول، والملازمة لكتفها بمعية فأسها الصغير. والتي اعتاد المزارعون على صنعها من غصن ذي فرعين، يكتسب بعد قطعه وتشذيبه هويةً جديدة؛ أداة لجمع الأغصان وحملها؛ لبناء سياجٍ شوكيًّ، يحمي الحقول وزرائب الأغنام.

   ها هي فتاةُ الشّوْك نادية تنجز بأداتها مهمة تسييج المزرعة: تكوِّم الأغصانَ مستنفدةَ الأوراقِ، بمهارةٍ وحرصٍ على إضفاء التماسك بين الأغصان والتداخل بين فروعها الصغيرة. تقوم بذلك، موَجِّهَةً بالأداة نفسها، ضرباتٍ متتالية، يتسطح بها شكل الكتلة. ثم تحمل كل كتلةٍ إلى خط التسييج. وتلقي بها في وضعيةٍ، يكون نصفها الأول فوق سابقتها، ونصفها الآخر في خط التسييج حتى انتهاء الخط.

   عليها أن تُكَثِّفُ السياج بدورة أخرى، فتضيف خطًا ثانيًا من الكتل الشوكية فوق الخط الأول. إذ توجّه ضرباتٍ جديدة، إلى الكتل المتراصفة؛ لإضفاء مزيدٍ من التشابك، بين فروع الأغصان الشائكة.

   يتشكل السياج متماسكًا. يحيط بالمزرعة، من جهتها المحاذية للطريقِ، الفاصل بين جانبي الوادي، كمسارٍ لحتميةِ مرورِ السيلِ في الوادي. أما الجهات الأخرى، فمجاورتُها لمزارع مسيّجةٍ بالشوك، وفّرت على نادية عناء ثلاثة خطوطٍ من التسييج.

     بتفانٍ واضح تغزل نادية تفاصيل الموقف. تبدع سياجًا شوكيًّا يليق براعية محترفة؛ عباءتها مرفوعةٌ من طرفها السفلي ومعقودة إلى خصرها، لكي يسهل عليها إنجاز المهام بانسياب وخفة، متفاديةً نشوب الشوك في العباءة السوداء المخصصة للرعي. أتاح هذا التفادي مجالًا؛ ليظهر الجزء الأسفل من فستانها ذي الخاصية الشعبية المُصْطَلح عليه بـ (الزّنة). بلونه الأحمر الفاتح. وخامتهِ المتوائمة مع المستوى الاقتصادي لأسرتها. لا يستدعي فستانها رفعًا وانعقادًا كالعباءة. وذلك؛ لاختلافهما، إذ ينتهي طرفه السفلي في منتصف الساق، متقاصرٌ عن مقاس العباءة الذي يصل حتى الكعبين.

العودة ذات الشرود

    عندما بدأ استعداد الشقيقتين لمغادرة المكان، كان هدوء اللحظة يشف عن مستوى رشاقتهما: اكتنازٌ ملحوظ يميز نادية، وبشرة بيضاء أفصح عنها تحررُ كفيها من قفازيهما. تفتقر الأخرى لهذا التميز. موغلةٌ فيها النحافة، كما هو موغل فيها التصابي في كثافة المكياج، بألوانٍ غير متجانسةٍ على وجهها. الذي حررته من خمارها ملقيةً، بما يغطي وجهها منه على رأسها.

  مع الانْتهاءِ من هذه التفاصيل، التي اكتَظَّتْ بها سَاحةُ تلك “السَّدرة”، تُغادر الفتاتان المكان. صفيّة في مُقدّمة “القطيع”. وخلْفه نادِية. تَسْيرانِ بهِ سيْرًا هَادِئًا، مُخْتلفًا عن سيْرِ الصَّباح. حالُ هدوئِهِما ــ وبطْء خُطوَاتِهما ــ تأتي انعكاسًا لهُدوء قطيعهما وبطْء خُطواتِه. كما أن هذه الحال ــ من ناحيةٍ أخرى ــ تجلٍّ لحال هذا القطيع، بعد إشْباعه.

    لحظاتُ عودتهما الهادئة بالقطيع، تتيح لنادية مساحةً مقتضبةً من التأمل والحديث الداخلي. عيناها تتنقلان بشرود، في اتجاهات الأفق. لا بد أنها تحدث نفسها. تسأل، وتتولى الإجابة في الحين نفسه: غدًا وبعد غدٍ، ستكتفيان بتفريق أغصان الشوك؛ فالأغصان التي تُركتْ على السدرة، ستسد جوع القطيع ليومين قادمين. لن يرهقك التسييج؛ فقد استطعتِ اليوم إنجازه. لكن بعد أن تنتهوا من سدرة اليوم، أيّةُ سدرةٍ تنتظرك يا نادية؟ بل قولي: أية مزرعةٍ تنتظرك لتسيِّجيها بأغصان الشوك؟ أو بالأحرى قولي: متى سينتهي هذا الدور الرتيب؟ متى ستحل سلوى مكاني؟ ربما بعد أن أحظى بالزواج، مثلما حدث مع صفية. ماذا لو كان نصيبي مثل صفية، زوجًا يتخذ من الرعي وسيلةً إضافية تعينه على مواجهة الحياة؟ سيجمعنا المصير، ستتكرر الرتابة! لا. لا أتمنى أن يكون نصيبي مثل نصيبها. ومن قال إن مثل نصيبها لا يزال متاحًا؟ اللعنة! حتى مثل نصيبها لا يبدو ميسورًا؟

تساؤلات متقاطعة وارتواء قطيع

      تتقاطع التساؤلات التي تشتبك معها فتاةُ الشّوْك نادية. تقلبها في ذهنها. تجد إجابةً لبعضها، فتتناسل من الإجابة أسئلةٌ أكثر إرباكًا. ينقطع حديثها الداخلي. ويتلاشى تأمُّلها المقتضب، مع اقتراب القطيع من خزانِ ماءٍ خرسانيٍّ جوار بئرٍ ارتوازية. يتدافع القطيع نحو حوضٍ إسمنتيٍّ صغيرٍ، يستوعب ماء صنابير الخزان التي فتحتها صفية. تتزاحم الأغنام حول الحوض. ويبدأ المرتوي منها يلحق بصفية. ولم تغلق نادية الصنابير النحاسية، إلّا بعد أن خفّ التدافع، بالتدرّج الذي أنهى به القطيع عطشه. انسابت خطى نادية خلف انسيابه في طريق العودة. حاولت استئناف حديثها مع نفسها. فلم تستطع مقاومة شتات الذهن وقيض الظهيرة الذي يزوبع تحت خمارها.

إضاءة

يمتد فصل “الخريف” في اليمن من شهر “سبتمبر/ أيلول” حتى شهر “نوْفمبر/ تشرين ثاني”. درجَاتُ الحَرارةِ فيه، تتَراوَح بينَ ما يُقارب (26)، و(32) درجةً مئوية.


  1. عبده منصور المحمودي، خيوط ـ 21 سبتمبر/ أيلول 2020م. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *