المحكية اليمنية والصرف المقارن

المحكية اليمنية والصرف المقارن

المحكية اليمنية والصرف المقارن

د. عبده منصور المحمودي

كأية لغة من اللغات الإنسانية ــ محكية كانت أو فصحى ــ تتميز المحكية اليمنية، بعدد من الخصائص اللغوية. منها ما يتعلق بمجالها الصرفي. ولعل من أهم الظواهر اللغوية الصرفية ــ في المحكية اليمنية ــ ما أسهم به الأستاذ الدكتور عباس السوسوة، في هذا السياق من الدرس اللساني الحديث في اليمن. من مثل دراسته لعددٍ من الظواهر الصرفية، مستعينًا بإجراءات منهجية مقارنة. تأتي في صدارة ذلك، دراساته لكلٍّ من: تاريخ وزني (فِعّال وتِفعّال)، وصيغة الجمع (فعيل) في المحكية اليمنية، ووزني (مِفعال/ مفعالة) اسمًا للمكان، ومصدرًا في المحكية اليمنية.

[1]: تاريخ وزني:  (فِعّال وتِفِعّال) في المحكية اليمنية
[1ــ1]: صعوبة تحديد أصل هذين الوزنين

في دراسة السوسوة التاريخية لهذين الوزنين، يتتبعهما تتبعًا تاريخيًّا. ويعلق على ذلك بسبع ملاحظاتٍ. ثم يصل من خلال هذه الدراسة ــ وفي ضوء تلك الملاحظات ــ إلى تساؤلٍ، يبحث فيه عن إجابةٍ، تبين الأصل الأول، الذي جاء منه هذان الوزنان، يقول: “ويبقى تساؤل: هل تسرب هذان الوزنان إلى الفصحى (= العربية الشمالية) من إحدى اللغات السامية قديماً؟”(1).

ثم يقول، إن الإجابة على هذا التساؤل صعبة؛ وذلك لأن دارسي اللغات السامية ــ والمؤلفات المترجمة التي تناولت هذه اللغات بالدراسة المقارنة، والمؤلفات في علم اللغة المقارن ــ لم تتطرق إلى أصل هذين الوزنين:

“ذلك أننا طالعنا في الكتب المؤلفة في اللغات السامية وترجمت إلى العربية كأبحاث موسكاتي ونولدكه وبروكلمان وجويدي وإسرائيل ولفنسون وغيرها، فأخفقنا في الوصول إلى معرفة أي من هذه اللغات جاء منها هذان الوزنان، ثم طالعنا الفصول المتعلقة باللغات السامية أو بعلم اللغة المقارن المتضمنة في كتب خليل يحيى نامي والسيد يعقوب بكر … فلم تتضح لنا الحقيقة”(2).

[1ــ2]: احتمالية عودة وزني (فعّال/ وتفعّال) إلى العربية الجنوبية
[1ــ2ــ1]: العلاقة بين شمال الجزيرة وجنوبها

يصل السوسوة من خلال مطالعته لتلك الكتب ــ المؤلفة في اللغة السامية المترجمة إلى اللغة العربية ــ إلى احتمالٍ، يصفه بـ(القوي). احتمال أن أصل هذين الوزنين يعود إلى العربية الجنوبية، وأنه تسرب إلى العربية الشمالية. كما يعلل هذا الاحتمال الذي يتبناه، بالعلاقات التي تربط شمالي الجزيرة بجنوبها، فيقول:

“ويبقى احتمال قوي أن يكون الوزنان قد تسربا إلى العربية الشمالية من العربية الجنوبية في اليمن بحكم العلاقات التي تربط بين شمالي الجزيرة وجنوبها، فقد حدثت هجرات جنوبية كثيرة إلى الشمال، وتداخلت العلاقات السياسية كما تداخلت الأنساب القبلية أيضًا، وإلى جوار ذلك هناك رحلتا الشتاء والصيف التي كانت قريش تقوم بهما سنوياً. وكل ذلك لابد أن يؤدي إلى تأثيرات جنوبية في لغة الشمال”(3).

[1ــ2ــ2]: الوزنان في لغة نقوش المسند

يضيف السوسوة ــ إلى ما سبق ــ أن هناك إمكانية لتأكيد أن أصل الوزنين يعود إلى العربية الجنوبية. ذلك؛ إذا كانت لغة النقوش اليمنية القديمة تدون الحركات، لكن في نقوش المسند ليس هناك تدوين للحركات القصار والطوال(4). وعلى ذلك، فالنقوش اليمنية القديمة ــ وإن لم تدون الحركات ــ فإنها تنطقها. ويرى ــ أيضًا ــ أن هناك إمكانية لمعرفة نطق هذه الحركات، في لغة النقوش اليمنية القديمة؛ ذلك إذا تمت قراءة خطوط المسند في ضوء لغة الحياة اليومية الحاضرة. وهي القراءة التي ذكر أنها كانت موضوع نقاش، بينه والدكتور إبراهيم الصلوي، أستاذ النقوش اليمنية القديمة في جامعة تعز؛ إذ اتفق معه الدكتور الصلوي، على جدوى هذه القراءة، ووعده بتقديم أمثلة لهذين الوزنين وردا في نقوش المسند؛ استنادًا إلى هذه القراءة وقياسًا على الفصحى(5). وقد أورد السوسوة خمسة أمثلة، بعثها إليه الدكتور إبراهيم الصلوي، منها هذا المثال:

“في النقش الموسوم بـ C 573صيغة “أخ رن” وهي من الفعل “أخّرَ” والنون علامة المصدر وتُقرأ “أخارن” (= أخّارًا) بمعنى: صَدًّا، دحرًا، فيقال: أخّر إخّارن بمعنى: صدّ هجومًا صدًا، أو دَحَرَ الأعداء دحرًا”(6).

وبناءً على ذلك، يصل السوسوة إلى ما يشبه التأكيد أن اللغة الأولى، التي جاء منها هذان الوزنان، هي العربية الجنوبية، فيقول:

“وهكذا، فإن هذين الوزنين هما من العربية الجنوبية، تسربا إلى العربية المشتركة وجاء القرآن الكريم بإحدى الصيغتين، لكن اللغة الأدبية لم تحتفظ بهذين الوزنين في حين احتفظت بهما لغة الحياة اليومية، والشعر الملحون”(7).

[1ــ2ــ3]: قرائن إثبات أصل الوزنين في العربية الجنوبية

لقد استند الدكتور عباس السوسوة لإثبات أن أصل الوزنين العربية الجنوبية إلى ثلاث قرائن:

القرينة الأولى: خلو المؤلفات في اللغات السامية وعلم اللغة المقارن من تأصيلٍ لهذين الوزنين. وقد لا يكون خلو تلك المؤلفات قرينة كافية؛ لإثبات أن أصل الوزنين يعود إلى العربية الجنوبية،. وليس شرطًا أن يرد في هذه المؤلفات تأصيلٌ لكل شيء؛ فالمقارنات في اللغات السامية لم تصل إلى الاكتمال والشمول، ولا تزال مجالًا خصبًا بحاجة إلى مزيدٍ من الجهود والدراسات.

والقرينة الثانية: دور العلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية، بين شمال الجزيرة وجنوبها، في التأثير والتأثر المتبادل بين اللغتين: العربية الجنوبية والعربية الشمالية، مما يؤدي إلى انتقال الظواهر فيما بينهما، وانتقال الوزنين من العربية الجنوبية إلى العربية الشمالية بفعل هذا التأثير والتأثر والانتقال.

والقرينة الثالثة: استمرار هذين الوزنين في المحكية اليمنية المعاصرة. وإمكانية قراءة نقوش المسند على ضوء هذه المحكية. وهو الأمر الذي أخذ به السوسوة ــ هنا ــ بالتعاون مع الدكتور إبراهيم الصلوي.

والقرينتان: الثانية والثالثة، قرينتان موضوعيتان كافيتان للقول بأن أصل الوزنين يعود إلى العربية الجنوبية، لا سيما الدقة المنهجية، التي قامت عليها القرينة الثالثة، حينما احتوت على إجراءاتٍ تطبيقية، وقراءة ألفاظ مسندية على ضوء المحكية المعاصرة. كذلك، تزيد القرينتان من إسناد ومعاضدة القرينة الأولى، لتصبح قرينة ثالثة، تفتح الباب أمام هاتين القرنيتين؛ لإثبات الأصل الأول الذي جاء منه الوزنان: (فِعّال، وتِفعّال)، في المحكية اليمنية. وهو ما أثبته السوسوة، بمعية منهج الدراسة اللغوية التاريخي.

[2]: وزن (مِفعال/ مِفعالة): اسمًا للمكان ومصدرًا في المحكية اليمنية

كما أثبت السوسوة الأصل الأول، الذي جاء منه الوزنان (فِعّال وتِفعّال) على التساؤل، بنى تأصيله لهذا الوزن، على التساؤل أيضًا.

[2ــ1]: ترجيح عودة أصل الوزنين (مِفعال/ مِفعالة) إلى العربية الجنوبية

بعد دراسة السوسوة التاريخية لهذا الوزن ــ وتتبعه لدلالته على اسم المكان في التراث اليمني المكتوب، وبعد أن يستشهد بشواهد من هذا التراث، مقابلًا بين دلالتها وما يشبهها من مواد، وردت في المعجم العربي الفصيح القديم ــ يصل إلى هذا التساؤل:

“… نأتي إلى تساؤل مشروع: هل وجد هذا الوزن في العربية الجنوبية؟”(8).

وتأتي إجابته على هذا التساؤل، بترجيح وجود هذا الوزن في العربية الجنوبية(9). وهو هنا (يرجح)، بينما في تأريخ وزني (فعّال وتِفعّال)، كان احتمالًا، وموصوفًا بالقوة. وقد قام ترجيحه هنا على ثلاث قرائن:

القرينة الأولى: وجود “التشابه في دلالة كثير من المواد بين العربية الفصحى والمحكية اليمنية وألفاظٍ من المعجم السبئي”(10). ويأتي بأمثلة من المعجم السبئي، كل مثالٍ مسبوقٍ برقم الصفحة، التي ورد فيها في المعجم السبئي. هذه الأمثلة، رجّح السوسوة قراءة هذا الوزن فيها كما في المحكية اليمنية. ومن تلك الأمثلة، المثال التالي:

“(ص32) م ب س ل: مطبخ”(11).

والقرينة الثانية: “أن الصيغتين موجودتان في الجعزية في لغة الحبشة القديمة… وفي الجعزية يدل وزن مفعال ومفعالة ــ بكسر الميم وفتحها أيضًا ــ على اسم المكان وهي عامة فيها”(12).

والقرينة الثالثة: أن “اللغة العبرية القديمة تستخدم وزن مِفعال بدون تاء للدلالة على اسم مكان”(13).

[2ــ2]: موازنة بين قرائن (فعّال/ تفعّال)، و(مِفعال/ مفعالة)

جاءت القرائن الثلاث في وزني (مفعال/ ومفعالة) متعاضدة؛ لإثبات ما ذهب إليه السوسوة؛ فالقرينة الأولى تسير في مسار القرينة الثالثة في وزني (فِعّال وتِفعّال)، وتؤدي ما تؤديه القرينة الثالثة ــ تلك ــ مع اقتصار قرينة هذا الوزن ــ (مِفعال/ مفعالة) ــ على ترجيح الباحث ــ السوسوة ــ فقط. بينما كانت القرينة الثالثة ــ في وزني (فِعّال وتِفعّال) ــ مدعمة بجهدٍ تطبيقي لباحثِ آخر.

والقرينتان الثانية والثالثة ــ هنا ــ هما قرينتان تقويان القرينة الأولى. وتثبتان أن الأصل الأول هو العربية الجنوبية، لوجود الوزن في لغاتٍ ساميةٍ أُخَر.

[3]: صيغة الجمع (فعِيل) في المحكية اليمنية
[3ــ1]: الظاهرة مقصورة على المحكية

في بداية دراسة السوسوة لهذه الصيغة، يقول: “إن صيغة “فعِيل” بكسر الفاء، ليست في العربية الفصحى المشتركة ــ قديمًا وحديثًا ــ من صيغ جموع التكسير؛ بل هي صيغة متفرعة من “فَعيل” بفتح الفاء؛ التي هي اسم مفرد وصفة”(14). ثم يذكر ما قاله اللغويون فيها، مبينًا أنها كثيرة الشيوع في المحكية اليمنية. ويورد خمس ملاحظاتٍ على هذه الصيغة في المحكية اليمنية. ثم يورد أشيع الألفاظ الواردة فيها، مبينًا معانيها، وجموعها الأخرى، متتبعًا إياها تتبعًا تاريخيًّا من أقدم نصٍ وردت فيه.

ثم يقابل بين مفردات هذه الصيغة وأحكام العربية الفصحى، مُفصِّلًا ذلك، في ثلاث نقاط.

وفي نهاية دراسته لهذه الصيغة، بيّن أن تناوله لها يفصح عن عدم وجودها في العربية الفصحى المشتركة، وأن وجودها مقتصر على المحكية اليمنية: “فإذا علمت بعد هذا أن صيغ جموع التكسير في الفصحى والمحكية اليمنية كثيرة ومشتركة، أمكن لك أن تتوقع بسهولة مجيء هذه  الصيغة التي لا وجود لها في جموع الفصحى…”(15).

وكلام السوسوة ــ هنا ــ مساندٌ لما قاله في البداية، من عدم وجود هذه الصيغة في العربية الفصحى المشتركة. ويفتح ــ كلامه هذا ــ المجال لاحتمالاتٍ، تحوم حول اللغة الأولى، التي تبدأ منها هذه الصيغة. ومن هذه الاحتمالات، احتمال السوسوة، الذي يعيد فيه هذه الصيغة إلى العربية الجنوبية. يقول: “وهناك احتمال أن تكون هذه الصيغة موروثة عند اليمنيين من العربية الجنوبية، لكن لا يوجد ما يؤيد ذلك من نقوش المسند، بسبب أن خط المسند لا يدون الحركات”(16).

[3ــ2]: قرينة احتمالية عودة هذه الصيغة إلى العربية الجنوبية

لقد بنى السوسوة احتماله ذاك، على قرينة واحدة، هي عدم وجود الصيغة في العربية الفصحى، ووجودها في المحكية اليمنية المعاصرة. وهي واحدة من القرائن، التي استند إليها في دراسته المقارنة لوزني: (فِعّال وتِفعّال)، ووزن (مِفعال/ مفعالة). هذه القرينة ــ هنا ــ غير مفصلة كسابقتيها؛ لذلك يظل احتمال عودة هذا الوزن إلى العربية الجنوبية مجرد احتمال قابلٍ للإثبات، وعدم الإثبات. وعلى ذلك، فهناك مجالٌ لإعادة هذا الوزن إلى العربية الجنوبية؛ قياسًا بدراسته للأوزان السابقة، وما وصلت إليه تلك الدراسة، ويظل باب القرائن مفتوحًا أمام الباحثين؛ لإثبات ذلك، سواءٌ في هذا الوزن، أو غيره من الأوزان، والظواهر اللغوية، التي تعود إلى العربية الجنوبية.

[4]: المحك قراءة نقوش المسند في ضوء اللغة المعاصرة

إن دراسة السوسوة المقارنة لهذه الأوزان ــ (فِعّال وتِفعّال)، و(مِفعال/ مفعالة)، و(فعِيل) في المحكية اليمنية ــ تلفت انتباه الباحثين إلى نقطةٍ مهمةٍ، تمثل المحك الذي يمكن به ومن خلاله معرفة الظواهر اللغوية التي تعود إلى العربية الجنوبية. هذا المحك هو قراءة نقوش المسند في ضوء اللغة المعاصرة محكيةً وفصحى؛ من أجل الوصول إلى نطق الحركات في لغة النقوش اليمنية القديمة. وتمثّل القراءة في ضوء اللغة المعاصرة إجراءً لتجاوز عدم تدوين الحركات في نقوش المسند، فلو كانت الحركات مدونة، لكان الوصول إلى أصول الظواهر في العربية الجنوبية ميسورًا. كما أن اتخاذ سبيل قراءة نقوش المسند ــ في ضوء اللغة المعاصرة ــ حلٌّ موضوعيٌّ لهذه الإشكالية.


  1. عباس علي السوسوة، “دراسات في المحكية اليمنية”. ط2، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1428هـ ـ 2007م، ص: (95). ↩︎
  2. نفسه، ص: (96،95). ↩︎
  3. نفسه، ص: (96). ↩︎
  4. أ. ف. ل. بيستون، “قواعد النقوش العربية الجنوبية (كتابات المسند)”. ترجمة: رفعت هزيم. مؤسسة حمادة، إربد، 1995م، ص: (12،11). ↩︎
  5. عباس السوسوة، “دراسات في المحكية اليمنية”. مرجع سابق، ص: (97،96). ↩︎
  6. نفسه، ص: (97). ↩︎
  7. نفسه، ص: (98). ↩︎
  8. نفسه، ص: (144). ↩︎
  9. نفسه. ↩︎
  10. نفسه، ص: (145،144). ↩︎
  11. نفسه، ص: (145). ↩︎
  12. نفسه، ص: (146). ↩︎
  13. نفسه. ↩︎
  14. نفسه، ص: (99). ↩︎
  15. نفسه، ص: (113). ↩︎
  16. نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *