الرواية وأزمة المرأة اليمنية مقاربة نقدية في رواية رماد أنثى

الرواية وأزمة المرأة اليمنية مقاربة نقدية في رواية رماد أنثى

الرواية وأزمة المرأة اليمنية مقاربة نقدية في رواية “رماد أنثى”

د. عبده منصور المحمودي

   في نسقٍ من الهيمنةِ الذكوريةِ على حياة المرأة، تأتي حالُ المرأة اليمنية متفرّدةً بسماتٍ ذات ارتباطٍ بخصوصيةِ الثقافة الاجتماعية والأعراف المتوارثة. وقد اضطلع الأدب النسوي بتصوير تجلياتٍ متعددةٍ من مأساة الأنثى؛ فالرواية وأزمة المرأة اليمنية واحدٌ من السياقات السردية، التي تعد واحدًا من أبرز المسارات التجديدية في الأدب النسوي في اليمن. تلك المسارات، التي تنامت من خلالها السرديةُ النسوية، في إصداراتٍ متواليةٍ لكاتباتٍ يمنيّات. منهنّ: رمزية الإرياني، وسلوى الصرحي، وعزيزة عبد الله، ونادية الكوكباني، ونبيلة الزبير، وبشرى المقطري، وندى شعلان، وسيرين حسن، وغيرهن.

    وفي هذا المسار السردي من الأَدَبِيَّة النسوية اليمنية المعاصرة ــ التي تجلّت فيها العلاقة بين الرواية وأزمة المرأة اليمنية ــ تأتي رواية “رماد أنثى”، للكاتبة ندى شعلان(1). التي تضمّنت صورةً محوريّةً، من صور المعاناة التي تنسحق بها ذاتيةُ المرأة اليمنية، حيثُ كانت تيمةُ الأنوثة ــ بإحالاتها وفضاءاتها ونهاياتها الاحتراقية ــ نسقًا ناظمًا لسردية هذا العمل.

     لقد اتسم الحدث الرئيس في هذه الرواية، بفاعليتهِ المهيمنة على سردية الأحداث، التي تناسلت منه، حتى آخر لحظةٍ من لحظات الذروة المأساويةِ في حياة شخصية الرواية. وبذلك، فقد قام بناء الرواية، على استثمارِ عددٍ من تقنيات الكتابة الروائية، لا سيما الحديثة منها، واللافت فيها هذا الانطلاقُ، من محوريةٍ، لحدثٍ رئيسٍ ذي فاعليةٍ موجِّهةٍ لمسارات العمل.

الرواية وأزمة المرأة اليمنية في تماهى الرؤى الاجتماعية

      ارتبط هذا الحدث المحوري بشخصية العمل الرئيسة “حنين”. التي قامت به متداعيةً مع رؤيةٍ اجتماعيةٍ مسبَّقة، وتماشيًا مع ما يستلزمه محيطُها المُتَشَكِّلُ من صديقاتها. يبدأ الحدث من دعوتها لصديقاتها إلى حفلةٍ بسيطةٍ، أقامتها في منزلها بمناسبة انتهاء الامتحانات النصفية. كانت تخشى حضورَ صديقتها “شذى”. تلك، التي تُواجَه بالنبذ؛ كونها من أسرة بغاء، مع براءتها مما هي عليه أسرتها. وقد حدث ما تخشاه “حنين”؛ فبعد حضور صديقاتها، ظلت متوجسةً، حتى سمعت طرقات الباب. قامت لتفتحه، فكانت المفاجأة، حينما رأت أن مَنْ وراء الباب هي “شذى”، تحمل في يدها علبةً حمراء فيها هدية لحنين. ظهر على حنين نوعٌ من التردد في طرد “شذى”، لكن نظرات صديقاتها حَثَّتْها على ذلك، فاكتفت بإغلاق الباب في وجهها:

     “ولأني كنت أخشى أكثر ما أخشى إغضاب صديقاتي .. أو لعلي فقط كنت أخشاهن، ولأني دائمًا ما كنت أبذل نفسي وأُسَخِّرُها من أجل رضاهن، لهذا فقد عزمتُ على حسم أمري، ولأني لم ألقَ بعد ما أفوه به لـ (شذى) فقد سلكتُ أقصر الطرق وأسهلها واكتفيت بإغلاق الباب في وجهها بطريقةٍ لم تخل من عنف وقسوة ودون أن أنبس ببنت شفة، وكل همي ساعتها قد انحصر في أن أحظى برضا صديقاتي…”(2).

إغلاق بابٍ فتحٌ لآلاف الأبواب

     لقد كان حدثُ إغلاقِ الباب في وجه “شذى”، هو الحدث الذي تضَمّن ديناميةً متنامية. لذلك، كان فاعلًا في إعادة صياغة حياة “حنين” وتشكيل وجدانها. ومن ثَمّ كان فاعلًا في نسج وتشكيل تفاصيل هذه الحياة الجديدة إبداعًا روائيًا:

    “حادثة (شذى) هذه مثلت لحياتي المنعطف الحقيقي الأول الذي منه هويت بعد ذلك إلى سحيق مأساتي … فبعدها تغير كل شيء .. تغيرت أنا ولم يعد يسكنني من (حنين) سوى الذنب والندم .. سوى الشقاء والألم … يا إلهي كم من قرارات نحسبها بسيطة لا نبذل فيها قليل تفكر أو تدبر قد تغير بعد ذلك في مسار حياتنا إلى الأبد”(3).

    بهذا الحدث المركزي، انكسرت حياة “حنين”. وبه استوطنها الحزن، وفتكَ بعاطفتها. بعده، لم تعد حياتها سوى مأساةٍ متناسلةٍ أشجانًا قاسية. ومن خلال هذه الحياة الجديدة وماهيتها الوجدانية الحزينة، ارتبط هذا العمل بذاك النوع من السرديّة، التي تتخلق فيها التجارب الروائية الجديدة. بمعنى أن “التجارب الروائية الجديدة تنطوي ــ مع تأكيد تعدد أبنيتها وتنوع رؤاها ــ على ملامح وأصداء مشتركة من مثل: الحزن العميق والمرارة والأسى الذي يكتنف هذه التجارب، والرغبة العارمة في تجاوز كل التقاليد الجمالية والمنظومات الفكرية والأيديولوجية وفي الموقف من السلطة والزمان والعالم”(4).

ملاذٌ تعويضي بتداعياتٍ مأساوية

    لقد جاء هذا الحدث ــ الذي تبلورت فيه صورٌ من أدبية الرواية وأزمة المرأة اليمنية ــ استجابةً من “حنين” لوجهة نظر صديقاتها. وهي استجابة، تفصح عن أنّ مهاد انبثاق الحدث هو إحساسها بالحرمان من الحنان. حنان الأب المتوفى، وحنان الأم المنشغلة في عملها طيلة اليوم. لذلك، كانت صديقاتها ملاذًا تعويضيًّا، عمّا تفتقده من حنان. وكان الحفاظ على صداقتهنّ غايةً، تُسَخِّرُ لها سلوكياتها ومواقفها، حتى غير المُتفقة منها مع قناعاتها الذاتية.

   لم يتضمن الحدث تفاصيل كثيرة، فقد كان مقصورًا على حركية إغلاق الباب. يصحبها صوتٌ، تجَسّدَ فيه السخط المفتعل في عملية الإغلاق. وعلى هذا المستوى من البساطة الذي يبدو عليه الحدث، إلّا أنه كان على غير ذلك، في سطوتِه على تشكيل الرواية وبنائها. فمن هذا الحدث، انطلقت خيوطُ الرواية، وتناسلتْ تشابكاتُها، وانتظمتْ سياقاتها. وبذلك، كانت له تداعياتُه، التي تمظهرت، من خلال تقنياتٍ ومساراتٍ سرديةٍ، فنيةٍ وموضوعيةٍ متعددة.

جلد الذات ومصيرها المأساوي

    كان الحدث باعثًا لشعور “حنين” بالذنب والندم، على ما قامت به. وبذلك، تمادت في جلد ذاتها والقسوة عليها، حتى وصل بها هذا التمادي إلى انهيارٍ في قدرتها على إدراك الحياة. وإلى عجزها عن التحكم فيما تلى هذا الحدث، من قراراتٍ وسلوكيات؛ إذ صارت تداعياتُ الانهيار النفسي طريقًا إلى بؤرةٍ أكثر إيغالًا في إشعال فاعلية الحدث وحيويته. تجسّدت هذه البؤرة، في سقوط الشخصية في المحظور مع حبيبها “فارس”، حينما لم تجد غيره مهْربًا مما هي فيه من ألمٍ وجداني ومشاعر ضعفٍ وهوان؛ فهو ــ كصديقاتها ــ ملاذٌ تعويضيٌّ عن الحنان، الذي يسحقها الإحساس بالحرمان منه، وتحافظ عليه كما تحافظ عليهن:

    “كنت أرغب في أحدٍ يخفف عني بعضًا من ذلك الإحساس الموغل بتأنيب الضمير والذنب، وكنت أشعر بأن هذا الشخص لا يمكن أن يكون أحدًا سوى (فارس) وقد أصر الجميع عداه على عدم فهمي.. وأما السبب الآخر ــ ولعله السبب الأقوى ــ فكان ناجمًا عن فرط خوفي من فقداني لـــ (فارس)”(5).

     أذكى الانهيارُ النفسي ــ المستعر بمشاعر الألم والندم ــ حيويةَ الحدث وديناميته؛ التي تجلّتْ، فيما كان أقسى عاقبةً وأشد إيلامًا:

   “وما أن انغلق بعد ذلك باب غرفتي علينا وشعرت [به] يقترب مني حتى أدركني شعورٌ متأخر بأن ليس هذا ما أردتْه، إلا أني كنت على استعدادٍ لخوضه إن كان يريده هو… وأمام نظراته النهمة الجامحة ثبتُّ في مكاني فزعة وقد ألم بي أشد الاضطراب، لمَّا ألفيته وقد انتصب أمامي يسبرني من رأسي وحتى أخمص قدمي بنظرات تقدح شهوة ورغبة ويداه ذاهلتان من أين تبدآن في كل هذا الجمال الذي أتيح له أخيرًا.. اجتذبني بشدة إليه وراح يمطر وجهي وشفتي وعنقي بالقبل والعض… ولم يلبث أن علا صوت أنين السرير الحديدي من تحتي”(6).

خياراتٌ متقاطعةُ المرارة        

    لقد تناسلت من الحدث الرئيس أحداثٌ متعاقبةٌ، أشدها هذه المحطة الأخلاقية. التي اكتملت بها ممكناته الموضوعية والعاطفية والاجتماعية؛ لينفرد ببناء الرواية وصياغة أبعادها. وقد ظهرت فاعلية هذا الحدث، في صورٍ متعددة، إذ نجده وراء معاودة “حنين” ــ مكرهةً من داخلها ــ معاشرة “فارس” مرة ثانية؛ حرصًا منها على استدامة التواصل بينهما، حتى لا تفقده فينكشفُ أمرها. لكنه تحت تأثير فاعلية الحدث ــ أيضًا ــ سلك الطريق الذي كانت تخشاه؛ إذ غدر بها وتخلّى عنها. وهنا تفاقمت مأساتها، ففقدت ثقتها في نفسها وفي محيطها الإنساني. وقادها هذا المنحى إلى الانكفاء على ذاتها، وأجبرها على التخلي عن فكرة الارتباط بآخر؛ خوفًا من انكشاف أمرها. لذلك، كانت لقسوة هذا الأمر تجلياتُ حضورٍ، في محطاتٍ متعددةٍ من البناء السرديّ(7).

    كما كانت فاعلية الحدث دافعًا لحنين إلى القبول بالزواج من “سلطان”، صاحب الجاه والمال والمكانة الاجتماعية. فهو الذي كلّفها مدير المشفى التي تعمل فيها، بالقيام على تمريضه والاهتمام به. انخدعتْ بكلام “سلطان” وادعائه بأنه رجلٌ منفتحٌ ومختلفٌ عن الآخرين. ذلك، حينما كان يصارحها برغبته في الزواج منها مُصِرًّا على رغبته تلك، حتى بعد أن اعترفت له بماضيها. ولم تكن تدرك أن السر في إصراره هو عجزه، الذي كان لفاعلية الحدث ــ فيما بعد ــ دورٌ فيه، حينما صار ماضيها لديه سببًا يبرر به عجزه، وتعبيرًا مُطّردًا يقذفه في وجهها(8).

معركةٌ فاصلةٌ      

     تتضح فاعلية الحدث متناميةً في تكاثفٍ، تواشجت فيه لحظةُ ولادةِ الحدث مع ذروة عاقبته؛ فقد كان إغلاق الباب في وجه “شذى” نهايةً لمحاولات هذه الفتاة في مقاومة ظلم الرؤية الاجتماعية. كما كان نهاية لمحاولتها كَسْر نمطية هذه الرؤية، التي تحمّل الفرد وزرَ أسرته، مهما اختلف عنها روحًا وسلوكًا.

   لقد استسلمت “شذى”، ورضخت لسطوة هذه الرؤية الاجتماعية. وآمنت بحتميتها، فجارت أسرتها في انحرافها. وظل الحدث مُتقدًا فيها حقدًا وغيظًا على “حنين”. وعقدت العزم على الانتقام منها، فعملت جاهدةً على الوصول إلى زوجها “سلطان”. حتى كان لها ذلك؛ إذ صارت عشيقته المترددة على منزله؛ لتُغيظ “حنين”، منتقمةً به منها.

    ويأتي اليوم الذي يبلغ فيه الحدث مستوىً أعلى من الحيوية والفاعلية، حينما طرأ موقفُ المواجهة والمكاشفة بينهما (“حنين”/ “شذى”). ذهبت “شذى” ــ في هذا الموقف ــ تسرد القسوة التي واجهتْها بها “حنين”. وتداعياتِ هذه القسوة، التي غيرت مسارات حياتها تغييرًا جذريًّا: “نسيتِ ذلك اليوم الذي نبذتِني فيه وأغلقتِ فيه بابك دوني.. هل نسيتِه؟ .. أنا لم أنسه فلا زال صوت اصطفاقة بابك يرن في أذني حد الألم حتى يومنا هذا .. ذلك اليوم الذي أتيتكِ فيه أحمل علبة حمراء ضمّنتها أغلى ما أملك وأثمن ما لدي … عقد ذهبي بسيط كانت قد أهدته إليّ أمي، وهو قطعة الحُلي الوحيدة التي كنت أملك حينها، ومع هذا لم أستكثرها عليك”(9). ثم زاد احتدام الغيظ في نفسها، فهاجمت “حنين”، التي تحدثت عن ذلك، بالقول:

   “هَمَّتْ بالإطباق بكلتا قبضتيها على عنقي … تعاركتُ معها وتخلصتُ من قبضتيها بِدَفْعِها بعيدًا عني، الأمر الذي أدى بها إلى السقوط بقوة من أعلى تلك الدرجات الحجرية شديدة الصلابة والتدحرج بشدة عليها إلى أن استقرت أخيرًا على الأرض ساكنة دون أن تصدر عنها أية حركة تنم عن حياة”(10).

وبذلك

     كان للحدث ــ بتراكماته المأساوية وتداعياته الحزينة ــ فاعليةٌ مستعرةُ الحيوية، في موقف المواجهة والعراك بينهما. مع تفوق “شذى”، في نسبة الغيظ والرغبة الجامحة في الانتقام. مقابل انكسار “حنين”، التي دفعت حياتها كلها ثمنًا لما اقترفتْه من خطأ في حق “شذى”. ومع اندفاع “شذى” رغبةً منها في القضاء على “حنين” كانت هي الضحية. وكانت فاعلية الحدث زيتَ الاشتعال في هذا الاعتراك. كما كانت مسارًا جديدًا، أوصل “حنين” إلى السجن. ذاك العالم من المعاناة المتجددة، لفاعلية الحدث ومآسيه.


  1. ندى شعلان، “رماد أنثى”، مكتبة مدبولي، ط1، القاهرة، 2010م. ↩︎
  2. نفسه، ص: (39). ↩︎
  3. نفسه، ص: (41،40). ↩︎
  4. شكري عزيز الماضي، “أنماط الرواية العربية الجديدة”. مجلة عالم المعرفة، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد: (366)، الكويت، سبتمبر، 2008م، ص: (18،17). ↩︎
  5. ندى شعلان، “رماد أنثى”. مرجع سابق، ص: (43). ↩︎
  6. نفسه، ص: (44).       . ↩︎
  7. ينظر على سبيل المثال: ص: (208،177،175،140،137،122،92،89). ↩︎
  8. ينظر: ص: (247،244،242،89). ↩︎
  9. ندى شعلان، “رماد أنثى”. مرجع سابق، ص: (298). ↩︎
  10. نفسه، ص: (304). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *