ثقافة الهزل حاجة إنسانية واجتماعية

ثقافة الهزل حاجة إنسانية واجتماعية

ثقافة الهزل حاجة اجتماعية وإنسانية

د. عبده منصور المحمودي

لا يمكن للحياة الإنسانية، ولا لسياقات الواقع الاجتماعي في أي زمان ومكان أن يستقيم بالجد وحده. إذ لا بد من أن يتداخل الجد بصور من الهزل الفاعل في تطرية العلاقات الإنسانية؛ بوصفه نشاطاً اجتماعيّاً، وحاجة إنسانية متقادمة في المجتمعات البشرية. أتطرق في هذه المقالة إلى هذا النسق الاجتماعي، مستهدفاً الوقوف على دلالته وعلاقاته مع تفاصيل الحياة الاجتماعية والإنسانية. بما في ذلك إلقاء الضوء على أنواعه، التي تتوزع على: النكتة، والسخرية، والفكاهة.

[1]: الهزل: الدلالة والنشاط الاجتماعي والفكري
[1ــ1]: دلالة الهزل

ورد الـهزل، فـي معجم “لسـان الـعرب”، بمعنـى الفكـاهـة والتفكـه: “الهـزل والهزالة والمهازلة الفكاهة ونقيض الجد، يقال هَزَل (من باب ضرب وفرح) وهازَل، ورجل هازِل ومهازل وهِزِّيل كثير الهزل…”(1).

وقد دلّت في اللغة العربية، عددٌ من الألفاظ على الضحك والإضحاك والفكاهة والسرور. من مثل: البِشْر، والبشاشة، والبهجة، والابتهاج، والجذل، والسرور، والضحك، والطرب، والظرف، والفرح، والفكاهة… وما شابه ذلك، من الألفاظ، التي تعبر عن هذه الحال من الشعور الإنساني.

[1ــ2]: الهزل والفكاهة نشاط إنساني

الهزل والفكاهة، نشاطٌ إنساني، يعمل على بث روح الألفة والمحبة؛ فالابتسامة هي اللغة العالمية الوحيدة المشتركة بين كل أفراد الجنس البشري، التي يفهمها الناس كلهم، من دون الحاجة إلى ترجمة معانيها. بمعنى أن الابتسامة تمازج الأرواح؛ لما لها من معانٍ إنسانية نبيلة. يقول (تشارلزبل) عام 1806م: إن “الابتسامة يمكنها أن تنقل آلاف المعاني”(2).

والهزل والتفكه نشاطٌ اجتماعي، لا يحدث إلا في إطار جماعة تتشارك فيه؛ فليس”من الشائع أن يضحك إنسانٌ وحده، مهما يكن مبعث الضحك قويًّا. ولقد يبتسم وحده، لكنه لا يضحك ولا يقهقه، فإذا كان في جماعة من الناس ضَحِكَ وقهقه، وإن كان مثير الضحك أضعف كثيرًا مما لم يضحك منه منفردًا”(3).

وبذلك، فإن الهزل حاجة من حاجيات النفس البشرية؛ لمواجهة أعباء الحياة. أي أن الجد والهزل جانبان مهمان في حياتنا؛ لذلك “من الواجب أن نقرن صفحة حياتنا الجادة بصفحة حياتنا الفكهة، حتى نطلع على حقيقة حياتنا اطلاعًا تامًّا أو كاملًا”(4)، ولأن “في تمثيل الهزل حظًّا وافرًا من الجد كما أن في تصوير القبح حظًّا وافرًا من الجمال”(5).

[1ــ3]: الهزل في الأدب العربي

اهتم المؤلفون والأدباء العرب بالهزل؛ فالجاحظ في تقديمه لكتابه “البخلاء”، يعلي من شأن الهزل بجانب الجد؛ لخلق التوازن في التعامل مع مجريات الحياة، فيقول عن كتابه “البخلاء”: إنه “يدور حول نوادر البخلاء، واحتجاج الأشحاء، وما يجوز منه في باب الهزل، وما يجوز منه في باب الجد، لأجعل الهزل مستراحًا، والراحة جمامًا، فإن للجد كدًّا يمنع من معاودته، ولا بد لمن التمس نفعه من مراجعته”(6).

ويقول التوحيدي، عن الهزل وضرورته للحياة: “إياك أن تعاف سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل الجارية على السخف. فإنك لو أضربت عنها جملة، لنقص فهمك وتبلد طبعك، ولا يفتق العقل شيء كتصفح أمور الدنيا ومعرفة خيرها وشرها وعلانيتها وسرها، فاجعل الاسترسال بها ذريعة إلى إحماضك، والانبساط بها سلمًا إلى جدك، فإنك إن لم تذق نفسك فرح الهزل كَرَبَها غم الجد”(7).

ويقول ابن الجوزي، عن موقف العلماء من الهزل: “وما زال العلماء والأفاضل تعجبهم الملح ويهشون لها، لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر”(8).

لذلك؛ فإن الهزل في الأدب العربي، له حضوره وأعلامهُ البارزون، منذُ القدم حتى العصر الحديث. لكن على ذلك، “لم يكتب تاريخ الضحك في الثقافة العربية، بشكل كامل حتى الآن، وما زلنا بحاجة إلى الكتابة عن أعلام التراث العربي الذين لهم صلة بهذا الشأن، على غرار ما كتب باختين عن رابليه”(9).

[1ــ4]: الفلاسفة والضحك

اعتنى الفلاسفة بالضحك، فشملوه بالدراسة والتحليل. ويقال إن الفيلسوف اليوناني (أفلاطون) هو الأب الحقيقي لدراسات الضحك؛ إذ أوقف جانبًا كبيرًا من اهتماماته على دراسة الضحك(10). وجاء (سقراط) بعده برؤاه المبنية على التهكم(11)، و(أرسطو) برؤيته للاعتدال والتوسط في كل أمور الحياة، والاستعانة بذلك على تنظيم أمور الحياة وفقًا للفضيلة(12).

ولأهمية الضحك والفكاهة والهزل في الحياة، تُقام له المؤتمرات، والمهرجانات. سواءٌ على مستوىً دوليٍّ، أو محلي. و”قد عُقد أول مؤتمر علمي حول الفكاهة والضحك في ويلز عام 1976م، وتبعته مؤتمرات عديدة في أماكن مختلفة من العالم”(13). كذلك “هناك مهرجان للضحك يعقد في بلجيكا خلال شهر مايو من كل عام كما عقد مهرجان دولي للكاريكاتير هناك في عام 1986م”(14). وشهدت دولة لبنان خلال شهر يوليو 2002م، أول مهرجان في الشرق الأوسط للضحك(15).

[1ــ5]: التناقض باعث الضحك

يكون باعث الضحك المجسد للهزل كامنًا في إدراكِ التناقض بين معطيات المواقف المثيرة للضحك والتفكه. وقد أطلق الفلاسفة على هذا التناقض “نظرية التناقض في المعنى”. وقد كان الإرهاص الأول لهذه النظرية، عند (أرسطو(16)). ثم تجلت أبعادها عند الفيلسوفين (كانت) و(شوبنهور(17))(18)؛ إذ يُعدُّ (كانت) هو الأب الحقيقي لهذه النظرية، التي تقول: “إن الضحك هو الاستجابة الخاصة لإدراكنا لعدم الاتساق أو (التناقض) في الأقوال والأفعال، وإنه ليس مجرد استجابة لإدراكنا لجوانب النقص أو القصور لدى الإنسان”(19). وهو ما يقول عنه الجاحظ: “إن الكلام قد يكون في لفظ الجد، ومعناه معنى الهزل، كما قد يكون في لفظ الهزل، ومعناه معنى الجد”(20).

ومما يؤدي إلى هذا التناقض، اللعب اللغوي القائم “على التقديم والتأخير وعلاقتهما بالوزن والإيقاع والارتباط النصِّي، والصفات وما تحمله من مجاوزات لغوية، تحيي الانفصال الدلالي حيث تفقد مدلولاتها القديمة، وتكتسب مدلولات جديدة، فتظهر بغير ما تُعرف به”(21)؛ فيكون بذلك التناقض والاختلاف، بين قصدية الدلالة وقصدية اللفظ(22).

[2]: مجالات الهزل
[2ــ1]: النكتة
[2ــ1ــ1]: النكتة: الدلالة والبُنية

النكتة Joke / Wit صورةٌ من صور الهزل، في أي مجتمعٍ من المجتمعات. ويعرّفها الفيلسوف (كانت)، بأنها “حالة من التوقع الشديد الذي يتبدد فجأة فيفضي إلى لا شيء”(23). وهي عند الفيلسوف (شوبنهور): “محاولة لإثارة الضحك على نحو قصدي، من خلال إحداث التفاوت بين تصورات الناس والواقع المدرك”(24).

ويرى العالم النفسي (فرويد)(25): أن “النكتة بمثابة الآلية النفسية الدفاعية التي تقوم في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وتعمل على تحويل حالة الضيق إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة”(26). ويتمثل التنكيت عند (فرويد)، في القدرة “على الربط في وحدة معينة، وفي لمحة سريعة مثيرة للدهشة، بين أفكار عديدة هي في حقيقتها غريبة بعضها عن بعض، سواء في محتواها، أو في سلسلة الأشياء الرابطة بينها”(27).

وللنكتة بنيتها الخاصة، ولها تكنيكاتٌ يحددها كل عالِمٍ من وجهة نظره ورؤيته للأشياء. وأوضح ما قيل عن هذه البنية، ما جاء به (آرثر برجر)؛ إذ قال إن النكتة تقوم على ثلاثة مكونات(28):

المكون الأول: وحدات التنكيت الأساسية، المتمثلة في الأقوال والأفعال.

والمكون الثاني: العلاقات بين الأفراد التي تدور حولهم، أو الإحالة على بعض خبرات المستمعين، أو علاقاتهم مع الآخرين.

والمكون الثالث: الضحك، ويحدث الضحك استجابة لعملية سرد النكتة وتكوين علاقات خاصة بها، يجري تغييرها فجأة على نحو غير متوقع، ومثير للشعور بالتناقض أو الإدراك له، حيث يكون التناقض بين إدراك المتوقع وإدراك غير المتوقع.

[2ــ1ــ2]: أنواع النكتة

[2ــ1ــ2ــ1]: النكتة السياسية

من وظائف النكتة، “التنفيس عن مشاعر الإحباط أو اليـأس التـي يشعر بـها الناس تجاه بعض الشخصيات السياسية، أو تجاه ظروف اقتصادية وسياسية سيئة”(29). وهذا هو ما تدور حوله النكتة السياسية، من تعبير عن الشعور تجاه شخصيات سياسية، أو ظروفٍ سياسية، في أي مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية، لا سيما المنهكة بالفساد السياسي والإداري.

[2ــ1ــ2ــ2]: النكتة الاجتماعية

تنتمي النكتة الاجتماعية ــ بصفة عامة ــ إلى ما يُعرف بـ”الفكاهة العرقية”. وتميل “إلى أن تعكس اتجاهاتٍ سلبية تجاه (أو ضد) سمات خاصة بثقافة جماعة أخرى معينة، فتنسب إلى هذه الجماعة (الأخرى) صفات مثل الغباء، أو القذارة، أو الانشغال الزائد بجمع المال…”(30)، من أجل تقويم السلوك الاجتماعي وتوجيهه؛ لأن من وظائف النكتة “تحديد بعض أنماط السلوك الاجتماعي المقبولة وغير المقبولة من خلال حكي بعض النكات حولها”(31).

[2ــ1ــ2ــ3]: النكتة الحسية

المراد بالنكتة الحسية، تلك النكات ذات المضامين والدلالات الجنسية، أو ما أطلق عليه (فرويد) (النكات الجنسية)، فقد قسم (فرويد) النكتة إلى قسمين اثنين: النكتة العدائية، والنكتة الجنسية(32). ويرى أن النكتة الجنسية “تخدم الأغراض الخاصة بالاستعراض أو الكشف عن الميول الجنسية، وما يرتبط بها كذلك من مشاعر الخجل أو الذنب، وكل ما هو فاحش وخارج، أو مقرف، بالمعنى الشامل لهذه الكلمة”(33).

والنكتة الحسية تعبيرٌ عن المسكوت عنه في الأنساق والتقاليد الاجتماعية، فهي وسيلة للتنفيس عما تحُولُ دون الإفصاح به الأنساقُ والتقاليدُ الاجتماعية؛ فمن وظائف النكتة “التخفيف من وطأة بعض القيود الاجتماعية، وخاصة ما يرتبط منها بالنواحي الغريزية (الجنسية خاصة)، وكذلك السلوكيات التي تنظمها المجتمعات على نحو أخلاقي (الجوانب الجنسية والعدوانية)”(34). ويختلف انتشارها من بلدٍ إلى آخر، ومن فلسفة إلى أخرى؛ فهي ــ مثلًا ــ منتشرة في فرنسا(35)، وموضوعٌ مألوفٌ وشائع في إيطاليا(36). وهي ــ بوجهٍ عام ــ أكثر انتشارًا عند الغرب من انتشارها عند العرب، بالرغم من الفارق في سقف الحرية عند كلٍّ منهما(37)، على اعتبار أن العلاقة عكسية بين الحرية وانتشار النكتة، فكلما زادت الحرية قل تداول النكتة، كما يقول (ديفيز)، في تحديد العلاقة بين الحرية السياسية والنكتة السياسية(38).

[2ــ2]: السخرية
[2ــ2ــ1]: السخرية: الدلالة والأهمية

السخرية Sarcasm، صورة أخرى من صور الهزل. وقد ورد أصل السخرية في معجم “لسان العرب” بمعنى التذليل؛ “سخرته: أي قهرته وذللته… وسخره تسخيرًا كلفه عملًا بلا أجرة”(39). والسخرية، “هي الاستهزاء والسُّخرة والضُّحكة”(40).

والسخرية في الاصطلاح: “نوع من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي الذي يقوم على أساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائص الإنسانية، الفردية منها والجمعية”(41).

وهي عند الأوروبيين “طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظًا تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة”(42).

وبذلك؛ فالسخرية مظهرٌ من مظاهر النقد لما لا ينسجم مع المسار الإنساني، أو المسار الاجتماعي، المتبلور من خصائص، وهوية كل مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية؛ إذ تهدف إلى “مهاجمة الوضع الراهن في الأخلاق والسياسة والسلوك والتفكير”(43)، بطريقة فكهة مثيرة للضحك.

والناقد الساخر “يكون ذا عين بصيرة نفاذة: يحس نقائص المجتمع، ثم يكون ذا روح مرح ضاحك يتناول العالم وما فيه تناولًا بأساليب السخرية المختلفة، يقصد من وراء ذلك الإصلاح، وفي طيات ذلك الإضحاك”(44).

[2ــ2ــ2]: أنواع السخرية
[2ــ2ـ2ــ1]: السخرية السياسية

في أية حياة سياسية أخطاءٌ وتجاوزات، تقود إلى إشكالات، تتعقد بها حياة الشعوب. وأبرز المواقف من هذه الأخطاء، هو معالجة إشكالاتها، بطرقٍ مختلفة، من هذه الطرق، “السخرية”، سواءٌ من الأدباء، أو المفكرين، أو الشعب نفسه؛ فحينما “يحس الشعب بضغط الحياة على نفسه. فإنه ينزع إلى الضحك والسخرية، وإن كان في الحقيقة يسخر من مشاكله التي يعاني منها”(45).

[2ــ2ــ2ــ2]: السخرية الاجتماعية

كما تُعدّ السخرية وسيلة تقويمٍ لأخطاءٍ وسلوكياتٍ سياسية، هي، أيضًا، وسيلة تقويمٍ وتوجيهٍ للسلوكيات الاجتماعية نحو وجهتها السليمة؛ فمن خلال السخرية “تُنقد بعض المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وبعض الشخصيات والسلوكيات”(46). وقد كانت السخرية عند (الإسكيمو) نوعًا من العقاب ضد اللصوص(47). وأدت السخرية الغرض نفسه، عند الأوروبيين، في القرون الوسطى؛ “حيث كان اللصوص، والسكارى، وغيرهم من الخارجين على القانون أو المخطئين، يتم تقييدهم وشل حركتهم في أماكن معينة، ثم تتاح للمواطنين بعد ذلك للسخرية منهم بأشكالٍ عديدة”(48).

وإذا كانت السخرية وسيلة عقابٍ رسمية، فإنها ــ أيضًا ــ فرصة عقاب فردية، أو جماعية؛ لمواجهة السلوكيات الاجتماعية غير المرغوبة.

[2ــ3]: الفكاهة
[2ــ3ــ1]: الفكاهة: الدلالة والأهمية

الفكاهة Humour\Humor، هي الصورة الثالثة، من صور الهزل. وقد وردت في معجم “لسان العرب”، بمعنى المزاح؛ فيقال: “فَكِهَ الرجل بالكسر، فهو فَكِهٌ إذا كان طيب النفس مَزّاحًا، والفاكهُ: المزّاحُ. والفكاهة، بالضم: المزاح. والتفاكه: التمازح. وفاكهت القوم مفاكهة بمُلح الكلام: المزاح، والمفاكهَةُ المُمازحَة”(49). والفكاهة في قاموس المورد “ملكة عقلية تمكن المرء من اكتشاف المضحكات أو تقديرها والتعبير عنها”(50).

وللفكاهة مكانها بين اهتمامات العلماء والمفكرين، لا سيما العلماء النفسيين، فهي عند (فرويد) “نوع من الآلية الدفاعية التي تسمح للمرء بأن يواجه موقفًا صعبًا من دون أن يقع فريسة للانفعالات غير السارة المصاحبة لهذا الموقف”(51). لذلك، فهي عنده “واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان”(52). وينظر إليها (كير كجورد)(53)، “بوصفها تعطيـلًا مـؤقتًا للشـعور بـالألم، وتحـويلًا خاصًّا للمعاناة إلى شكل مغاير لها، هو الضحك والابتهاج”(54).

[2ــ3ــ2]: الفرق بين: النكتة، والسخرية، والفكاهة

يتجلى الهزل في الفكاهة، كما يتجلى في النكتة والسخرية. لكن مع اختلافٍ في مظاهر هذا التجلي، فالفكاهة غير النكتة، وغير السخرية؛ إذ إن هناك فروقًا بين الفكاهة، والنكتة. كما أن هناك فروقًا ــ أيضًا ــ بين الفكاهة والسخرية.

ومن أهم الفروق، التي تمايز بين الفكاهة والنكتة، هذه الفروق(55):

  • النكتة شديدة عنيفة تصدر عن تعمد وتصميم وعقل ذكي، بينما نجد الفكاهة سمحة رحبة تصدر عن عفوية وبساطة ومحبة.
  • النكتة سريعة حادة مفاجئة تستأنف إلى العقل، بينما الفكاهة تسير ببطء ويسر إلى أن تستأنف إلى القلب.
  • النكتة فنٌّ فيه خلق وصناعة وذكاء حاد، أما الفكاهة فقد تجدها في البسيط غير المتكلف وغير المقصود.

كذلك، تختلف الفكاهة عن السخرية، في أمورٍ منها، أن الفكاهة ليس لها غرض أو هدف إلا الإضحاك، أما السخرية، فلها غرضٌ هادفٌ واضح، سواءٌ أكان معينًا أم غير معين(56).

وبذلك؛ فإن الفكاهة تتميز بالبساطة والوضوح، بعيدة عن التكنيكات التي تقوم عليها بنية النكتة. وهي هادفة إلى الإضحاك، من دون أن يكون لها غرض مبنيٌّ على النقد، الذي تسعى إليه السخرية؛ لذلك فإن جوهر الفكاهة تَبَلْوُرٌ للحب والتعاطف، والتعايش الإنساني النبيل. يقول (توماس كارليل)(57)، عن جوهر الفكاهة: “إن جوهر الفكاهة هو الحب”(58).

[2ــ3ــ3]: أنواع الفكاهة
[2ــ3ــ3ــ1]: الفكاهة السياسية

الفكاهة السياسية، في أي مجتمعٍ من المجتمعات، سجلٌّ للحال السياسية فيه؛ إذ تصور حياته السياسية، في أنساقٍ هزلية فكهة. وتقوم كثيرٌ من هذه الفكاهات على المبالغة، التي يضفيها المتفكهون عليها؛ ليجسموا الصورة، ويفتنوا بها. وهم في ذلك مهرةٌ؛ لقدرتهم على مطابقة الواقع بتوليد نظائر لما فيه من وقائع مشاهدة(59).

[2ــ3ــ3ــ2]: الفكاهة الاجتماعية

الفكاهة الاجتماعية وسيلة من وسائل الترويح عن النفس من الأعباء الاجتماعية، التي تثقل كاهل الفرد؛ فالفكاهة في رأي (مكدوجل) “وسيلة لأن ينفس الإنسان عن نفسه بعض ما يحمل من أثقال المجتمع، ويسترد نشاطه، ويقتدر على أن يعيش في مجتمعٍ لا يخلو من هموم وأكدار”(60). والفكاهة ــ أيضًا ــ عند (زئيفي): “رسالة اجتماعية مقصود منها إنتاج الضحك والابتسام”(61).

[2ــ3ــ3ــ3]: الفكاهة الحسية

تأتي الفكاهة الحسية ذات المضامين المتعلقة بالغريزة الجنسية، بصورٍ مختلفة: فقد تأتي بريئة متعلقة بأمور الزواج، والحمل، والولادة. وتتسم هذه الصورة بعنصر الدهشة، والمفاجأة. أو تأتي غير بريئةٍ أو كما سماها (فرويد) عدائية. كما تأتي، أيضًا، متضمنة لما يتعلق بالغريزة الجنسية بصورةٍ مباشرة، أو بإحالات وتلميحاتٍ جنسية غير مباشرة.


  1. ابن منظور، “لسان العرب”. ط1، دار صادر، بيروت، 1997م، جـ6/ ص: (334). ↩︎
  2. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك، رؤية جديدة”. سلسلة عالم المعرفة، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (289)، يناير 2003م، ص: (30). ↩︎
  3. أحمد محمد الحوفي، “الفكاهة في الأدب، أصولها وأنواعها”. دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص: (11). ↩︎
  4. شوقي ضيف، “الفكاهة في مصر”. ط2، دار المعارف، القاهرة، د.ت، ص: (7). ↩︎
  5. عباس محمود العقاد، “مطالعات في الكتب والحياة”. ط4، دار المعارف، القاهرة، 1987م، ص: (15). ↩︎
  6. الجاحظ، “البخلاء”. تحقيق: طه الحاجري. ط4، دار المعارف، القاهرة، 1991م، ص: (57). ↩︎
  7. أبو حيان التوحيدي (علي بن محمد بن العباس) (514 هـ). “البصائر والذخائر”. تحقيق: وداد القاضي، دار صادر، ط1، بيروت، د.ت، جـ1/ ص: (55). ↩︎
  8. ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن)، “أخبار الحمقى والمغفلين”. دار الآفاق الجديدة، د.ط، بيروت، 1980م، ص: (18). ↩︎
  9. السيد إبراهيم محمد، “الضحك في أدب التوحيدي”. مجلة فصول، 1996م، جـ4/ ص: (14). ↩︎
  10. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (64). ↩︎
  11. نفسه، ص: (66). ↩︎
  12. نفسه،ص: (76). ↩︎
  13. نفسه، ص: (25). ↩︎
  14. نفسه، ص: (245). ↩︎
  15. نفسه، ص: (25). ↩︎
  16. سقراط: (نحو 470 ـ 399 ق. م): فيلسوف يوناني، ولد في أثينا وعلم فيها فأحدث ثورة في الفلسفة بأسلوبه وفكره. جعل محور الفلسفة معرفة الإنسان نفسه ودرس تصرفاته والنواميس التي تدفعه إليها وبهذا أسس علم الأخلاق. ↩︎
  17. شوبنهور: شوبنهاور (أرثور) Schopenhauer (1788 ــ 1860): ولد في دانتزيغ، فيلسوف ألماني. صاحب مذهب التشاؤم وتعليله وجود التناقض بين عالم الإرادة وعالم العقل. أهم كتبه: “العالم إرادة وفكرة”. ↩︎
  18. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (86). ↩︎
  19. نفسه. ↩︎
  20. الجاحظ، “رسالة التربيع والتدوير”. تحقيق: فوزي عطوي. الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، 1970م، ص: (55). ↩︎
  21. أحمد مداس، “لسانيات النص، نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري”. ط1، عالم الكتب الحديث، إربد، 2007م، ص: (266). ↩︎
  22. جون ر.سيرل، “العقل، مدخل موجز”. ترجمة: ميشيل حنا متياس. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (343)، سبتمبر 2007م، ص: (141 ـ 143). ↩︎
  23. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (388). ↩︎
  24. نفسه. ↩︎
  25. فرويد، (سيجوند) Freud (1856 ـ 1939): طبيب نمساوي، مؤسس علم التحليل النفساني، درس أهمية الدوافع والعواطف “اللاشعورية” والعوامل الجنسية لاسيما في طور الطفولة. من كتبه: “تفسير الأحلام”، “قلق في الحضارة”، “ثلاثة أبحاث في الجنس”. ↩︎
  26. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع، سابق، ص: (388). ↩︎
  27. نفسه، ص: (390). ↩︎
  28. نفسه، ص: (397). ↩︎
  29. نفسه، ص: (391). ↩︎
  30. نفسه، ص: (325). ↩︎
  31. نفسه، ص: (390). ↩︎
  32. نفسه، ص: (136). ↩︎
  33. نفسه. ↩︎
  34. نفسه، ص: (390). ↩︎
  35. نفسه، ص: (246). ↩︎
  36. نفسه، ص: (251). ↩︎
  37. نفسه، ص: (230). ↩︎
  38. نفسه، ص: (229). ↩︎
  39. ابن منظور، “لسان العرب”. مصدر سابق، جـ3/ ص: (259). ↩︎
  40. نفسه. ↩︎
  41. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (51). ↩︎
  42. نعمان محمد أمين طه، “السخرية في الأدب العربي حتى القرن الرابع الهجري”. ط1، دار التوفيقية للطباعة، القاهرة، 1398هـ ـ 1978م، ص: (13). ↩︎
  43. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (52). ↩︎
  44. نعمان محمد أمين طه، “السخرية في الأدب العربي”. مرجع سابق، ص: (17). ↩︎
  45. نبيلة إبراهيم، “قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية”. مكتبة غريب،الفجالة، د.ت، ص: (204). ↩︎
  46. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (39). ↩︎
  47. نفسه، ص: (152). ↩︎
  48. نفسه. ↩︎
  49. ابن منظور، “لسان العرب”. مصدر سابق، جـ5/ ص: (152). ↩︎
  50. منير البعلبكي، “قاموس المورد”. ط40، دار العلم للملايين، بيروت، 2006م، ص: (438). ↩︎
  51. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (130). ↩︎
  52. نفسه، ص: (107). ↩︎
  53. كير كجارد Kierkegaard  (1813 ـ 1855): فيلسوف ولاهوتي دانمركي، يعتبر مؤسس الفلسفة الوجودية. ينظر: منير البعلبكي، “قاموس المورد”. مرجع سابق، ص: (52). ↩︎
  54. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (107). ↩︎
  55. أنيس فريحة، “الفكاهة عند العرب”. مكتبة رأس بيروت، بيروت، 1962م، ص: (2). ↩︎
  56. نعمان محمد أمين طه، “السخرية في الأدب العربي”. مرجع سابق، ص: (10). ↩︎
  57. توماس كارليل Carlyle Thomas  (1795 ـ 1881): كاتب ومؤرخ وفيلسوف إنكليزي. يُنظر: منير البعلبكي، “قاموس المورد”. مرجع سابق، ص: (16). ↩︎
  58. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (121). ↩︎
  59. أحمد محمد الحوفي، “الفكاهة في الأدب، أصولها وأنواعها”. مرجع سابق، ص: (279،278). ↩︎
  60. نفسه، ص: (290). ↩︎
  61. شاكر عبد الحميد، “الفكاهة والضحك”. مرجع سابق، ص: (241). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *