ثقافة زهر الفل في اليمن

ثقافة زهر الفل في اليمن

ثقافة زهر الفل في اليمن

د. عبده منصور المحمودي

 تُعدُّ ثقافة زهر الفل في اليمن محورًا مهمّاً من محاور الثقافة الشعبية، والممارسات الاجتماعية المختلفة. ذلك، لأن لهذا الزهر العطري زكيّ الرائحة حضوره البارز في عادات اليمنيين، ومناسباتهم واحتفالاتهم وأفراحهم.

ثقافة زهر الفل في الهند

   تعود أصول زهر الفل ــ حسب إشارة بعض المصادر التاريخية ــ إلى الهند والصين وبلاد الشام. فقد كان الهنود القدماء هم أول من قام بزراعته واستخدام أزهاره في الأعراس والاحتفالات الدينية. كما استخدمه الصينيون، في الطب التقليدي. ومن ثم امتدت زراعته إلى أنحاء العالم، على مراحل زمنية متفاوتة.

تاريخ زهر الفل في اليمن

    بدأت ثقافة زهر الفل في اليمن تتشكل في منظومة العادات والتقاليد اليمنية. بمعية دخول زراعته إلى اليمن في ثلاثينيات القرن العشرين، على يد أمير “لحج” أحمد فضل القمندان (1884ـــ1943). حيث تشير كثيرٌ من المدونات التاريخية، وتداولات المحكي الشعبي إلى أنه هو مَنْ جَلَبَه من الهند. وهو من غرسَه في بستان “الحسيني”، بمدينة “الحوطة”، عاصمة محافظة “لحج” جنوب اليمن.

  وقد كانت بدايات زراعته مقصورة على السلاطين وحدهم. ثم أُتيحتْ للفلاحين في عهد السلطانَيْن فضل بن علي وأخيه عبد الله. فانتشر في قُرى “لحج”. ومن ثم في محافظة “الحديدة/ تهامة”. وبعض المناطق الباردة، كمحافظة “ذمار”. وبذلك، انتشرت ثقافة زهر الفل في اليمن رديفًا لانتشار زراعته في مناطق متعددة، من المساحات الزراعية في اليمن.

زراعة زهر الفل

   يؤكد المختصون في الهندسة الزراعية أن المناخ المناسب لزراعة نبات “الفل” هو المناخ الاستوائي الدافئ. وأن درجة الحرارة المساعدة على نموه هي 52 درجة مئوية. فهو لا يتأثر بارتفاع درجة الحرارة مثلما يتأثر بانخفاضها. لذلك؛ فإن مَزارعه بحاجة إلى أن تكون دائمة التعرض لأشعة الشمس. كما أنها بحاجة إلى مداومة تعَهُّدِها بالريّ.

    يبدأ موسم “الفُل” في إبريل/ نيسان من كل عام، وينتهي في سبتمبر/ أيلول. كما يستمر إنتاجه بكمياتٍ محدودة معظم أشهر السنة الدافئة. لذلك؛ يرتفع إنتاجه بشكل كبير في فصل الصيف. مما يؤدي إلى انخفاض أسعاره، التي ترتفع بتراجع إنتاجه في فصل الشتاء.

جانيات زهر “الفُل” في اليمن

    يبذل مزارعو “الفُل” قصارى جهودهم في إنجاز تفاصيل كل مرحلة من مراحل نمُوّه. حتى يصلوا به إلى المرحلة الأخيرة “قطْف الزهر”. وهي مرحلة تتجسّد فيها ثقافة زهر الفل في اليمن على نحو عمَليٍّ. كما أن لهذه المرحلة طقوسها واشتراطاتها الخاصة. أهمها أنها لا يمكن أن تبدأ إلا مع لحظات الفجر الأولى، وتنتهي عند الضحى. كما أنها بحاجةٍ إلى خبرة وتركيز عالٍ، لذلك يفضّل كثيرٌ من المُزارعين أن تقوم بها النساء، لما يَتَمَتَّعْنَ به من صبْرٍ وحصافةٍ كافية؛ للحفاظ على نبات “الفل”، وعلى سلامة أزهاره.

      في الموعد المحدد لبدء هذه المرحلة، يكتمل اجتماع النسوة في المزرعة المُراد قطفُ محصولها، ثم يتوزّعْنَ على مجموعاتٍ، بعد أن تكون كل واحدةٍ منهُنَّ قد ربطت على خصرها قطعةَ قماشٍ، تشْرع في قطف أزهار “الفل” إلى داخلها. وعند انتهائهن من العمل، يقوم صاحب المزرعة بجمع المحصول إلى سلالٍ خاصة، أو يضعه في صناديق تحفظه من ارتفاع درجة الحرارة، استعداداً لمرحلة تسويقه.

مسارات التسويق

    من تجليات ثقافة زهر الفل في اليمن، ما يتعلق منها بعمليات بيعة وشرائه. إذ يبُاع زهر “الفل” بشكل يومي في مختلف المحافظات اليمنية. فمع كل صباح يصل بكميّات كبيرة، من حقوله في محافظة “لحج” إلى سوق “الحراج”، في مدينة “الحوطة”. وما بين الساعة الثامنة والعاشرة صباحاً تجري عملية بيعه بالمزاد العلني، لأصحاب المحلات والمفارش الخاصة بتسويقه في المدينة، وللتجار الذين يعملون على تسويقه في المحافظات الأخرى. ومثل ذلك، هي حال بَيْعِه في سوق “باب مشرف” في مدينة الحديدة. التي يتوافد إليها من مزارعه في “تهامة”، مع إشراقة كل صباح.

   إنّ محافظتي “لحج/ والحديدة”، هما المصدر الرئيس لتجارة “الفُل” اليمني. فمنهما يستهل طريقه إلى أسواقه المنتشرة في كثير من المدن اليمنية. أبرزها سوق “جولة الفل”، في مدينة عدن. وسوق “جولة القيادة” في “أمانة العاصمة”، التي تعد مركزاً رئيساً لبيعه. ومنها يتم توزيعه على بائعيه في مختلف جولات شوارع المدينة. والأمر ذاته في مدينة “تعز”، التي يتخذ بائعو “الفل” فيها من شارع “جمال” مقرّاً لعرْض بضاعتهم وبيعها.

   ويمكن القول إن مُزارعي “الفُل”، هم مَنْ يعمل بشكل رئيس على توزيعه والمتاجرة به في الأسواق اليمنية. كما يعملون بجهودهم الذاتية على تصديره إلى الدول الخليجية المجاورة. لا سيما المملكة العربية السعودية، التي تُعدُّ أكبر أسواقه الخارجية. لذلك، فهو مصدرٌ مهمٌّ من مصادر الرزق، لعددٍ من الأسر اليمنية التي تمتهن زراعته وتجارته.

أنواع زهر الفل

    يبرعُ بائعو “الفل” في تشكيل أزهاره وخَرْزِ حبّاته عقوداً وقلائد وشرائط ملفوفة بطرق فنية جميلة. وبأحجام وأشكالٍ مختلفة، مستخدمين في ذلك الخيط والإبرة بدقة متناهية. ومن أشْهر أشكاله في محافظة “لحج”: “الجُرز”، الذي عادةً ما تُزَيِّنُ به المرأةُ صدرها. و”الشرْدخة”، المشابه في شكله لشكل “الطرحة” و”التعقيدة”، الذي يظهر على هيئة ضفيرة حلزونية، تلُفُّ بها المرأة شعرها.

المعكس من أشهر أنواع الفل في تهامة

  وأبرز أنواع الفل التهامي، تلك التي تُنسب إلى مناطق زراعتها. منها: “المغرسي” نسبةً إلى قرية “المغرس” في مديرية “التحيتا”. و”الزيدي” إلى مديرية “الزيدية”. و”العباسي” إلى قرية “العباسي”، في مديرية “بيت الفقيه”.

   ومن أشكاله التهامية: “الكَبَش”، وهو العقد الكبير الذي يُلْبَسُ حول الرّقبة. و”الهَمش”، الذي تُزَيِّن به المرأة رأسها. لكنّ أشهرها هو “المُعكّس”. الذي يتكَوّن من عدد كبير من أزهار “الفل”، وزهور ونباتات عطرية أخرى. تتولى نساء ماهرات تشكيله على هيئة تاج مثلّث أو مربع. يزيد ارتفاعه على نصف المتر، عادةً ما يوضعُ فوق رأس العروس يوم عرسها.

زينة الشعر بزهر الفل في حفلات الزفاف

   تظهر ثقافة زهر الفل في اليمن بشكل رئيس في منظومة العادات والتقاليد اليمنية. وفي صدارتها زينة الشعر بزهر الفل في حفلات الزفاف. كما تندرج ــ في سياق ذلك ــ استخدامات زهر الفل في المناسبات الخاصة. فهذا الزهر النباتي تفصيلٌ محوري من التفاصيل التي تقوم عليها عادات اليمنيين وتقاليدهم. بوصفه رمزاً لمعاني الحب والجمال والمودة. ففي مناسبات الأعراس يحرص أصدقاء “العريس”، وصديقات “العروس” على إهدائهما عقود “الفل”. يرتديها “العريس” قلادةً كبيرة، وتتباهى “العروس”، بكميتها المُطرّزة على صدرها. كما تحرص الأسرة التهامية على أن تتولى تزيين العروس امرأة يُطلق عليها اسم “المُفلِّلة”. مهمّتها جمعُ ونظمُ عقودِ “الفُل” على هيئة فستانِ زينةٍ يُغطّي العروس من رأسها إلى قدميها.

   ولا يقتصر التّزَيُّن بعقود “الفُل” على العروس وحدها. وإنما يشمل النساء والفتيات، فهنّ يتّخِذْنَ من هذه العقود، مادةَ زينةٍ رئيسة، في حفلات الأعراس والمناسبات العائلية المختلفة.

   كذلك، يشمل التزيينُ بزهر “الفُل” المنازلَ والمحلات والسيارات؛ ليضفي عليها جمالاً ورائحة عطرية. وإلى ذلك، فإن له حضوره المحوري الفاعل في إضفاء الفرحة على مناسبات الأعياد وحفلات التخرج في المدارس والجامعات. حيث يقوم الأصدقاء والأقارب بتقليد المحتفلين عقود “الفُل” تكريماً لهم واحتفاءً بإنجازهم.

بهجةُ “الخميس”

      من استخدامات زهر الفل في العادات الاجتماعية، التي تتجسّد فيها ثقافة زهر الفل في اليمن، أن يفتتح اليمنيون يومهم بتبادلهم التحية الصباحية المقرونة بهذه الزهرة العطرية: “صباح الفُل”. ويختتمونه بالتحية العطرية ذاتها: “مساء الفُل”.

   كما اعتادوا على أن يكون يوم الخميس أكثر أيّام الأسبوع لديهم احتفاءً بعقود “الفُل” وأزهاره؛ إذ يقدمها الأزواج هدايا إلى زيجاتهم؛ تعبيرًا عن الحميمية والمحبة المتجددة، أو يقدمها الشخص هديةً إلى صديق عزيز عليه. ويندرج هذا الاحتفاء الأسبوعي الخاص، في سياق ما يحظى به يوم الخميس، من مكانةٍ أثيرة في حياة اليمنيين؛ إذ يغلب عليه أن يكون موعداً لاحتفالات أفراحهم وأعراسهم، كما يُعدّونه فرصةً لراحتهم ومقيلهم مع أسرهم.

زهر الفل في العطور

   يتحدّث كثيرٌ من بائعي “الفل” عن استخدامات زهر الفل في العطور الفاخرة، ودخول زهر الفل في مستحضرات التجميل؛ إذ يتم استخلاص مواد عطرية من أزهار “الفل” بطُرقٍ تقليدية؛ إذ تقوم بعض النساء بخلط ثماره المستخدمة واليابسة مع مواد أخرى، لصناعة وصفةٍ عطرية يُطلق عليها اسم “الزّباد”، تضعها المرأة خلف الأذن وحول العنق، لإضفاء نوع من النشوة والحميمية الزوجية.

    وفي هذا الاتّجاه، وصل باحثون يمنيون متخصصون في البحوث الزراعية، إلى نتائج ناجحة في تحضير مواد مركّزة لمشتقات العطور من زهرة “الفل” اليمني، خاصة المستخدم منها في المناسبات، وفقاً لما ورد على لسان حسن خميس المدير الفني لمركز الأغذية وتقانات ما بعد الحصاد في محافظة عدن.

    وعلى ضوء تلك النتائج ـــ وبمشاركة باحثين من المركز نفسه ـــ عقدت الهيئة العامة للبحوث الزراعية في صنعاء دورات تدريبية لعشرة مُتدربين من مزارعي “الفُل” في محافظات يمنية مختلفة، تولّى تنفيذها مشروع النباتات غير المستغلة والأقل استخداماً، وقد كانت هذه الدورات مكرّسة في مجال استخلاص الزيوت العطرية من أزهار “الفل” اليمني.

  تتعدد الممارسات الاجتماعية، التي تتعلق باستخدامات هذا الزهر العطري، في العادات والتقاليد والمناسبات اليمنية المختلفة. وبذلك، فقد عزّز هذا التعدد والانتشار من ثقافة زهر الفل في اليمن، بوصفها نسقًا مهمًّا من أنساق الثقافة الشعبية اليمنية.