التراسل الحسي في الشعر اليمني المعاصر
تكمن الأهمية الجوهرية للحواس الإنسانية، في رَبْطِها الإنسانَ بما يحيط به، مِنْ تفاصيلِ الحياة وظواهرها الطبيعية المختلفة. وقد جُبلتْ كلّ حاسةٍ منها على وظيفتها الاستيعابية الخاصة بها. إذ تستلطِف ــ كل حاسةٍ ــ ما يرد إليها من محسوساتها ورودًا لطيفًا. وتنفر مما يؤذيها من معطياتها؛ فحاسةُ البصر تألف المرأى الجميل، وتقذي المشهد القبيح والكريه. وحاسةُ الشم تستوعبُ الرائحةَ الطيبة بِلُطفٍ، وتنفر من الروائح النتنة. ويجد الفم لذّتَهُ في المذاق الحلو، ويمجّ طعومَ المرارة. ويُطْرِبُ الأذنَ سماعُها الصوت الخفيض، ويؤذيها سماع الصوت الجهوري الهائل. كما تنعم اليد بالملمس اللّين، وتتأذى بالملمس الخشن(1).
[1]: التراسلُ الحسّيّ في الشعر العربي الحديث
تضافرت التراكمات العفوية ــ لهذه التقنية الفنية في امتداد تاريخ الأدب العربي ــ مع عددٍ من الأسباب والعوامل، التي كانت وراء تفاعلِ الشعرية العربية الحديثة مع حركة الحداثة الغربية. وكذلك، استثمار الشعرية العربية لهذا المنحى الفني، الذي “حقق للقصيدةِ الحديثة إنجازات فنية تتلاءم مع تيارات العصر المختلفة، فصبغها بطابع الحداثة والتجديد، كاشفًا عن تفاعله مع معطيات الواقع الذي يعيش فيه بين العالمين المادي والروحي”(2).
وقد شاع هذا الاستثمار ــ حدّ الإسراف ــ عند بعض الشعراء. لا سيما في البدايات التأثيرية للتيار الرمزي في الشعر العربي المعاصر(3). إذ ظهرت في مطالع القرن العشرين إرهاصاتُ ذلك، في لبنان ومصر. وسرعان ما انتشر في الوطن العربي. بعد أن أسهمت الصحف والمجلات ــ آنذاك ــ إسهامًا بارزًا، في تزويد المتلقي العربي بالرمزية ومفاهيمها. ذلك، من خلال ترجمتها لنماذج من الشعر الرمزي الغربي. ونشرها لنماذج من قصائد الشعراء العرب المتأثرين به. وتقديمها قراءات نقدية، وحوارات أدبية، ذات مساراتٍ بحثية في قيمة الشعر العربي المتأثر بالرمزية(4).
وفي هذا السياق ــ من تأثير الرمزية الغربية في الشعر العربي الحديث ــ تأتي تقنية (التراسل الحسيّ) واحدةً من أبرز قيم الحداثة، في التجربة الشعرية اليمنية المعاصرة.
[2]: التراسل الحسي في الشعر اليمني المعاصر
تتجلّى هذه التقنية في التجربة الشعرية اليمنية المعاصرة، من خلال حضورها الفاعل في نوعٍ من التبادل الوظيفيّ بين الحواس. ذاك التبادُل، الذي يقوم عليه بناء عددٍ من النماذج في التصوير الشعري.
[2ــ1]: التراسل إلى دائرة الصورتين: السمعية والشمية
ارتبطت نماذج من الصور الحسية ــ في الشعر اليمني المعاصر ــ بماهية الصورة الشعرية ذات الحس السمعيّ ارتباطًا فنيًّا قائمًا، على تقنية تراسل الحواس الأخرى إليها.
كذلك، أضفى التصوير الحسي في القصيدة اليمنية المعاصرة، على معطيات الحواس صفاتٍ منتمية إلى دائرة الإحساس الشمي. وبذلك، تبلورت فنيّةُ تراسلٍ حسيّ، تتجاوب ــ من خلاله ــ الحواس إلى حاسة الشم.
[2ــ2]: التراسل إلى دائرة الصورة الذوقية
تمثل الحاسة الذوقية ميدانًا بارزًا، تراسلت إليه الصور الحسية في الشعر اليمني المعاصر. إذ تراسلت ــ إلى هذه الحاسة ــ صورٌ شعرية، معطياتها الجوهرية مرتبطة بالحواس الأخرى: بصرية، وسمعية، وشمية، ولمسية، وحركية.
ويمكن الإشارة إلى غلبة تراسل المسموعات، إلى كيفية المرارة من الحاسة الذوقية. وذلك انسجامًا بين آلام آثارها وآلام الوجدان. وامتدادًا إلى غلبة هذه الكيفية على الصورة الذوقية في قصيدة المعاناة، من الشعرية اليمنية المعاصرة. وبذلك؛ نجد الآهات متراسلة إلى كيفية المرارة: “آهة مُرّة”(5). ويصير طعم الحشرجة مُرًّا: “حشرجة مرة”(6).
كما أشمَّ النبأ المسموع بطعم مرارته، في مثل قول المقالح: “ما بلَّغوا بعدُ بالنَّبأِ المرِّ طِفْلتَهُ”(7). فحينما يحمل نبأٌ من الأنباء في طيات مضامينه المسموعة إخبارًا بحدوث مكروه، أو نائبة ومصيبة بالغة الأثر النفسي، كالإعلام بوفاة قريبٍ ــ من مثل النبأ الذي تضمنته هذه الصورة ــ فإنّ ذلك يُحْدث في نفس مَنْ يصله مثل هذا النبأ إحساسًا بألمٍ وجدانيٍّ شديد، يفوق قدرة النفس على احتماله. وبذلك، تزيد وطأته في النفس من تعذيبها وإيلامها. وهو إحساس مشابه لما يُحْدثه الأثر التعذيبي المؤلم لطعم المرارة في نفس مَن يتذوقه.
[2ــ3]: التراسل إلى دائرة الصورة اللمسية
من التجليات الفنية للتراسل الحسي، في التصوير الشعري، تراسلُ الصورة الحسية إلى الحاسة اللمسية. وهو ما كان له حضوره في الشعر اليمني المعاصر، لا سيما في تراسل الصورة الحسية السمعيّة، إلى دائرة الإحساس اللمسي.
وقد كان التراسل إلى كيفية السخونة من كيفيات الصورة اللمسية، هو المنحى التراسلي الغالب بين الصورتين (السمعية/ واللمسية).
وبذلك؛ كان اللحن محترقًا عند الشرفي: “واحتَرَقَ اللَّحنُ على اللَّحْنِ”(8).
واحترق صوت شوقي شفيق: “لا يطْلعُ إلا صوتي محروقاً”(9).
واكتوت الأحشاء بآهات الشعب المقهور، في قول الزبيري(10):
ما قالَ قوي: آه … إلّا جئْتَني *** فكويتَ أحشائي بها ولَسَعْتها
[2ــ4]: التراسل إلى دائرة الصورتين البصرية والحركية
من مظاهر التراسل الحسي في الشعر اليمني المعاصر تراسل الصور الحسية، إلى مجال المحسوسات البصرية.
كما يمثل مجال المحسوسات الحركية واحدًا من المجالات الحسية، التي تراسلت إليها الصور الحسية، في الشعر اليمني المعاصر.
[2ــ5]: الصورة الحسية التجميعية
يُعد هذا النوع من التصوير الحسي المتراسل نمطًا تجميعيًّا، مؤلَّفًا من اجتماع عدة انطباعات حسية(11). وقد قامت عدد من الصور الحسية المتراسلة في الشعر اليمني المعاصر، على الإمكانات التقنية، التي يتيحها هذا النمط التصويري. فبُنيتْ صورهُ بناءً تجميعيًّا. يقوم على التأليف بين معطيات حاستين، أو ثلاث. كما يقوم على الجمع بين معطيات حواسٍ أربع، أو خمس، في الصورة الحسية الواحدة.
[3]: وبذلك
فإن الصورة الحسية المتراسلة تمثّل تقنية تصويرية مهمة من التقنيات الفنية، التي تبلورت ــ من خلالها ــ تجليات الحداثة في الشعر اليمني المعاصر.
وتُعدّ المعطيات المتعلقة بالحاسة السمعية، هي الأكثر حضورًا في التصوير الحسي المتراسل، في الشعر اليمني المعاصر. سواءٌ في حضورها البارز المهيمن على تشكُّلِ فنية التأليف بين المعطيات الحسية المختلفة، في الصورة الحسية التجميعية، في تراسلها إلى الحواس الأخرى. أو في تراسل الحواس إليها. ذلك؛ لأن “أكثر نماذج التراسل في الشعر اليمني تسعى لتحويل الأشياء المرئية والذوقية واللمسية والشمية إلى أشياء مسموعة، وكأن الشاعر يرى الكون إنسانًا يغني سواء كان فرحًا أو حزينًا، ويوحي ذلك ببساطة الإنسان اليمني وقدرته على التغلب على مشكلاته ومواجهتها بسخرية تامة”(12).
كما تُعدّ معطيات حاسة الإبصار هي الأكثر تراسلًا إلى دائرة الأحاسيس السمعية، في الشعر اليمني المعاصر. أمّا معطيات الحاسة السمعية، فإنها أكثر تراسلًا إلى دائرة الأحاسيس المرئية. مع غلبة العملية الإجرائية البصرية المتمثلة في القراءة على تراسل معطيات الحواس الأخرى إلى حاسة الإبصار. وذلك؛ انعكاسًا لارتباط القراءة الوثيق بالشعراء.
كذلك، تُعدّ كيفية المرارة ــ من بين كيفيات الإحساس الذوقي ــ هي الكيفية الأكثر استقبالًا لما يتراسل من معطيات الحواس الأخرى إلى مدار الأحاسيس الذوقية. مُشَكِّلَةً بذلك، امتدادًا إلى غلبة حضور هذه الكيفية، في الصورة الذوقية، من القصيدة اليمينة المعاصرة.
ومثل ذلك، تُعدّ كيفية السخونة، هي أكثر الكيفيات اللمسية استقبالًا لما يتراسل من معطيات الحواس الأخرى، إلى مدار الأحاسيس اللمسية.
[4]: إضاءة
المدرسة الرمزية، والتقنية الرمزية ــ وإن كانت ذات انتماء غربي حديث ــ إلّا أن لها ارتباطاتها في الحضارة الإنسانية، بوصفها معطىً إنسانيًّا، له جذوره وامتداداته في المنجز الفكري الإنساني، على اختلاف العصور والجغرافيات. من ذلك، ما هي عليه الحال من علاقة لهذه التقنية، مع المنجز النقدي العربي الحديث.
- يُنظر: وجدان الصايغ، “الصورة الاستعارية في الشعر العربي الحديث”. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2003م، ص113. ↩︎
- على قاسم الخراشة، “تراسل الحواس وأثره في بناء الصورة الشعرية”. مجلة العلوم الإنسانية، جامعة البحرين، مج19، عدد33، صيف 2019م، ص144.. ↩︎
- يُنظر: علي عشري زايد، “عن بناء القصيدة العربية الحديثة”. مكتبة ابن سيناء، القاهرة، ط4، 2002م، ص79. ↩︎
- ينظر: محمد فتوح أحمد، “الرمز والرمزية في الشعر المعاصر”. دار المعارف، القاهرة، ط3، 1984م، ص167 ـ 178.. ↩︎
- لطفي جعفر أمان، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـ 2004م، ص94. ↩︎
- نفسه، ص297. ↩︎
- عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـ 2004م، جـ2/ ص482. ↩︎
- محمد الشرفي، “العصافير لا تطير”. مؤسسة العفيف الثقافية، ط1، صنعاء، يوليو2001م، ص109. ↩︎
- شوقي شفيق، “أناشيد النزيف”. دار الهمداني، عدن، د.ت، ص62. ↩︎
- محمد محمود الزبيري، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـ 2004م، ص169. ↩︎
- ينظر: وحيد صبحي كبابة، “الصورة الفنية في شعر الطائيين، بين الانفعال والحس”. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999م، ص143. ↩︎
- أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”، مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص268. ↩︎
