الصورة الشعرية الحسية المفهوم والرؤية النفسية

الصورة الشعرية الحسية المفهوم والرؤية النفسية

د. عبده منصور المحمودي

  تأتي الصورة الشعرية الحسية، في السياق العام للصورة الحسية. التي تُعرّف بأنها تلك الصورة التي تُوطِّد علاقة موضوعية، تقوم على التراسل بين شيئين محسوسين، وتبقى كلية في نطاق المحسوس.

   وكل إنسان يجد في الصورة ــ وفي عناصرها المكوِّنة لها ــ تراسلات تخص الحواس(1)، من: لون، ونضارة، ونكهة، وشكل، وكتلة، وبُعْد، أو نسب. وهي تنجم مباشرة عن تعادل يقوم على الحواس(2)؛ بناءً على إحساس نفسيٍّ بالدرجة الأولى.

[1ــ1]: الصورة الحسية في النقد العربي القديم

   لا نعدم إشاراتٍ إلى دور الحواس، لدى نقادنا القدامى وبلاغيينا. فمنها ما أورده ابنُ طباطبا، بقوله: “العلةُ في قبول الناقد للشعر الحسن الذي يَرِدُ عليه, ونفيِه للقبيح منه… هي أن كل حاسة من حواس البدن تتقبل ما يتصل بها مما طُبعت له”(3).

 وعلى ما في هذا القول من إشارةٍ ذكيّة، إلّا أن هذا الإدراك لدى بعض الأقدمين، لم يتطور إلى ما ندعوه اليوم بالصورة الحسية. ذلك، لأن هذا النمط من الصورة، نما في ظلِّ الدراسات، التي ربطت بين التخييل ودوره في استحضار الصورة الحسية. بينما نجد أن بعض النقاد القدامى، قد اعتبروا التخييل ضربًا من الكذب و المخادعة. وقد اضطرب عبد القاهر الجرجاني نفسه، في فهمه، و خلص إلى أنه مناقض للعقل، الذي يستلزم التصديق(4).

[1ــ2]: بين الجرجاني والقرطاجني

  يرى الناقد الدكتور جابر عصفور أن عبد القاهر الجرجاني، في رؤيته ــ تلك التي تتضمّن مفهومه للتخييل؛ بوصفه مناقضًا للعقل الذي يستلزم التصديق ــ  لم يُجِدْ فهمَ الأساسين: الفني، والنفسي. اللذين يقوم عليهما مفهوم التخييل. على خلاف حازم القرطاجني، الذي اعتبره الناقدَ العربي الوحيد، الذي استطاع أن يدرك الطبيعة الحسية للشعر، و قدرة صوره على التقديم الحسي(5). لأن التخييل عند حازم، هو “أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المتخيل أو معانيه أو أسلوبه و نظامه، وتقوم في خياله صورة، أو صور ينفعل لتخيلها و تصورها”(6)

   ويبدو أن هذا هو السبب، في فهمه للصورة فهمًا مخالفًا لما درج عليه القدماء. فقد كانت تشير عندهم إلى مجرد الشكل أو الصياغة. وانحصرت وظيفتها في التقديم الحسي للأشياء. بينما أصبحت عند حازم القرطاجني ذات دلالة سيكولوجية خاصة، تتوافق مع الاستعادة الذهنية لمدرك حسيٍّ، غاب عن مجال الإدراك المباشر(7).

[2]: شعرية الصورة الحسية

   تتمدد الصورة الحسية في فضاءٍ واسع في غاية السعة, إذ يشمل كل الصور التي ترتد في موضوعاتها إلى مجالات الحياة الإنسانية، والحياة اليومية(8). وتشكِّل العناصرُ الحسية الجزءَ الأكبرَ من الصورة الشعرية. فلابُدَّ لأية صورة أدبية من نسبة حسية. فليس بالإمكان أن تبعُد الصورة عن سلطان الحواس. ذلك؛ لأنها “النافذة التي يستقبل الذهنُ بها رياحَ الحياة والتجربة، كما أن الذهن محتاجٌ في كثير من اعتمالاته إلى الحواس لترجمة تلك الاعتمالات, فتكون الحواس بهذا المنحى أهم وسائل الذهن في الاستقبال والبثّ”(9).

  وتشكيل الصورة الحسية لدى الشاعر ليس تسجيلًا سطحيًّا للطبيعة أو محاكاة لها. ولكن الواجب على الشاعر أن يتغلغل من خلال أحاسيسه في الطبيعة، فيقع على المشهد، أو الحركة الخفية(10). لأن الأساس الحسيّ، يعني “انعكاس المشاعر على الأشياء من خلال المدرَكات الحسية”(11).

[3ــ1]: الصورة الحسية النفسية

  على ما تقدّم من إشارات إلى دور الحواس، في المساعدة على تشكيل أبعاد الخيال. إلّا أن العناصر الحسية بحد ذاتها، لا تعدو مجرد كونها وسيلة يهتدي إليها الخيال المبدع. لإحداث أثَرٍ ضمن سياقٍ، تشترك فيه جميع طاقاته الفكرية والنفسية. فهي لا يتم اختيارُها كونها تبدو في ذاتها جميلة، فجمال العناصر أو قبحها لا يعني شيئًا بالنسبة للشعر الحديث. إذ المهم أن تكون الصورة الحسية ــ في مجملها ــ معبرة ناقلة للمشاعر الصادقة نقلًا مثيرًا. معتمدةً على وضع المتلقي، في عالمٍ تخيلي، يستلهم به الأثر الشعوري، الذي يوحي به المعطى الحسي للصورة(12).

    وسبيل ذلك، هو انتقال الصورة من الإدراك الحسي، إلى عالم الشاعر النفسي. ففي الإدراك الحسي، وتفاعل الشاعر معه، تكون جودة العمل الفني. وهذا ما دلّت عليه التجارب النفسية. حين وجدت تفاوتًا كبيرًا بين الأفراد في الإدراك الحسي؛ “فمنهم البصريون الذين يكون إدراكهم للمرئيات واضحًا دقيقًا مستوعبًا. ومنهم السّمعيون، الذين يقوى فيهم إدراك الأصوات والنّغمات، ومنهم اللّمسيون الذين تقوى فيهم حاسّة اللّمس، فتدرك الملموسات إدراكًا تفصيليًّا واضحًا، ولا ريب أن قوة الإدراك الحسّي في ناحيةٍ من النواحي تساعد على دقّة الوصف في الناحية نفسها”(13). ثم يأتي دور النفس، وهي مقياس الوقت في الإحساس أو في التّصوير الشعري الذي هو جزءٌ من هذا الإحساس. وهي لِغِناها الشعوري، والتصوّري، والخيالي، فوق هذا المقياس، تملك حرية التّصرّف الفنيّ فيه. فتُطيل الزمن، وتختزله بما يناسب رغبتها، من دون أن يحدّ من طلاقتها الحسّ والاسترجاع(14).

[3ــ2]: العقاد والصورة النفسية

    بناءً على هذا الفهم النفسي لطبيعة التصوير الشعري،  يحدّد العقاد منبع الصورة الشعرية. مركّزًا ــ في الوقت نفسه ــ على الجانب الحسّي والشّعوري فيها. فهو يرى أن الملكة الشاعرية بخاصّة ــ والفنّية بعامّةٍ ــ هي آلة التصوير، التي فيها تتجمّع الصور. ومنها تتوزّع بعد إعادة تركيبها وتشكيلها من جديد. ولكن يجب أن تعطيها النفس من سعة الإحساس، وقوّته، مايمكّنها من التقاط كل صور العالم، في صورةٍ كاملةٍ، وتقديمها إلى المتلّقي نابضةً بالحياة(15).

[3ــ3]: مهمتا الشاعر: حسية ونفسية  

    من خلال هذه الرؤى، يتضح لنا أن الجانب الحسّي، ما هو إلا مرحلة تمرّ بها الصورة الشعرية. لتمتزج بعد ذلك بالجانب النفسي. ذاك الجانب، الذي يتمثّل في المشاعر التي تتلقّاها النفس. وهنا يتوجّب على الشاعر أن يقوم بمهمّتين: مهمّة حسية نفسية، ومهمة جمالية مؤثرة.

   ومن هنا كان اهتمام النقاد بالجانب الحسي في الصورة الشعرية، مُتّبِعين الطريقة التي صنف بها علماء النفس الصورة، بحسب الحواس. فصنّفوها إلى: صور بصرية Visual image. وسمعية Auditory imago. وذوقية Olfactory image. وشمية  Motor image. وصور حركية(16).


  1. يمتلك الإنسان خمس حواس رئيسةٍ، هي: حاسة البصر، وحاسة السمع، وحاسة الشمّ، وحاسة اللمس، وحاسة الذوق. ↩︎
  2. يُنظر: فهد عكام، “أنماط الصورة في شعر أبي تمام”. مجلة التراث العربي، دمشق، العدد: (18)، 1985م، جـ2/ ص: (156). ↩︎
  3. ابن طباطبا, “عيار الشعر”. عبد العزيز بن ناصر المانع (تحقيق). دار العلوم, الرياض، 1985م, ص: (20،19). ↩︎
  4. ينظر: عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة”، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـــ القاهرة، دار المدني ـــ جدة، 1412هـ ـــ 1991م، ص: (236،235). ↩︎
  5. ينظر: جابر عصفور، “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب”. ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992م، ص: (298).
    ↩︎
  6. حازم القرطاجني، “منهاج البلغاء و سراج الأدباء”. محمد الحبيب بن الخوجة (تحقيق). ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م، ص: (89). ↩︎
  7. ينظر: جابر عصفور، “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب”. المرجع السابق، ص: (299،298). ↩︎
  8. ينظر: وجدان الصائغ, “الصور الاستعارية في الشعر العربي الحديث”.  ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت, 2003م, ص: (114). ↩︎
  9. عبد الإله الصائغ, “الصورة الفنية معيارًا نقديًّا”. ط1، دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, 1987م, ص: (11). ↩︎
  10. عز الدين إسماعيل, “التفسير النفسي للأدب”. دار العودة, بيروت, د.ت, ص: (105). ↩︎
  11. عز الدين إسماعيل, “الأسس الجمالية في النقد العربي, عرض وتفسير ومقارنة”. ط3، الشؤون الثقافية, بغداد, 1986م, ص: (212). ↩︎
  12. ينظر: عبد الكريم قحطان، “الصورة في شعر لطفي جعفر أمان”. دار الثقافة العربية، ط1، الشارقة، 2002م، ص: (115). ↩︎
  13. عبد القادر حامد، “دراسات في علم النفس الأدبي”. لجنة البيان العربي، المطبعة النموذجية، القاهرة، د.ت، ص: (31). ↩︎
  14. نفسه، ص: (309).      ↩︎
  15. ينظر: عباس العقاد، “ابن الرومي، حياته من شعره”. المكتبة العصرية، بيروت، 1982م، ص: (264). ↩︎
  16. ينظر: حيدر محمود غيلان، “الصورة الشعرية في النقدين العربي والإنجليزي، دراسة مقارنة لمفاهيمها ومناهج دراستها في العصر الحديث”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ــ 2004م، ص: (307). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *