تغريبة القافر سالم وسردية الماء

تغريبة القافر سالم وسردية الماء

تغريبة القافر سالم وسردية الماء

د. عبده منصور المحمودي

“تسريْد المَاء فِي روايَة “تغريْبة القافِر””(1).

في روايتهِ “تغرِيبة القافِر”(2) ـــ الفائِزة بالجَائزةِ العالميّة للرّوايَة العربيّة “البُوكر”، 2023م، في دورتها السادسة عشرة ـــ أقام الكاتب العماني زهران القاسمي اشتغاله السردي على تيمة الماء. من خلال التعاطي مع أحداثٍ من حياة الشخصية الرئيسة “سالم”، بصفته “القافر”. المحيلة ـــ في أصلها اللغوي ـــ على التّتبع والاقتفاء. والتي تصَدّرت عتبةَ العنونة، مضافةً إلى مصدرية “التغريب”، تلك المصدرية الدالة على التمادي في السفر. ومن خلال صيغة العنونة ــ هذه ــ تجلّت سياقات الحياةِ التي عاشَها سَالم. بخصوصيتها وجوهرها، القائم على البحث عن الماءِ في بُطُون الأَوْديَة.

   وقد ارتبطت ـــ بحياة هذه الشخصية الرئيسة ـــ عددٌ من الشخصيات الثانوية. المنتمية إلى الحيّز المكاني نفسه الذي تنتمي إليه الشخصية الرئيسة، المُشَار إِليْه بِقريّة “المسْفاة”، إحدى القرى الريفية في سلطنة عمان. التي صارت تفاصيل الحياة فيها، من ثيمات الرواية العمانية.

  ومثْل الحيّز المكاني. الذي تشترك فيه بُنية الشخصية السردية رئيسةً وثانوية. يأتي الحيِّز السرديّ الزّماني، إذ لم تظْهرْ مساراتُه ومَعالِمُه بجلاءٍ. باستثناءِ ما ورد من إشاراتٍ، تحيل على أنه زمن يعود إلى حقبٍ من التاريخ القديم. الذي يسبق ثورة الحياة التصنيعية وتقنياتها ووسائلها الحديثة. من ذلك، تلك الإشارة الواردة ضمن الحديث عن رحلة مرضعة سالم، إلى زوجها المريض في قرية بعيدة. والذي لم تصل إليه إلا بعد أيامٍ ثلاثة، مسافِرةً على ظهر حمارٍ يقوده دليل. ومثل هذه المسافة، لم تكن تُقطع على ظهور الحيوانات، إلّا قبل ظهور صناعة وسائل المواصلات الحديثة، وقبل الثورة النفطية في دول الخليج العربي.

سردية الغرق والولادة

   على لسان الراوي العليم، تساردت أحداث العمل، استهلالًا بحادثة ولادة سالم، التي أُثِّثَتْ لحظتُها باستعادةٍ لشطرٍ من حياة الأبوين: (عبد الله بن جُميِّل)، “الذي يعمل في الضواحي، فيقضي جلّ وقته في سقي النّخيل والاعتناء بالمزروعات، ويعطيه أصحابُها ثمنًا لجهده حسب الاتّفاق، أو جزءًا من الثمار عند جنيها”(3).

   وشريكة حياة عبد الله: (مريم بنت حمد ود غانم)، التي تأخر حملها سنواتٍ. وحين نالتْه، داهمتْها نوباتُ صداعٍ، لم يكن يشفيها منها سوى الماء، بعد أن تضع فيه رأسها. تقدم بها الحمل واقترب من المخاض، حينها زادت حدّة صداعها وشراسته. كما طرأ على حالها ــ تلك ــ ذاك الحلم. الذي ترى فيه مُنادِيًا، يُناديْها مِن قِعر البِئْر، وترى نفسها متداعيَةً إليه. ثم تجاوز الحلم ماهيته الذهنية المُجَرّدة، حينما تجسّد واقعًا عاشتْه مريم، وهي تتداعى معه. ومن ثم تهبط إلى قعْر تلك البئْر، مستعينةً بحبْلٍ، انْقَطَع قبلَ أن تصل إلى المَاء، حيث فارقت حياتها غرْقًا فيه.

    يتنامى السياقُ السردي ونسيج الماء في رواية تغريبة القافر مع حادثة الغرق، ساردًا تداعيات هذه الحادثة. إذ اجتمع أهل القرية نساءً ورجالًا على حافة البئر، انتشلوا جثة الغريقة. لاحظوا حركة الجنين في بطنها دالةً على حياته، فاستعر الخلاف بينهم حول مشروعية إخراجه من عدمها. في تلك اللحظة، التي يتعالى فيها هَرَجُ الخِلاف، أقدمتْ واحدةٌ ممن تواجَدْنَ هناك، على أخذ سكِّين من حِزامِ أحد المتواجدين. وبها شقّت بَطْن مريم، وحرّرت جنينها، من فناءٍ كان على حافّة الوقوع فيه.

سردية القدرات الخارقة

  تسردُ الحكاية وسياقاتها غرابةَ حال سالم، التي يمتلُك فيها قدراتِه الخارقة على سَماعِ المَاءِ، الذي يجْري تحتَ الأَرَض. كما سردت ردود الفعل الاجْتماعي، وتفسيراته لهذه الحال بأنها ليست سوى مسٍّ. يتمكّن سالم بواسطته من سماع نوعٍ من الكائنات الشيطانية، لا سماعَ ماءٍ جارٍ. وعلى هذه الحيثيات، تأسست لحظةُ إنصاف سالم، في حال قحطٍ ضربتْ القَرية، ولم يجد أهلها سبيلًا إلى العثور على مَاء. كما سخروا ــ في الآن نفسه ــ من ذاك الاقتراح، الذي تضمّن إمكانية الاستفادة من قُدرات سَالِم الخَارِقة. تغافل سالم عن سُخريّتهم ــ تلك ــ فبدأ بمفرده في عملية الحفرِ، حيثُ اسْتقرّ به سماعُه صوت خريْر مَاء. عندها تلاشت تلك السخرية، مع ظهور أولى علامات نجاحه، وما تلاها من بشائر تدفّق المَاءِ، الذي اخضرّت به حياتهم. كما اخضرّت به حياة القافر سالم؛ إذ صارت قدرته الخارقة ـــ تلك ـــ ميدانَ عمله، الذي غَلَبَ عليه أن يرافقه فيه أبوه.

تسريد آصرة الحب والعمل

      يظهر في نسق الحكاية نسيجٌ لعلاقةٍ بين الحب والعمل في تغريبة القافر، وبوجه خاص في حياة القافر نفسه “سالم”. وهو ما تجلّى في قريةٍ مجاورةٍ وصل إليها للعمل. وفيها صادف الفتاة التي سبق وأن خفق إليها قلبه قبل سنوات، واختفت عن أنظاره. التقى بها، أطلع أباه على الأمر، فطلبها له، أقيم حفل زفافهما. ولم تكتمل الفرحة؛ إذ داهمت صبيحتها تلك المأساة، التي صادرت حياة الأب في مكان العمل. حينما حال بينه وبين استمرار الحياة تساقُط سَقفِ القَناة.

   بعد الكارثة ــ تلك ــ غادر القافر سالم وعروسه إلى قريته مكلومًا بوفاة والده. وقطع على نفسه عهدًا، على عدم العودةِ إلَى هَذا النّوع مِنَ العمَل، الذي فسر به شقاءه وتَعاسَتَه. لكنّه لم يحافظ على ذاك العهد، فبعد سَنوات أبدى موافقته على القيام به في إحدى القُرى التي كان الجفاف قد أهلَكَها. بعد أن وجد في العرض ما يكفي لأن يعود إلى عمله ذاك متجاوزًا ما كان قد عاهد نفسَه عليه. لم يحالفه النجاح، فاستبد اليأس والإحباط بمن عملوا معه ومَنْ وضعوا فيه آمالهم، كلّهم غادروه. عاوَد العملَ بمفرده كمحاولةٍ أخيرة، انفجر الماء، فوجد نفسه منسحبًا إلى أعماقه، لم تُجْدِ معه محاولات النجاة التي بذلها؛ فتعايش مع كائنات مَحْبسه المَائِيّ ــ ذاك ــ واقتات على مَا يَتَوافَرُ في سَرادِيْبِه مِن هوَامٍ وعَناكِب.

   وطيلة تغريبة القافر سالم في محبسه المائي ــ ذاك ــ كانت امرأته تتمزّق بغيابه، مُبَدِّدة الزمن برعي أغنامها. كما شرعت في غزْلِ الصوف، غازلةً به أيام انتظارها عودة سالم من تغريبته المائية. منح الحظ القافر فرصةَ نجاةٍ جديدة، حينما عثر على مسماره ومطرقته، حاول توسيع فتحة خروج الماء؛ كي تتسع لخروج جسمه، لكنه فقد المسمار ثانية، فاستعرَ غضبُه، واكتفى بالمطرقة، ضرب بها الصخر بقوةٍ، ثارت فيها فصول مأساته وذكرياته وغيابه وعذاباته، تهاوى الصخر، وانفتح الطريق؛ فاندفع فيه الماءُ جارفًا معه كل شيءٍ، بما في ذلك القافر سالم.

أنثروبولوجيا القرية العُمانية             

    أثرى الاشتغال على رواية (تغريبة القافر) مساراتها السردية، بخصائص الحياة الشعبية، تلك الحياة المنتظمة في سياق القرى الريفيّة في سلْطنة عمان. لذلك، فقد مثّل العمل في الزّراعة والرّعي من أهم سياقات الحياة الجوهرية في هذه الدِّيْموجرافيَا الريْفيّة. ومثل ذلك تعاطي هذا الاشتغال مع بعضٍ من المعتقدات الشعبية العمانية، وتقديمها على ما هي عليه، بشكلٍ يمكن توصيفه بأنه تجسيدٌ حيويٌّ لأثر الثقافة الشعبية الفاعل في صياغة الإبْداع الأدبيّ ــ لا سِيّما الأدَب السَّرْديّ ــ وفي سياق ذلك، تجسيدٌ للتمايز بين الأمم والشعوب في آدابها. بل وبين آداب شعوب الأمة الواحدة، المتشاركة قواسم الانتماء الأيديولوجي والجغرافي؛ وهو ما اضطلعت به السردية المُنْجَزة في تغريبة القافر، من إضفاء طابعٍ من الخصوصية المحلية السائدة في ريف سلطنة عمان.

    وفي سياق ذلك، يأتي استثمار هذا العمل للصلات الثقافية، التي تربط ما بين حيّزه المكاني (ريف سلطنة عمان) ومحيطه العربي. من ذلك، ما يسودُ من اعتقادٍ شائعٍ في مُعايشَة كائنات الجن للإِنْسان، وقُدراتها على أن تضع مكانَه الكائن البشري كائنًا من عالمها غير المرئي. بما لهذا الاعتقاد من امتدادٍ في نسيج الثقافة الشعبية العربية، مثله مثل غيره من المعتقدات والصلات الثقافية، التي لها تَمَوْضُعُها في الذهنية الاجتماعية، كما لها انعكاسُها في سلوكيات الإنسان ومسارات حياته وأفكاره ورؤاه وقراراته.

حيوية التشويق والشغف

   من أهم الخصائص ـــ التي اتّسمت بها سردية الماء في تغريبة القافر ـــ سمة التشويق في تَسَارُدِ أحداثِها، بحيويةٍ اكتنزتْ مستوىً عاليًا من مشاكسة توقعات المتلقي بما لم يلُحْ له في آفاقه الاستشرافية.

  وقد نُسجت كثير من التحوّلات والمفاصل التشويقية في الاستئناس بتقنية “الفلَاش بَاك”. التي تنطوي على فاعليةٍ في إثراءِ السياقات السردية. من خلال استعادة مَساحَاتٍ مختلفة من حيَاة الشخصيّات الثانويّة. وبوجهٍ خاص ما يعود منها إلى زمنٍ سابقٍ لولادة الشخصية الرئيسة القافر سالم. الذي كان نسقُ حكايته متصلًا من لحظة ولادته حتى نهايته الغريبة، مع ما تخلّلَ هذا النسق من استرجاعاتٍ محدودة بين الحين والآخر.

      كما كان للشغفِ حضوره الفاعل في حيوية التشويق السردي؛ تطَلُّعًا لما سيفضي إليه إخلاص الإنسان لشغفه. وقد كان البحث عن الماء ـــ والاستمتاع بالعمل على الوصول إليه ـــ شغفًا تفرّد به القافر سالم. وقد بلَغ به إخْلاصُه لِشَغفه الذَّروة، وهو متفانٍ في انهماكه الذي يعمل فيه على استِخراجِ مَاء، يتهادى إلى سِمعهِ في قِمّة الجَبل. كاد أن يظفر به، لكنه تداعى مع حالٍ انتزعتْه من ذروة الشغف، وأحلّت محلّه حافزَ الفوز بما وُعِدَ به من مكافأةٍ عظيمة. لم يكن ذاك الوعد سوى طريقٍ إلى ذاك المصير المجهول ضمن ما جرفه انفجار الماء.

المَاءُ وَالرّؤيّةُ السَّرْدِيّة

    تبلورت الرؤية السردية ـــ في رواية تغريبة القافر ـــ من علاقة الماء بالحياة الإنسانية. فالماء في هذه الرواية نسيجٌ سرديٌّ فاعلٌ في انسياب تفاصيل الحكاية ومساراتها. بدايةً من ماهية الماء دواءً لصداع مريم، ثم ملاذًا لها حينما تماهت غرقًا فيه، إذ غادر ماهيته العلاجية، وسكنتْه ماهيةُ الداء التي تجسّدت في هيئةِ موتٍ زعاف. تكاثف الماءُ بعده مطرًا حانيًا على جنازتها، ملأ قبرها، فكان لها قبرًا مائيًّا أُهيل عليه التراب. كما كان ـــ في الآن نفسه ـــ غيثًا تتابعَ، واستمر به اخضرارُ الحياة:

“مرّتْ خَمْسَة عشْر عامًا علَى وَفاةِ مَريم بنْت حمَد ودْ غانِم غَريقةً فِي البِئر، واسْتمرّت آثَار مَا حدَثَ بعْد ذلكَ مِن سُيُولٍ وَخصبٍ سنواتٍ لم يشعر النّاس خلالها مرّةً بانقطاع السّحاب، بل ما عادوا يحفلون بأن تكون السّماء غائمةً أو صحوًا، إنما ظلّوا يسقون ضواحي النّخل والبساتين ويوردون مواشيهم المياهَ الوفيرةَ التي انبثقت من الأرض وشقوق الجبال”(4).

   كما تشكّلتْ بالماء تفاصيلُ حياةِ الشخصية الرئيسة القافر سالم: فالماء ميدانُ شغفه، الذي تفانى في الإخلاص له. وبه أنقذ القرية من فترة قحطٍ، ضربها بعد سنوات من موت أمه. وفيه رأى رغد الحياة، حينما بحث عنه في قمة الجبل. وإليه سافر سفرته الأخيرة، التي جعلت منه أسيرَ الماء، بعد أن حرره من محبسه.

    لقد قام معمار سردية الماء في رواية تغريبة القافر، على هذه العلاقة الملتبسة التي تربط بين الماء وبين الحياة. بما في هذه العلاقة، من تناقضٍ في ماهية الماء؛ بوصفه روحًا لاخضرار الأرض وحياة الإنسان. وبوصفه المناقض مخلبًا من مخالب الموت؛ إذ صادر حياة أم سالم وأبيه، وسار بسالم في الطريق نفسه، ليصل بالمسارات السردية إلى نهايتها. تلك النهاية، التي انفتحت على مصيرٍ مجهولٍ لسالم. مصيرٍ انفتحتْ احتماليتُه على اتجاهين متناقضين بتناقض ماهية الماء: الأول، حياة سالم الجديدة. والثاني موتُه شبه المحقق، وهو ما يمكن استشفافه من قوة اندفاع الماء الجارف كلَّ شيءٍ في طريقه.


  1. عبده منصور المحمودي، مجلة الرافد. الشارقة، 3ــ 7ــ 2023م. ↩︎
  2. زهران القاسمي، “تغريبة القافر”، دار مسكلياني 2022م. ↩︎
  3. نفسه، ص: (16). ↩︎
  4. نفسه، ص: (97). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *