العائد بعتمته البيضاء

العائد بعتمته البيضاء

العائد بعتمته البيضاء

د. عبده منصور المحمودي

    لم يَكُنْ لدى الحاج أحمد توَقُّعٌ غير هذا الذي يسمعُه الآن، على شفاه أحد العاملين مع البعثة الطبية: “المرحلة الأولى كانت للمعاينة. وقد انتهتْ قبل يومين. والفريق الطبي ــ حاليًا ــ في المرحلة الثانية. مرحلة إجراء العمليات. أنتم، أين كنتم؟!”. لزم عبد الله الصمت، ومثله أبوه؛ فغير مُجديةٍ الإجابةُ عن المكانِ الذي كانا فيه، الذي تسبَّب في تفويتِ فرصةِ المعاينة عليهما.

بشارة الشفاء

    في مطلع الأسبوع الفائت، وصل إلى قريةِ الحاج أحمد ــ والقرى المجاورة ــ خبرُ الإعلانِ عن وصولِ بعثةٍ طبيةٍ، إلى مشفى المدينة. طاقمُ البعثةِ متخصّصٌ في أمراض العيون وجراحتها. سيقوم بإجراء عملياتِ إزالةِ المياه البيضاء، على نفقةِ منظمةٍ دوليةٍ. كان الإعلانُ دقيقًا في مضامينه: حدّد يومي “السبت” و”الأحد” من الأسبوع القادم؛ لإجراء المعاينة والفحوصات والتشخيص اللازم للحالات المصابة. والأيام الثلاثة التالية؛ لإجراء العمليات.

   استبشر الحاج أحمد بالفرج القادم. الذي سيُوَفِّر عليه متاعبَ ضُعْفِ الإبصار. ذلك الضعف المتنامي، بتمدُّدِ المياه البيضاء في عينه اليسرى. كهلان آخران من القرية المجاورة ــ مثل الحاج أحمد ــ كانا قد أجّلا مرارًا إجراء العملية؛ لعدم توافر ما يكفي من النفقات. ومثله استبشرا بالفرج. سافرا أول يومٍ من المعاينة والتشخيص. وسيلحق بهما الحاج أحمد؛ فلديه انشغالٌ عليه أن ينتهي منه.

نجاةٌ أولى

   كان الحاج أحمد صباح اليوم الثاني ـــ وهو الأخير من أيّام المعاينة والتشخيص ــ على أهبَّةِ الاستعداد، بمعية ابنه الشاب عبد الله. الذي سيعتمد عليه، وسيتولى مرافقتَهُ والعنايةَ به. اطمأنّ سائقُ السيارة إلى اكتمالِ عددِ الرُّكّاب بعبد الله وأبيه. ثم اطمَأَنّ إلى اصطحابِ كلِّ واحدٍ منهم بطاقته الشخصية. فبغيرها، لن يُسْمح لأحدٍ منهم بالمرور من النقاط المنتشرةِ، على طول الطريق إلى المدينة. والموَزّعةِ على أطراف الصراع. لكلِّ طرفٍ منها نقاطُه التابعةُ له، في المساحةِ الجغرافيةِ الخاضعةِ لسيطرته.

     داس السائق على المكابح كامتثالٍ روتيني منذ النقطة الأولى. وكامتثالٍ روتيني نزل الركاب إلى المسؤول هناك. الذي جمع منهم بطائقهم، فكان على هيئةِ لاعب الورق. لم يجد فيهم ما يستدعي القلق، فمنحهم الإذن بالمرور.

   نقطتان أخريتان، تتبعان الطرف نفسه. في الثانية منهما، كان المسؤول فيها متصنِّعًا شحنَ ملامحهِ بجرعةٍ مُركَّزَةٍ من الشكوك في كل شخصٍ. ومع كل سؤالٍ من الأسئلة المُكرّرة في كل نقطة: مِنْ أين أنت؟ تَتْبَع مَن؟ لماذا ستسافر إلى المدينة؟ متى ستعود؟ “منَ أحمد عثمان قاسم سعيد”، قال المسؤول، وهو يبدأ إجراءاته مع أحدهم. “أنا”، ردّ الحاج أحمد، وهو يتقدم إلى سائله، الذي لم يجد في البطاقة لقبًا يشفع لصاحبها مثل غيره. سأله عن قبيلته، وشك في مصداقية إجابته. “مُشْ موجود اللقب”، قال المسؤول، وهو يرفع هاتفه إلى أذنه، بعد أن ضغط أيقونة الاتصال على اسمٍ في شاشته. كان مُتَفَهِّمًا تزكيةَ الركابِ مصداقيةَ رفيقهم، مُنْشَغِلًا بمكالمته. تلك المكالمة، التي كان في طرفها الآخر واحدٌ من الوجاهات المشتهرة في محيطِ قرية الحاج أحمد. ومِن الشخصياتِ المخلصةِ للطرف الذي تتبعه النقطة. وعلى تزكيتها إجابةَ الحاج أحمد كان السماح بمرور السيارة.

مصيدة الطريق

    بعد مسافةٍ قصيرةٍ، دخلت السيارة منطقةً خاضعةً لسيطرةِ طَرفٍ آخر. فيها تنتشرُ نقاطُه حتى المدينة المشمولة بنفوذه، وحيثُ تتواجدُ تلك البعثة الطبية. بعد عددٍ من النقاط والإجراءات المكررة، كان مسؤول النقطة الأخيرة ــ المتموضعة على مدخل المدينة ــ يقرأ اسم عبد الله من بطاقته الشخصية.

   لَفَتَ انتباهَ الحاج أحمد سماعُه لاسم قبيلته. تحَدّثَ بعفويةٍ مع مَن بجانبه، عن بحثِ المسؤول السابق، عن اسم قبيلته مُدَوَّنًا في بطاقته. وعن غفلتهم ــ تلك اللحظة ــ عن أن لقبَه مُدَوّنٌ في بطاقة ابنه عبد الله. وقبل أن ينتهي من حديثه، فوجئ بأن قارئ البطاقة مُسْتَقِرُّ النظر إليهما بارتياب.

   عاجلهما الرجل باستفسارهِ عمّا كانا يتحدثان؟ أعادا عليه حديثهما. وجد فيه ما يثير الشك. طلب من عبد الله هاتفه. تصَفّحَ فيه: مقاطع الفيديو، الرسائل، أسماء الهاتف، الصور، توقف عن التصفّح، وبنبرةٍ حادةٍ سأل عبد الله وهو يشير إلى صورةٍ في شاشة الهاتف: “مَنْ هذا؟”، نشف ريق عبد الله. حاول ألا يبدو متوترًا، فليس هناك ما يستدعي القلق، سيكون صادقًا. لا سيما وأن لا علاقة له مع صاحب الصورة. فهي ليست سوى صورةٍ منشورةٍ في واحدةٍ من مجموعات تطبيق “الواتس آب”. تلك المجموعة، التي أضاف رقمَه إليها أحدُ أصدقائه.

   “هذا … مرشد”، قال عبد الله. “معروف! لكن أقصد ما علاقتك معه؟”، قال الرجل مقاطِعًا، ومُقَطِّبًا جَبِيْنَهُ كتعبيرٍ عن تَبَرُّمِهِ من سذاجةٍ مفتعلةٍ قدّرها في ردّ عبد الله. فَمَنْ لا يعرف مرشد. ذاك  القائد البارز في الطرف الآخر؟! أكَّدَ عبد الله على أنّ لا علاقة بينهما. وأن للرجل أصهارًا في قريته. أحدهم هو من نشر هذه الصورة. كانت هذه المعلومة كافية؛ لاتخاذ قرار التحفظ على عبد الله.

البقاء لا الشفاء

  حاول الأب استعطاف الرجل بحاله المرضية، وحاجته إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لعينه. وحاجته إلى أن يرافقه عبد الله، وضرورةِ الوصول إلى المدينة اليوم. كونه اليوم الأخير لإجراء المعاينة والتشخيص. لم يلن المسؤول، مُقْتَرِحًا عليه أن يعتمد على شخصٍ آخر. لكن الأب كان قلقه على ابنه أكبرَ من حرصه على إجراء العملية؛ فقرر البقاء معه. 

   على متن سيارةٍ خاصة بمن يتم التحفظ عليهم، وصلا إلى القسم المختص بالنظر في أمرهما. وحتى يأتي المسؤول المُكلف بذلك ــ المنشغل حينها في مهمةٍ خارج القسم ــ أُحيلا مباشرةً على الحجز. وهناك قضيا ليلتهما البائسة. قال لهما المحقق صباح اليوم التالي: إنَّ مِنْ حُسْنِ حظهما أنه متواجدٌ اليوم. وإنه تفهّم اللّبسَ في موضوعهما، الذي ليس فيه ما يستدعي حتى رَفْعِ محضرٍ بشأنه إلى الجهات العليا. لم يفهما شيئًا من كلامه. سوى تفسيرهما له بالنُبلِ والخُلُق الرفيع في شخصية صاحبه. كما لم يفهما سبب التّحوّلِ المفاجئ، في طريقة كلامه، وحدّة صوتهِ قبل مغادرته، وهو يوجّه بإعادتهما إلى الحجز نفسه؛ ليتم اتخاذُ القرارِ بشأنهما فيما بعد. ترتّب على كلامه قضاؤهما في الحجز يومًا آخر، وليلةً أخرى.

   كان الصباح التالي مبشِّرًا بقرار الإفراج عنهما. لكنهما فقَدا أملهما حينما استشعرا تلكؤًا مقصودًا في تنفيذه. غير مُدْرِكَين أسبابه، إلا في عصرية اليوم نفسه. حينما التقطا مشورةَ شخصٍ خبيرٍ. أخبرهما أن التنفيذَ بحاجةٍ إلى مبلغٍ من المال. لم يبخلا به. أُفرِج عنهما مع ارتداءِ المدينةِ عباءةَ المساء. تناولا وجبةَ العشاءِ ممذوقةً بإرهاقهما. وفي غرفةٍ متواضعةٍ مِن فندقٍ شعبي، أراحا أعصابهما، من عناءِ يومين وليلتين.

العائد بعتمته البيضاء  

    في تمام الثامنة من صبيحة اليوم التالي، كانا في المشفى. لم يكن لديهما شكٌّ في أن المعاينة لم تَعد ممكنة. ولا شكٌّ في أن إجراء العملية لم يعد ممكنًا، ولا شك في أن الحاج أحمد على مقربة من صفة جديدة ستُضْفى عليه، صفة العائد بعتمته البيضاء. لكنه ــ على ذلك ــ كان هو مَن استحسن رأي عبد الله، وهو يقترح عليه المرور على المشفى، كمحاولةٍ أخيرةٍ. بعدما لاحظ على وجه ابنه ملامح الانسحاق بمشاعرِ الندم، والإحساس بأنه سببٌ رئيسٌ في حرمان أبيه من شفاء البصر. كان في استقبالهما استغرابُ طاقمِ العمل في المشفى. فاستسلما للخيبة راسخة اليقين فيهما، وغادرا المكان.

    بعد ساعةٍ، بدأ السفر يغزل عودةَ الحاج أحمد إلى قريته، بدأت عودة الحاج العائد بعتمته البيضاء المتسيّدة على إنسان عينه اليسرى. أثار عدمُ إزالتها قلقًا جديدًا لديه. تحدث مع عبد الله عنها، كسببٍ وجيهٍ يَسَّرَ مرورهما من النقاط المنتشرة على الطريق. وعن عودته بها، وعما سيَتَرَتّبَ على ذلك في النقاط نفسها؟ وهل سيكونُ بقاؤها عائقًا أمام عودتهما؟ “سنرى”، قال عبد الله. لم يبلغ قلقهما مدىً بعيدًا. لا شك لديهما في أن عدم إزالتها ستكون له انعكاساتٌ سلبية. لكنها لن تصل إلى الحيلولةِ دون عودتهما إلى القرية. بعد سفرٍ غير مجدٍ، في انقشاعِ السحابة البيضاء عن عين الحاج أحمد، ولا في الحدِّ من تنامي ظلمة الإبصار فيها.

فكرتين عن“العائد بعتمته البيضاء”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *