وظائف الصورة الشعرية

وظائف الصورة الشعرية

د. عبده منصور المحمودي

تتعدد المحاور والأبعاد، التي يتم من خلالها التعاطي مع الصورة الشعرية إبداعيًّا ونقديًّا. منها ما يتعلق بتلك الرؤى، التي تناولت وتتناول الصورة الشعرية، من زاوية فنية. وهي مرتبطة بشكل جوهري بأهمية الصورة، والوظائف التي تضطلع بها في إنجاز النص الشعري.

  لقد تحدّث النقاد باستفاضة عن أهمية الصورة الشعرية، ودورها في العملية الإبداعية. فقالوا: إن الشعر لا يكون شعرًا إلاّ بالصورة(1). وأنها البنية المركزية للشعر(2). ووسيلته(3). و”جوهر العالم وقطب رحى الوجود”(4). و”مبدأ جوهري في الجمالية”(5).

     ولا غرابة في أن الصورة الشعرية “تتربع على سائر الأدوات الشعرية فبحضورها أو غيابها يُحكَم على هذا الكلام الذي نسميه شعرًا”(6). إذ أن”من أهم ما يميز الشعر في كل اللُّغات مادته التصويرية…”(7). وذلك؛ لقدرتها على التوحيد، بين أشياء الوجود وصهرها وإعادةِ تركيبها(8).

   وللارتباط النسيجي بين أهمية الصورة ووظيفتها الفنية والشعرية، فيمكن الوقوف على المسارات الفنية التي تتمحور فيها وظيفة الصورة. من مثل اضطلاع الصورة الشعرية بـ: تجسيد التجربة الشعرية. والإيحاء. والتزيين والتقبيح. والشرح والتوضيح. والسخرية.

وظيفة تجسيد التجربة الشعرية

  أولى وظائف الصورة الشعرية، وأهمها، هي وظيفتها الماثلة في تصوير التجربة الشعرية. فالشَّاعر، شأنهُ شأنُ أيِّ فنانٍ، يعيْشُ تجربةً تُولّدُ في نفسِه أفكَارًا وانفعَالات. هذهِ التّجربة بحاجةٍ إلى وسيلةٍ تتجسّدُ فيْها. هِي تقنيةُ الصُّورة(9). التي من خلالها تتبلور التجربة الشعرية. في مُنْجَزٍ نصيٍّ، يستوعب تفاصيلها، وتجلياتها، ومضامينها، والمؤثرات الفاعلة في تشكيلها.

الوظيفة الإيحائية

   تكتنز الصورة ما تحتاج إليه التجربة الشعرية من بُعدٍ إيحائي. ذلك؛ لأن الإيحاء سمةُ الشعر الرئيسة. وبدونها لا يُعدُّ الشعرُ شعرًا؛ لأن “لغة الشعر لغة إيحاءات على النقيض من لغة العلم التي هي لغة تحديدات”(10).

والقراءة الشعرية الحقَّة، تبدأ بالتقاط الإيحاءات التي تشعها الأبيات. في حين يستطيع قارئ ثانٍ أن يلتقط إيحاءات أكثر عمقًا وخفاءً. من دون أن يربط بين هذه الإيحاءات، أو يؤلف بينها.

   كذلك، يستطيع قارئٌ ثالثٌ ــ أكثر عمقًا وتمحيصًا ــ أن يؤلف بين الإيحاءات المختلفة، التي يلتقطها في القصيدة. فيخرج من هذا التأليف والتقابل بين الإيحاءات بإيحاءات ودلالات أخرى جديدة. لا تكف عن النمو والتنوع والعمق. وهذه هي سمة الفن العظيم في كل عصر. حين تحمل “الصورةُ البُعدَ الإيحائي ويتفتح فيها أكثر من وجه وبُعدٍ دلالي؛ فيقوى عنصرُ الترميز فيها”(11).

وظيفة التزيين والتقبيح

   تشير هذه الوظيفة إلى قدرة الكلام البليغ، على خداع المخاطب وإيهامه, وهو الأمر الذي أشار إليه الجاحظ، في كتابه “الحيوان”، ضمن سياق حديثه عن إشباع الشاعر، للصفة في الحالين: المديح والهجاء, فإشباع الصفة في حال المديح هو التحسين, أما إشباعها في حال الهجاء فهو التقبيح(12).

  وإذا كان أشعر الناس هو الذي يأتي إلى “المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرًا أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيسًا”(13)؛ فإن ذلك لم يكن ـــ في ظني ـــ إلا لأنه احتفل بالتصوير الذي يهز الممدوحين، ويحركهم ويحدث ضربًا من الفتنة في نفس المتلقي(14). وبذلك، فإن التزيين والتقبيح مصطلحان يشيران إلى قدرة المبدع، على تغيير وَقْعِ المعاني والأفكار في نفس المتلقي، حينما تصبح الصورة وسيلته الأساسية في ذلك.

وظيفة الشرح والتوضيح

  يمثل الشرح والتوضيح الخطوة الأولى في عملية الإقناع, فمن يريد إقناع الآخرين بمعنى من المعاني، عليه أن يشرحه لهم بادئ ذي بدء, ويوضحه توضيحًا يُغري بقبوله والتصديق به, وهذا هو ما كان يقصده القدماء بـ(الإبانة)، التي “ردُّوا إليها جانبًا كبيرًا من بلاغة الصورة وتأثيرها”(15), ذلك أن الإبانة تعني: “التوضيح والشرح أو التعبير عن المعنى بطريقة تقرِّبُ بعيدَه وتحذفُ فضولَه, وتصوره في نفس المتلقي أبينَ تصوير وأوضحَه”(16).

وظيفة السخرية

     السخرية “نوع من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي الذي يقوم على أساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائص الإنسانية، الفردية منها والجمعية”(17). وتكمن أهميتها الفنية، في أنها تعمل على “تخفيف التوتر الذي يعيشه الإنسان في هذا العصر المليء بالكآبة وأسباب الحزن, فهي تعمل على إراحة النفس وإخلاء العقل إلى التوازن وبثِّ الحيوية في الجسد المتعَب”(18)، وتصوير ما لا ينسجم مع المسار الإنساني، أو المسار الاجتماعي.

   وتعد وظيفة السخرية، وظيفة مهمة من وظائف الصورة الشعرية؛ لما تقوم عليه من إمكانية القدرة على كشف الوضع الراهن وفضحه ونقده، في الأخلاق والسياسة والسلوك والتفكير(19)، بطريقة فكهة مثيرة للضحك.

     وبذلك، اتضحت بعضٌ من معالم أهمية الصورة ومكانتها الإبداعية، التي تتبلور في عدد من وظائفها الفاعلة في الصياغة الشعرية، والاستيعاب التعبيري لمعطيات التجربة الشعرية، على اختلاف روافدها، وأشكالها، وتداعياتها.

الهوامش والإحالات
  1. يُنظر: محمد غنيمي هلال، “دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده”، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص: (73). ↩︎
  2. يُنظر: رينيه ويلك، وأوستن وارين، “نظرية الأدب”، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الدين الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 1981م، ص: (239). ↩︎
  3. يُنظر: عبد القادر الرباعي، “الصورة الفنية في شعر أبي تمام”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، بيروت، 1999م، ص: (41). ↩︎
  4. نفسه، ص: (42). ↩︎
  5. جيرار برا، “هيجل والفن”، ترجمة: منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1413هـ ـــ 1993م، ص: (6). ↩︎
  6. ناصر دحان، “شعر أحمد محمد الشامي, دراسة موضوعية وفنية”, رسالة ماجستير (غير منشورة), جامعة بابل, 2002م, ص: (115).                      ↩︎
  7. شوقي ضيف، “دراسات في الشعر العربي المعاصر”, دار المعارف، ط10,  القاهرة, (د.ت), ص: (229). ↩︎
  8. يُنظر: ساسين عساف، “الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس”, المؤسسة الجامعية، ط1, بيروت, 1982م, ص: (27). ↩︎
  9. يُنظر: محمد غنيمي هلال، “النقد الأدبي الحديث”. دار نهضة مصر، القاهرة، 1997م، ص: (417). ↩︎
  10. أدونيس، “زمن الشعر”، دار الفكر، ط5، بيروت، 1986م، ص: (164).     ↩︎
  11. بشرى موسى صالح، “الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث”، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1994م، ص: (59).                                                             ↩︎
  12. يُنظر: الجاحظ، “الحيوان”. تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، د.ت, جـ5/ ص: (174‑ 175).  ↩︎
  13. أبو هلال العسكري, “كتاب الصناعتين الكتابة والشعر”, تحـقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم, وعلي البجاوي, المكتبة العصرية, بيروت,1986م, ص: (380).                ↩︎
  14. يُنظر: عبد القاهر الجرجاني, “أسرار البلاغة”, قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـــ القاهرة، دار المدني ـــ جدة، 1412هـ ـــ 1991م، ص: (343،342).                                                                ↩︎
  15. جابر عصفور, “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب”، المركز الثقافي العربي، ط3، بيروت، 1992م, ص: (333).         ↩︎
  16. نفسه. ↩︎
  17. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك، رؤية جديدة”، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (289)، يناير 2003م، ص: (51). ↩︎
  18. قادري أحمد حيدر، “البردوني ساخرًا”, مركز عبادي, صنعاء, ط1، 2003م, ص: (92،91). ↩︎
  19. ينظر: شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك رؤية جديدة”، مرجع سابق، ص: (52). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *