الحب الأول حينما يرهقك البحث عنه في كينونات غضة

الحب الأول حينما يرهقك البحث عنه في كينونات غضة

الحب الأول حينما يرهقك البحث عنه في كينونات غضة

د. عبده منصور المحمودي

كان على المقعد الأمامي من سيارته. يُضيءُ هيئتَهَ إحساسُهُ بشخصيتهِ المتخمةِ بالوجاهةِ والنفوذ، بحياتهِ التي أسهبتْ في تقصي ينابيع السعادة، بثرائهِ المتنامي. بأسفار بحثه، عن الحب الأول. بتجاربهِ المنهكةِ بالضوء، المسكونةِ بالرتابة. بأحلامهِ، التي لم تنل منها كهولتُهُ الشاخصةُ، تحت صبغةٍ سوداء. اعتاد شعرُ مهيوب على الاغتسال بها، كلما استشعر موعدَها، كواحدةٍ من أهمِّ أولوياتِ مظهره.

إحساسُهُ المشْرِقُ يسكبُ فيه هدوءَ بالٍ، ومتعةً لا واعيةً بانسجامِ حالهِ مع دفقةِ الرفاهيةِ، التي يتميز بها أحدثُ الموديلات المنتميةُ إليه سيارتُه. دفقةٌ، أفصحت عنها حركيةُ السيارة، وهي تلتهمُ الطريقَ بأريحيةٍ وانسيابية. حيث تعزف سرعتَها يدا سائقه وقدماه عزفًا لا يتجاوز هذا الانسجام. فقد منحتْه هذه المهارةُ تفردًا بين إخوانه الذين يكبرونه، فصار الأقرب إلى قلب أبيه، وإليه أُوكِلَتْ مهمةُ سائقه الخاص.

صدْفة هنود

في طريق سفره من المدينة إلى قريته، أطلَّتْ على خاطر الأب الخمسيني ــ من شرفاتِ شرودهِ الذهني المتكَلّف ــ فكرةٌ بنتُ لحظتها. فكرةُ أن يقومَ بزيارةٍ مقتضبةٍ لابنته ليلى. لن يكلفه ذلك شيئًا، فقريَةُ صهره عابد، على طريق عودته تلك. تداعى مع خاطره، فارتدَتْ فكرتُه واقعيتَها، حينما تمخضّتْ عنها انعطافةُ السيارةِ، باتجاه قريةِ عابد.

خرج من منزل ليلى شاردًا مذهولًا. ومن تلك اللحظةِ، عايشَهُ انتظارُه لمقدمها إليه زائرةً. فمنها سينال إجاباتٍ، يتوقف عليها قرارٌ ينوي اتخاذُه، قرارُ استعادة الحب الأول في عروس جديدة. يمكنُه الاتصالُ بليلى، لكنه يريد للأمور أن تسير بعفويةٍ مطلقة.

بعد شهرٍ، حلّتْ ليلى ضيفةً على عائلتها في زيارةٍ اعتيادية. انتهز أقربَ فرصةٍ تهيئ له عفويةَ الانفراد بها. وقد فاز بفرصته، بعد يوم واحدٍ من وصولها. فلم يفرط فيها، سأل ليلى:

ـــ مَنْ البِنْتْ اللِّيْ كانت عِندِكْ لما زُرتكْ آخر مرة؟

شعر بأن جملته الاستهلالية، بحاجةٍ إلى شيء من التفصيل المقتضب؛ فأضاف موضحًا استفساره:

ـــ أقصدٌ اللي خرجتْ من غرفتك بخجلْ لحظة وصولي؟

ـــ هنود بنت عمي مصلح.

لم يخذله حدسُه. فإلى هذه الإجابة وصل تخمينه ــ في زيارته تلك ــ حينما لاحظ على الفتاة وفْرةً جماليةً سابغةً، وشَبَهًا واضحًا يجمعها بشقيقها عابد.

ــ ليْشْ تِسأل؟!                 

كان رده متشعبًا بأسئلةٍ متتاليةٍ: عن الفتاة، أخلاقها، طباعها،… فلم تكن إجابات ليلى إلا بردًا وسلامًا على قلبه. لم تحتملْ ليلى مزيدًا من الصبر على الأفكار، التي أثارتْها أسئلته في ذهنها؛ فألقتْها عليه:

ـــ هل ستطلب يد هنود لعبد الله؟

ـــ عبد الله مَنْ؟!!            

ـــ أيْش! عبد الله من!! عبد الله أخي.

ـــ لا، لا. هنود سكنت قلبًا آخر!!

ـــ مَنْ؟!

أعفتْه من الإجابةِ ابتسامتُه السخيةُ، المترعةُ على شفتيه. وفيها قرأت ليلى هوية القلب المسكون بهنود. لم يَدَعْ لها مجالًا لتلتقطَ أنفاسَ ارتباكها. باغتَها بتكليفٍ مفاجئ: “أنتِ ستتحدثين معها في الأمر، وأنتِ منْ ستتولى إقناعها”. تركها بعد اطمئنانه إلى أنها ستُخلِصُ في إنجاز مهمتها، وأنها لن يجانبها النجاح، فهو يعرف ابنته.

سفير كهل الحب الأول

ليس أمام ليلى إلا العملُ على إنجاز مهمتها، كما يريد. ليس بإمكانها الاعتراض، لا هي، ولا إخوانها الذين تعددت أمهاتُهم: فمنهنّ المتوفاة، كأمها. ومنهن المطلقة، كأم عبدالله المتربع على الثامنة عشرة من عمره، بعد أن عايش طيلة عقدٍ من عمره صورًا من حياة عصافير الغيابين. ومنهن زوجات أبيها الثلاث، اللواتي معهن يهفو قلب الأب ــ مغدور الحب الأول ــ إلى إكمالِ رباعيته الشرعية بهنود.

فور عودتها من زيارتها لعائلتها، بدأت العمل على مهمتها؛ علاقتُها بهنود علاقةُ صداقةٍ في ذروة الحميمية. فليلى مقيمةٌ إقامةً مشتركةً مع عائلة زوجها، في منزل أبيه الواسع.

لم يفارق ليلى ــ منذ أيام زفافها الأولى ــ معنى التميز في تفاصيل حياتها. ومنها عرفت جاراتها كثيرًا من الكيفيات الحياتية الحديثة. من مثل مهارات الطهي، والارتقاء بالذائقة.

لقد كانت ليلى مثالًا حيًّا، لعائلتها المتفردة بحياة متميزةٍ وراقية. عائلة مهيوب ذي السمعة الطيبة. مهيوب: الثريُّ، الإقطاعيُّ. المحظوظُ بقدرٍ كبيرٍ من الثقافةِ والاطلاع. وبقدرٍ لا بأسَ بهِ من تجارب السفر، إلى أكثر من بلدٍ عربي. صاحبُ المكانة العالية. المحاطُ بهالةٍ من التبجيل والإجلال الاجتماعي. الأرقى حياةً: مأكلًا، ومشربًا، وملبسًا.

تلك الحياة، التي صارت مَضْرَبَ المثل على الألسنة. ليس في قرية مهيوب وحسب، وإنما على امتداد القرى المحيطة بقريته، والقرى البعيدة عنها، وصولًا إلى قرية عابد. لذلك فإن هنود ــ ومن قبل مصاهرته لعائلتها ــ تستوعب حياته هذه بميزاتها المتعددة. تستوعبها استيعابًا زاد حيويةً بما سمعتْه من ليلي، التي كثيرًا ما تحدثت عن عائلتها، وتفاصيل حياتها. تستوعبها استيعابًا أزاح كل صعوبةٍ، يمكن أن تعترضَ ليلى في إقناع هنود ونيل موافقتها على الحبيب الكهل. الذي لم تجد هنود ما يغريها بالتفريط فيه، وفيما ينتظرها من استمتاعٍ بثرائه وشهرته. وأيُّ فتاةٍ يمكن أن تفرط فيه؟! فالهالةُ المحيطة بالرجل، لم تتركْ مجالًا للتعاطي الواقعي مع حقيقةِ سنه المتقدمة. بل حصَّنَتْهُ هالتُه ــ تلك ــ بأكسير التغافل الاجتماعي، عن تلك الحقيقة، وصولًا إلى قصديةِ التغاضي عنها، وعدمية المبالاة بها.

الضحك علامة الرضى

على ما وصلَ مهيوبَ من إيقاعٍ لنجاح مهمة ليلى، وبمعيةِ استمتاعه بهامش الطمأنينة المتدفق من هذا النجاح، اتخذ قراره. أوصل رغبته إلى مصلح بأنسبِ طريقةٍ متضمنةٍ الأريحيةَ. الأريحية في تفَهُّمِ مساحةٍ زمنيةٍ غير محدودةٍ، للتفكير في الأمر. مع مساحةٍ أوسع من الإيحاء بجوهريةِ رأي هنود، والبناء عليه: موافِقةً، أو ممانِعة.

انتاب شعورَ مصلح نوعٌ من الحرج، حينما وصلتْه تلك الرغبة. لتوجسه من موقف هنود، الذي لا يظن الإيجابية فيه. هو ليس لديه مانعٌ من مصاهرة مهيوب ــ على كبر سنه وصغر سن هنود ــ سيحاول استرضاءها. لكنه لن يجبرها، إذا ما وجد منها رفضًا وتعنتًا.

شاردًا كان مصلح في صالة الطابق الثاني، لا أحد يعرف سبب شروده. أشار على هنود أن تلحق به، فتَبِعَتْهُ نازلةً الدركات. انتحى بها جانبًا، في حجرةٍ من الطابق الأول. فاتحها في الأمر، صمتتْ وواربتْ خجلها. أعاد عليها الكلام، لم تتمالك ضحكتها، التي لم تتمكن من كبح تدفقها، وهو يغمر انسحابَها صاعدةً الدرج.

بذهولٍ، يحاول مصلح استيعاب موقفها. يحاول استيعاب انسحابها صاعدةً الدرجات، بدلالٍ لم تستطع مقاومته. مساحةُ عرض الدرجات الضيقة ــ التي يتسم بها مثل هذا الطراز القديم من البناء ــ أضفتْ على دلال هنود مستوىً عاليًا، من الشفافية في تقديم ما وصل إليه نضجُها الأنثوي، على جغرافيا الجسد وتضاريسه. وهو ما لفت انتباه مصلح، بشكل لم ينتبه إليه من قبل. لم يكن هذا الموقف في حسبانه، دارى ذهوله، وهو يهمهم بمضمونِ الموقف وانزياحه المتجانس مع تفاصيله: “الضحك، علامة الرضى!”. دثّر همهمته بالصمتِ؛ متحدثًا مع نفسه، بحكمةٍ زاد يقينه بها: “طَيِّبْ يا هنود!! البنتْ لمّا تِكْبَرْ ما لها إلا بيتْ زوجها”.

هكذا استوعب مصلح الموقف. لا علم له بدور ليلى في الأمر؛ مستوى العائلتين متقاربٌ ماديًّا، مع فارقٍ ملحوظٍ لصالح مهيوب. لكن لم يكن هذا الفارق هو الذي أغرى هنود، بالموافقة على من يتجاوز عمرُه عُمْرَ أبيها. لقد كان الفارقُ بين العائلتين في مستوى الارتقاء الحياتي هو المُغري الأول، مشحوذًا بدور ليلى.

طقوس السعادة

بطريقةٍ لائقةٍ لا تنال من مكانة مصلح، أبْلَغَ مهيوبَ الذي لم يكن الأمر مفاجئًا له. ثم بخطواتٍ متسارعةٍ أقيم العرسُ. بما يتناسب مع خصوصية الرجل، كخمسينيٍّ غير مبالٍ بتفاصيل المناسبة. وبما يتناسب مع شابةٍ في ربيعها الخامس عشر، متلهفةٍ لتفاصيل هذا اليوم، بغض النظر عن هوية فارس أحلامها.

في الخامسة من عصريةِ يوم العرس، وصلت السيارة الفارهة يقودها عبد الله شقيق ليلى. ترجّلَ منها مهيوب، بحركةٍ تصنَّع فيها الحيويةَ، غيرَ متمادٍ في تصنّعه. رافقهُ عابد إلى غرفة هنود، التي اسْتُكملتْ عليها تجهيزاتُها قبل لحظات من وصول حماه، فالعائلة على علمٍ مسبق بضرورة جاهزيتها للخروج بوقتٍ كافٍ. ذلك؛ ليتسنى الوصول إلى المدينة البعيدة في أول ساعات المساء، حيث سيقضي الرجل أسبوع عسله مع عروسه. هذا هو الزمن، الذي يستطيع اقتطاعه من وقته، لمثل هذه المناسبة؛ ففي انتظاره مشاغله، التي لا تنتهي.

معتادٌ مهيوب على هذه الطقوس، لذلك كان تعامله أشبه ما يكون آليًّا مع تفاصيلها. لا سيما وأنه متلهّف لمعانقة الحب الأول في هنود. الأمر مختلفٌ عند هنود، لم تستطع استيعابَ مشاعرِ لحظةِ الخروجِ، التي أغرقتْهما فيها أغاريدُ الصبايا. كانت مرتبكةً مهتزةَ الثقة في نفسها، غير مصدقةٍ ما تعيشه من لحظات، وكأنها وُضِعَتْ فيها على غفلةٍ منها.

منى علي: “ساعة الرحمن”

لم يمر أقلُّ من نصف ساعةٍ، على وصول ولهان الحب الأول مهيوب، حتى تدفق موكبُ الزفاف ــ المُتَشَكِّل من عددٍ لا بأس به من السيارات ــ مغادرًا القرية. في منتصف الموكب، تتهادى سيارةُ العروسين. كانا في حضن مقاعدها الوسطى: خلف مقعد السائق مباشرةً كان مهيوب. وليلى في المقعد الآخر. وبينهما هنود، يلتهمها الخجل حدَّ التلاشي.

ملتزمٌ مهيوب ــ متيّمُ الحب الأول ــ عدمَ التفريط في قوة شخصيته وهيبته. وادّخار رقّته ومزاج المناسبة، حتى ينفرد بعروسه. عبد الله مستقرُّ النظر في مؤخرةِ السيارة التي تسير أمامه. ليلى هي الأكثرُ حيويةً، متقدةُ الإحساس بمسؤوليتها عن سعادة العروسين: “ارفعْ الصوت”، قالت ليلى لعبدالله، حينما شعرت بهيمنةٍ للأصوات المنطلقة من أبواق السيارات. هيمنةٌ لم يستطع صوتُ (الزفة)، في مسجّل السيارة المنخفض الحيلولةَ دونها. رغب الأب في تعزيز إشارة ليلى بتوجيهٍ مماثل، ليسجل أول نقطةٍ رومانسيةٍ له في قلب هنود، لكنه آثر الاحتفاظ بهيبته.

رفع عبد الله مستوى الصوت، فتلاشت الأصوات الخارجية، بصوتِ سيدة الزفة اليمنية “منى علي”:

“ساعة الرحمن ذلحين ** والشياطين غافلين”.

كان صوت ملكة الزفة اليمنية، يترقرق من إصدارٍ قديمٍ، نقيٍّ من المؤثرات الصوتية الحديثة، التي طغت على الأغنيات نفسها، في إصدارها الجديد.

صوتٌ مُتَمَوِّجٌ في امتداداته وتدفقاته، كأنه تأوهاتٌ أبدعتْها المهارةُ الانسيابيةُ في تمايلِ الصوتِ، فتموسقتْ عُرَبًا صوتيةً باذخةَ الشاعرية، مغردةً بأوصاف العروس. خاصة وأن هنود قد أشبعت المعاني جمالًا وواقعية، كان رفعُ الصوتِ متزامنًا مع توصيف وجهها:

“وِوَجْهَها قطعةْ قمرْ ** في ليْلة الشعبانية”.

محاولًا استقصاء ملامح المسرة    

عبد الله، ويداه على المقود، وأقدامه مُتْقِنَةٌ اشتراطات السياقة، حاول إشباع فضوله في استشفاف تعابير وجه أبيه وانتشائه بتموجات صوت (الزفة). اختلس نظرةً إلى المرآة المستطيلة، التي تتوسط منتصف الإطار الأعلى لزجاج السيارة الأمامي، حيث كانت في وضعيةٍ مائلةٍ تتيح للسائق رؤية العروسين. اصطدمت نظراتُه بنظرات أبيه شبه المتسمّرة في المرآة، سحب عبد الله نظراته. بعد لحظات حاول ثانيةً فخاض الاشتباك نفسه. والمحاولة الثالثة امتزج فيها الاشتباك بصوت الأب: “سُقْ سَوا، ما تْشُوْفْشْ الحجار!!”، بعد أن حاول جاهدًا تخفيف نسبة التذمر في توجيهه؛ مراعاةً لخصوصية اللحظة. فهو منزعجٌ من تأمل عبد الله، لتعابير وجهه وضمنيات انتشائه.

فَهِمَ عبدالله المعنى الآخر الذي يقصده أبوه، فهو لم يتلق توجيهًا مثل هذا من أبيه، طيلة اعتماده عليه كسائق خاص. أبدى استجابته بكلمةٍ واحدة: “ناااهي”. بعد أن حرص على نطقها، بطريقةٍ حَمَلَتْ عدمَ تفريطه في الانطباع الأول، الذي ستأخذه عنه العروس. وبما لا يحمل معنى اهتزازٍ في شخصيته.

عاطفتان وارتباك

بدأ ظلامُ المساء يقاسمُ صوتَ (الزفة) الاستحواذَ على أجواء قفص العروسين الساري بهما وبمرافِقَيهما ليلى وعبد الله. كلٌّ يتعاطى مع معاني الغناء، بما يجود به عليه تاريخُه الوجداني، وأفقُه القادم. هنود مرتبكة، تتقاذفها المعاني. تكتسحها مشاعرُ متناقضة، يغلب عليها الذهول والارتباك والحزن. مشاعر متقلبة، بين الخوف والحيرة والرضى والندم. إطلالةُ سعادةٍ غامضةٍ، سرعان ما تطيح بها إطلالةٌ لضحكةِ الرضى الأولى، ممسوخةً في شكلِ لسانٍ ساخرٍ من هنود، تارةً في فم الظلام، وأخرى بديلًا للسان الغناء.

وجد مهيوب في الظلام ما يلبي حاجته إلى معايشةِ اللحظةِ بما يليق بها. ترك لمشاعره العنان، حرّرها من هيبةٍ يُلْزِمُه بها الضوء. تدفق الغناء في مشاعره فاشتعلت. كادت أن تَفْلِتَ منه نُهدَةٌ، ألقى عليها القبضَ تمويهًا بسعلةٍ مفتعلةٍ. يتتبع أحاسيس السعادة، التي تؤثث هذه اللحظات، أطلتْ عليه تجاربُه السابقة باحثًا عن الحب الأول، الذي لم يستطع استعادته.

نُهْدةٌ وتلاشٍ

كثيرًا ما عاش مهيوب مثل هذه اللحظات. لكن النهدة الفاصلة بين كلماتِ جملةٍ من كلمات الأغنية المنسابة، جعلت تجربته الحالية مختلفةً عن سابقاتها. جملة تترقرق: “يا عَرُوْسْ أللهْ يِسِرَّكْ”، ثم تتدفق جملةٌ تالية: “وَيِسِرْ …. أَهْلَكْ مَعَكْ”. لم تتصل أجزاء الجملة التالية، فبين الجزء: “وَيِسِرْ”، والجزء: ” أَهْلَكْ مَعَكْ”، تموضعتْ نهدةٌ فاصلةٌ بينهما، غير متجاوزةٍ الثواني، لتستأنف بعدها الأغنية انسيابها. نهدةٌ تصعّدتْ من مستوى التموُّج الانتشائي، إلى مستوى نهدةٍ تقاوم محاولات إجهاضها. نهدةٌ تسلّلت إلى قلب مهيوب حنينًا، مضى به إلى صباه. إلى ماضيه العاطفي مع حبيبته مريم، حبه الأول، الذي لم يستطع الحفاظ عليه.

صَهَرتْه دهشتُه مضيئةً له الحقيقة التي يخشاها، حقيقة استحالة أن يجد مريم في غيرها. بالرغم من التعدد في تجارب زفافهِ سريعة الذبول. تلك الحقيقة، التي لا تصالُحَ فيها مع أمكانية استعادة الحب الأول، في شخصية حبيبٍ جديد.

أرهقه البحث عن سعادته في تجربة الحب الأول، أرهقه البحث عن شخصية مريم في شخصية كل عروس جديدة. لكنه لم يجد في واحدةٍ منهنّ مريم، هل سيجدها في هنود؟! يوارب هذه اللحظة، التي يطوِّقها شعورُه بتلاشي مثل هذا الاحتمال.

إضاءة: الحب الأول والتحليل النفسي

يقول المختصون في علم النفس إنه من الصعب على أيٍّ كان أن ينسى تجاربه العاطفية الأولى. لا سيما تلك التجارب، التي استشعر فيها أنها كامنة في العمق من وجدانه، نابعة من شغاف قلبه. لذلك؛ فليس من السهل عليه أن يندمل جرحه النفسي. وكثيرٌ من الشخصيات القوية، تتظاهر بأنها قد تمكنت من تجاوز تجربة الحب الأول. لكن حقيقة الأمر لديها غير ذلك؛ فلا شك في أنهم يتعذبون بتلك التجربة، أو أنهم قد تعذبوا بها فترة ليست بالقصيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *