مناهج علم اللغة الحديث
أحدثُ ما وصل إليه السياق المنهجي في الدرس اللغوي، هو ما يعرف بـ “علم اللغة الحديث”. الذي تفرع فيه المنهج إلى فروع أربعة: المنهج التاريخي، والمنهج الوصفي، والمنهج المقارن، والمنهج التقابلي.
[1]: المنهج التاريخي
[1ــ1]: الحياة والتاريخ
لا شك في أن كل مظاهر الحياة قابلة للتغير والتبدل؛ تأثرًا بمستجداتٍ ومتغيراتٍ، تطرأ على الحياة بين الحين والآخر. وعلى ذلك يترتب ظهور اختلاف بين مظاهر الحياة، من زمنٍ إلى آخر، ومن عصر إلى عصر.
ومعرفة مستوى التغير والتبدل ــ هذا ــ من اختصاص المنهج التاريخي. الذي يهتم “بدراسة الظواهر والأحداث والمواقف التي مضى عليها زمنٌ طويل، فهو مرتبط بالماضي وأحداثه، كما قد يرتبط بدراسة ظواهر حاضرة من خلال الرجوع إلى نشأة هذه الظواهر والتطورات التي مرت عليها والعوامل التي أدت إلى تكوينها بشكلها الحالي”(1). بمعنى أنه يمثل “الطريق الذي يختاره الباحث في تجميع معلوماته وبياناته العلمية في دراسة الموضوع، والذي يسلكه في التحليل والتفسير، وتبيان الحقائق”(2).
ولا يُفهم من تسمية هذا المنهج بالمنهج “التاريخي”، أنه يختص بعلم التاريخ فحسب. فهو يدخل في كل العلوم مؤرِّخًا لظواهرها عبر الأزمنة. لذلك؛ هناك من يراه ضروريًّا في أي بحثٍ من البحوث، أيًّا كان نوعه أو انتماؤه العلمي. وذلك؛ لأن “أي بحث مهما كان الأسلوب المتبع فيه لا غنى له عن الاستعانة بمعطيات المعرفة التاريخية”(3). وتأسيسًا على ذلك؛ هناك من يسمي هذا المنهج بـ “المنهج الاستردادي”، على اعتبار “أن الباحث الذي يستخدم هذا المنهج إنما يحاول استرداد وقائع أو أحداث قد حدثت في الماضي أو استحضارها في خياله”(4).
[1ــ2]: اللغة والمنهج التاريخي
اللغة ظاهرة اجتماعية من ظواهر الحياة، ينتابها ما ينتاب غيرها من ظواهر التغير والتطور؛ تأثرًا بمعطيات مراحل الزمن المتعاقبة. وبذلك؛ كان للمنهج التاريخي مضماره في الدراسات اللغوية في إطار علم اللغة. إذ انبثق المنهج التاريخي اللغوي من المنهج المقارن. وأطلق (فرديناند دي سوسير(5))، على هذا الفرع من علم اللغة العام، اسم “(دياكرونيDiachronic). والمصطلح مكون من: Dia بمعنى عبر أو خلال، وChronic المأخوذ من الكلمة اللاتينية Cronas بمعنى زمن، فيكون معنى الاصطلاح (خلال الزمن) أو (متعاقب)”(6).
وقد تمثّلت البداية الأولى لمنهج الدراسة اللغوي التاريخي، في “دراسة [الأخوينٍ] جريم Grimm في الألمانية 1819م عن (النحو الألماني)، ثم توسع في إصدار ما يعرف بقانون جريم الصوتي… وهو بذلك يعلن بداية المنهج التاريخي في الدرس اللغوي”(7).
واختص هذا المنهج بدراسة “تطور اللغة الواحدة عبر القرون”(8). أو دراسة “التغير في اللغة الواحدة على مدى الزمن”(9). وبذلك؛ فهو “يدرس اللغة دراسة طولية، بمعنى أنه يتتبع الظاهرة اللغوية في عصور مختلفة، وأماكن متعددة ليرى ما أصابها من التطور، محاولًا الوقوف على سر هذا التطور، وقوانينه المختلفة”(10). إذ لا تقتصر دراسة علم اللغة التاريخي، على “العلاقات بين مصطلحات اللغة الثابتة المتعايشة أو المتواجدة معًا. ولكن علاقات المصطلحات المتعاقبة التي تحل محل بعضها بعضًا مع الزمن”(11).
[2]: المنهج الوصفي
[2ــ1]: الدرسات الوصفية
يُعرف المنهج الوصفي بأنه “أسلوب من أساليب التحليل المرتكز على معلومات كافية ودقيقة عن ظاهرة أو موضوع محدد. من خلال فترة أو فترات زمنية معلومة. وذلك؛ من أجل الحصول على نتائج عملية. ثم تفسيرها بطريقة موضوعية وبما ينسجم مع المعطيات الفعلية للظاهرة”(12).
وبذلك، فهو مختلف عن المنهج التاريخي؛ “ففي الوقت الذي يخبرنا فيه البحث التاريخي عما جرى في الماضي يخبرنا البحث الوصفي عما هو موجود حاليًا”(13)..
[2ــ2ــ1]: اللغة والمنهج الوصفي
في الدراسات اللغوية، يختص علم اللغة الوصفي بهذا المنهج. ويتناول هذا العلم “بالدراسة العلمية لغة واحدة أو لهجة واحدة في زمنٍ بعينه ومكانٍ بعينه”(14). ويقوم “على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة، أي في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها، ودلالاتها، وتراكيبها وألفاظها”(15). إذ “يبحث المستوى اللغوي الواحد من جوانبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية”(16)..
ويقال عن منهج الدراسات اللغوية الوصفي بأنه منهج ساكن. ذلك؛ لأنه يقوم “على وصف اللغة المعينة وهي في حالة الثبات Static أي وصفها في زمانٍ ومكان محددين بغض النظر عن تاريخها السابق أو اللاحق… وعلى ذلك فعلم اللغة الوصفي علم ساكن Static إذ فيه توصف اللغة حسب الشكل الموجود في فترة زمنية معينة، وبيئة مكانية محددة”(17)..
[2ــ2ــ2]: مناهج علم اللغة والمنهج الوصفي
لقد كانت الدراسات اللغوية ــ في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ــ قائمة على منهج الدراسة المقارنة. حتى جاء الباحث السويسري (فردينان دي سوسير)، فأثبت بدراسته في نظرية اللغة ووظيفتها إمكان بحث اللغة الواحدة وصفيًّا أو تاريخيًّا. إذ وضع حجر الأساس في الدراسات اللغوية البنيوية أو الوصفية، من خلال وجهات النظر والآراء التي أثارها في كتابه “محاضرات في علم اللغة العام”، الذي نُشِر بعد وفاته سنة 1916م(18).
وبذلك، زاد الاهتمام بهذا الفرع من الدراسات اللغوية، حتى صار سائدًا عند الغالب الأعم من الباحثين في علم اللغة الحديث في كل أنحاء العالم، إن لم يكن عند جميعهم. وتعددت مدارسه، في إطار ثلاثة اتجاهات رئيسة: الاتجاه البنيوي، واتجاه النحو التحويلي، واتجاه القوالب. وجميعها منطلقة من الرؤى والأفكار الرئيسة، التي جاء بها عالم اللغة (سوسير).
ومنهج الدراسة اللغوية الوصفي ذو علاقة وارتباط وثيقين، بمنهج الدراسة اللغوية التاريخية. لأن “الدراسة اللغوية التاريخية تبدأ بعد مرحلة الدراسة الوصفية. فمن النظر في الدراسات الوصفية للمراحل المتعاقبة للغة يستطيع الباحث أن يدون تاريخ لغةٍ ما”(19). لأنه “من الصعب كثيرًا في مجال التطبيق العملي الفصل بينهما، فالدراسة اللغوية التاريخية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس المنهج الوصفي ذلك أنه لكي نتابع التغير التاريخي للغة لابد أن نقوم أولًا بوصف المراحل المختلفة التي مرت بها اللغة، مرحلة إثر مرحلة”(20). لذلك؛ فإن “المنهج الوصفي والمنهج التاريخي لا يختلفان أحدهما عن الآخر بصورة أساسية فكل وصف هو في الحقيقة تاريخ بصورة ما”(21).
[3]: المنهج المقارن
يمثل هذا المنهج فرعًا من فروع علم اللغة الحديث؛ إذ يُطلق عليه مصطلح “علم اللغة المقارن”. وهو العلم الذي يتناول بالدراسة “طائفة من اللغات تنتمي إلى أسرةٍ لغوية واحدة أو أصل لغوي مشترك من أجل التوصل إلى إعادة بناء اللغات القديمة”(22).
وموضوع هذا العلم، هو “دراسة الظواهر الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية في اللغات المنتمية إلى أسرةٍ لغوية واحدة أو فرع من أفرع الأسرة اللغوية الواحدة”(23). وله اتجاهان رئيسان: الأول، يتمثّل في “حصر الدراسة المقارنة في إطار الفصيلة اللغوية الواحدة”(24). والثاني: “تعدى حدود الفصيلة اللغوية الواحدة، واهتم بدراسة الجوانب اللغوية في أكثر من فصيلة”(25).
ويقوم منهج الدراسة اللغوية المقارنة “على أساس تصنيف اللغات إلى أسرات”(26). لأن “أهم نتيجة أسفر عنها تطبيق المنهج المقارن هو تصنيف اللغات وربطها بعضها ببعض”(27). إذ تتابعت الدراسات المقارنة، بين أكثر من مجموعة، في أكثر من أسرة؛ فتوصل الباحثون إلى التصنيف السلالي للغات. وهو التصنيف، الذي يقسمها على ثلاث أسر كبيرة: (هندية أوروبية)، و(إفريقية أسيوية)، و(طورانية).
[3ــ1]: بدايات تأسيس علم اللغة المقارن
يتميّز علم اللغة المقارن في الدرس اللغوي، بعدد من الخصائص؛ فهو “أقدم مناهج علم اللغة الحديث، وبه بدأ البحث اللغوي عصر ازدهاره في القرن التاسع عشر”(28). إذ مثّل عام 1816م بداية عهد المقارنات في الدراسات اللغوية، بل بداية لعلم اللغة الحديث (اللسانيات). ويعد الألماني (فرانس بوب(29))، هو المؤسس الأول للنحو المقارن، بإهدائه إلى جمهور اللسانيين مادة لغوية من اللغة “السنسكريتية” مقارنة ببعض اللغات الأوروبية(30). إذ قام في العام 1816م، ببحثٍ درس فيه نظام التعريف في اللغة السنسكريتية، وقارن فيه بين السنسكريتية والألمانية واليونانية. ووصل هو وغيره من العلماء، إلى نقاط التشابه والسمات المشتركة بين اللغات الهندية الإيرانية من جهة، واللغات الإغريقية واللاتينية والجرمانية من جهة أخرى(31).
وكانت قد عُرفت اللغة السنسكريتية وقرابتها للغات الأوروبية الأخرى قبل زمن (بوب). ذلك، حينما تحدث عنها (وليم جونز) في القرن الثامن عشر. ولكن (بوب) كان أول من أكد أن قضية الروابط المتبادلة بين اللغات الهندية الأوروبية، يمكن أن تصير موضوعًا لدراسات خاصة، وقد كانت هذه فضيلته الكبرى(32).
[3ــ2]: مناهج علم اللغة والمنهج المقارن
كما كان بين المنهجين اللغويين: الوصفي والتاريخي، علاقة ارتباط وثيقة؛ فإن بين هذين المنهجين من جهة ومنهج الدراسة اللغوية المقارن من جهة أخرى، علاقة ارتباطٍ وثيقة أيضًا. بمعنى أن لمنهج الدراسة اللغوية المقارن علاقة ارتباطٍ بالمنهج الوصفي. ذلك؛ لأن “المقارنة لا تتم إلا بين لغات ترجع إلى جذر مشترك، أي تشترك في أصلٍ واحد، وهذه اللغات لا تتم المقارنة بينها إلا بعد معرفة نظامها الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي، وهذه المعرفة لا تتم إلا عن طريق المنهج الوصفي”(33). كما أن معرفة قواعد لغات الفصيلة، التي على الباحث معرفتها، مدونة وفقًا للمنهج الوصفي؛ لكي تكون دقيقة وشاملة(34).
كذلك لمنهج الدراسة اللغوية المقارن، علاقة وارتباط بمنهج الدراسة اللغوية التاريخي. ذلك؛ لأن تحديد جذور الظواهر اللغوية، والوقوف على أبعاد تطور الظاهرة وحجمه، وتحديد السمات المشتركة بين لغات الفصيلة الواحدة، وغير ذلك من الأمور التي يقوم عليها المنهج المقارن، لا تتم إلا بالاستناد إلى المنهج التاريخي(35). لذلك؛ يقول (فندريس) في كتابه “اللغة” عن هذه العلاقة: “ليس المنهج المقارن، إلا امتدادًا للمنهج التاريخي، في أعماق الماضي السحيق، وينحصر في نقل منهج التفكير، الذي يطلق على العهود التاريخية، إلى عهود لا نملك منها أية وثيقة”(36). وبناءً على هذا الارتباط بين المنهجين: المقارن، والتاريخي، هناك من يقول عن المنهج المقارن إنه جزءٌ من المنهج التاريخي، وشكل من أشكال الدراسة التاريخية، وإن هناك بعض اللغويين المحدثين مَنْ يطلق على المنهج المقارن اسم المنهج التاريخي المقارن Historical Comparative(37).
وعلى ما في المنهج المقارن من سمات المنهج التاريخي، إلا أن هناك اختلافًا بين المنهجين. فالمنهج المقارن “يختلف عن التاريخي لكونه لا يرصد الظاهرة المعينة في حدود لغة، أو أدب معين بل يتجاوزها إلى مجموعة من اللغات التي تنتمي إليها اللغة المدروسة”(38).
[3ــ3]: العرب والمنهج المقارن
بالنظر إلى جهود اللغويين العرب ودراساتهم، في هذا الجانب من الدرس اللغوي، يُلاحَظ أنهم ــ منذ القديم ــ لم يهتموا بدايةً بدراسة لغتهم دراسة مقارنة. وذلك؛ “لاعتقادهم الشائع بأن العربية من أشرف اللغات وأفضلها”(39). وإن كان هناك بعض الإشارات المقارنة عند علماء اللغة العرب القدماء ــ من مثل إشارة الخليل بن أحمد (ت 175هـ) إلى العلاقة بين اللغة الكنعانية واللغة العربية، بقوله: “وكنعان بن سام بن نوح، إليه ينسب الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تقارب العربية”(40) ــ لكنها تظل مجرد إشاراتٍ فحسب.
وعند علماء اللغة العرب المحدثين “ترجع بداية الاهتمام بعلم اللغة المقارن إلى فترة إنشاء الجامعة الأهلية 1908[في مصر]، وزاد هذا الاهتمام سنة 1925 عندما تولت الدولة أمر الجامعة وجعلتها حكومية”(41).. وقد انبثق هذا الاهتمام من ارتباط التدريس والبحث آنذاك، بالتقاليد الأوروبية في هذا الميدان. ذلك؛ لأن أعلام الدراسة السامية المقارنة في أوروبا، كانوا في الوقت نفسه، يعملون في الجامعة المصرية. وأهمهم (برجشتراسر)، و(شادة)، و(ليتمان). إذ كانوا يُدَرِّسون بالمنهج الذي استقر في الجامعات الأوروبية عند (نولدكه)، و(بروكلمان)(42)..
وعلى هذه الإسهامات عند علماء اللغة العرب، إلا أن هناك من يرى أن هذا الفرع من الدرس اللغوي لا يزال حقلًا بكرًا، “غضّ الإهاب في الشرق، وسيمضي وقت طويل قبل أن ينهض على قدمٍ وساق؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بكل لغة من اللغات السامية، وهو أمر لمَّا يُتح إلا لقلة من الدارسين”(43). إضافة إلى الصعوبة، التي تواجه الباحث في ميدان الدراسة السامية المقارنة، عندما يريد الرجوع بظاهرةٍ ما في هذه اللغات إلى أصلها(44).
[4ــ1]: المنهج التقابلي
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، نشأ فرع جديد من فروع علم اللغة الحديث. أُطلق عليه “علم اللغة التقابلي”. وهو ذاك العلم، الذي عادة ما تستهدف الدراسة اللغوية فيه إلى التعاطي مع لُغتينِ أو أكْثر. يجمعهما الانتماء إلى أسْرتين لغويّتين مُختلفتيْن. وذلك؛ من أجل اكتشاف ما تختلفان فيه من الخصائص، والعمل من خلالها على تجاوز الصعوبات التعليمية(45).
والموضوع الذي يختص به هذا النوع من الدرس اللغوي الحديث، هو إجراء نوعٍ من المقابلة، بين لُغَتينِ اثْنتين. أو بين لَهجتين اثنَتين. أو بين لُغةٍ ولَهجة. بمعنى أن تُجرى هذه المقابلة بين مسْتويينِ لُغويّين مُتعاصِرين”(46). أو بين نظاميْن لُغويّين مُختلفين. يتمثّلان ــ بالتّحديد ــ في النّظام اللّغويّ السائد في اللّغة الأولى، والنّظام اللّغوي، الذي تقوم عليه اللّغة المَنشودة(47).
أمّا الغاية التي يسعى إليها الاستئناس بهذا المنهج، هي الوصول إلى ما يمكن إثباته من فروقٍ بين كلا المُستويين اللّغويين. ذلك؛ لأن المقابلة بين مُستويين لُغويين، تهدف ــ بالدرجة الأولى ــ إلى استخلاص صور الاختلافِ بينهما. ثم الوقوف على ما يترتب على هذا الخلاف من صعوباتٍ لغوية(48). ذلك؛ لأن المعلم الذي يتخذ من المنهج التقابلي منهجًا لمقارنة بين لغةٍ أجنبية ولغةِ الدّارسين، يتمكن من التعرف إلى الإشكالات التّعليمية علَى نحْوٍ أكثر جدوى. وهو ما يمكّنه من اتخاذ أنسب الأساليب والوسائل الكفيلة بمعالجتها وتجاوزها(49).
إن الوصول إلى أنسب المعالجات للمشكلات، التي تنشأ من الفروق بين نظامين لُغويين، هو السبيل المجدي في تيسير اكتساب معرفة باللغة الثانية أو اللغة المنشوْدة. لذلك؛ كان هذا الأمر هو الحلّ المناسب، لما نشأ من مشكلاتٍ لغوية، واجهت القادة في الحرب العَالميّة الثانيّة. تلك المشكلات، التي تمثّلت في صعوْبة إيْصال التوْجيهات والأوامر، من أولئك القادة إلى مأموريهم، المنتمين إلى جنْسيّات متعددة. ثم تطوّر الأمر، حتى تشكّل من ذلك فرعٌ جديدٌ من فروع علم اللّغة الحديث.
[4ــ2]: مَناهِجُ علْم اللغة والمنهَج التّقابُلي
يختلف المنهَج المقارن عن المنهج التقابلي، في الهدف أو الغاية التي يسعى كُلٌّ منهما إلى تحقيقها. إذ يهتم علم اللغة المقارن، بمُقارنة عددٍ من اللّغات، التي تنتمي إلى أسْرةٍ لُغويّة واحِدة. مع اهتمامه المحوري بأقدم استخدامٍ لُغوي، من أجل الوُصولِ إلَى اللّغة التي منها خرَجت هذه اللغات كلها. لذلك، فهدف علم اللغة المقارن، هو هدفٌ تاريخيّ وغايته الكشف عن صورٍ لغوية من الماضي البَعيْد. أمّا المنهج التّقابُلي (علمُ اللّغة التقابُلي)؛ فإنه بعيدٌ عن هذه الأهدَاف التاريْخيّة. لأنّ هدفه هدفٌ تطبيْقيّ، في دراسة وتعلّم اللغات(50).
وعلى ضوءِ هذا الاخْتِلاف، فإن الدرس اللغوي التقابُلي ممكنٌ بيْن لُغتين تنتميانِ إلى أسْرةٍ لُغويّة واحدة. أو تنتميان إلى أسْرتينِ لغويّتين مخْتلفتيْن. ليسَ من أجل الوصول إلى أصلٍ قديمٍ، ولكِنّ من أجلِ معرفة الفُروق اللغوية المعجمية والصرفية والنحوية والصوتية بين النّظامين اللغوييْن(51).
وعلى ذلك، فإن الدرس اللغوي التقابلي مرتبطٌ بعلاقةٍ مع منهجية الدرس اللغوي الوَصفيّ. فعلم اللغة التّقابُلي، يسعى إلى إثْباتِ الفُروقِ بيْن المُستويينِ اللغويين. لذلك، فإنه سيعتمد أسْاسًا على منهجية الدراسة اللغوية الوصفية. فبعد أن يتم وصف المستويين اللغويين وَصْفًا دقيْقًا، بمنهجية لغوية واحدة، يمكن دراستهما بمنهجية لغوية تقابلية(52).
وبذلك، تتجلى العلاقة بين منهجي الدراسة اللغوية: التقابلي والوصفي، لاعتماد الأول على ما يصل إليه الثاني من نتائج، وتحليل للظّواهر اللّغوية. بينما لا نجد علاقة للمنهج التقابُلي مع منْهَجي الدّراسةِ اللّغويّة: المنهج المُقارن، والمنْهج التّاريخيّ. والسبب في ذلك، هو أن منهج الدراسة اللغوية التّقابُلي، يقتصر على مُستَوييْن لُغَوِيّين مُعاصِرين. من أجلِ تجاوز صعوبات تعليمية، ناشئة عن الاختلاف بين المستويين اللّغوين اللذين تستهدفهما الدراسة اللغوية بمنهجية تقابُلية.
- عقيل حسين عقيل، “فلسفة مناهج البحث العلمي”. مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999م، ص: (58). ↩︎
- جودت عزت عطوي، “أساليب البحث العلمي، مفاهيمه، أدواته، طرقه الإحصائية”. ط1، دار الثقافة، عمان، 2000م، ص: (161). ↩︎
- سمير نعيم، “المنهج العلمي في البحوث الاجتماعية”. ط5، المكتب العربي للأوفست، 1992م، ص: (30). ↩︎
- إبراهيم محمد تركي، “دراسات في مناهج البحث العلمي”. ط1، دار الوفاء، الإسكندرية، 2006م، ص: (156). ↩︎
- فرد يناند دي سوسيرF.De Saussure (1857ـ 1913م): ولد في مدينة جنيف، لأسرة مهاجرة من فرنسا إلى سويسرا بعد الحروب الدينية الفرنسية. اتصل بصديق والده أدولف بيليثت Adolphe Pictet عالم الفيلولوجيا، وهو ما زال في سن الخامسة عشرة. تلقى تعليمه في جنيف ثم ألمانيا، وتخصص في دراسة اللسانيات، وكان أول بحثٍ له بعنوان “ملاحظات حول النظام البدائي للصوائت في اللغات الهندية الأوروبية”. عمل محاضرًا في المدرسة العليا بباريس، من عام 1881م إلى 1891م. ثم عاد إلى جنيف فتولى منصب الأستاذية فيها. ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1987م، ص: (65). ↩︎
- نادية رمضان النجار، “فصول في الدرس اللغوي بين القدماء والمحدثين”. ط1، دار الوفاء، الإسكندرية، 2006م، ص: (63،62). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية، مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية”. وكالة المطبوعات، الكويت، 1973م، ص: (39). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “مدخل إلى علم اللغة”. دار قباء، القاهرة، 2001م، ص: (23). ↩︎
- رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة، ومناهج البحث اللغوي”. ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405هـ ـ 1985م، ص: (196). ↩︎
- فرديناند دي سوسير، “فصول في علم اللغة العام”. ترجمة: أحمد نعيم الكراعين. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985م، ص: (245). ↩︎
- محمد عبيدات وآخرون، “منهجية البحث العلمي، القواعد والمراحل والتطبيقات”. ط2، دار وائل للنشر، عمان، 1999م، ص: (46). ↩︎
- جودت عزت عطوي، “أساليب البحث العلمي، مفاهيمه، أدواته، طرقه الإحصائية”. مرجع سابق، ص: (172). ↩︎
- ينظر: محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (37). ↩︎
- رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي”. مرجع سابق، ص: (182). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (37). ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. مرجع سابق، ص: (66). ↩︎
- ينظر: رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي”. مرجع سابق، ص: (183،182). ↩︎
- البدرواي زهران، “في علم اللغة التاريخي، دراسة تطبيقية على عربية العصور الوسطى”. ط4، دار المعارف، القاهرة، د.ت، ص: (8). ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. مرجع سابق، ص: (68). ↩︎
- عبد الصبور شاهين، “في التطور اللغوي”. ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ ـ 1985م، ص: (18). ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. مرجع سابق، ص: (65،64). ↩︎
- ينظر: محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (35). ↩︎
- حازم علي كمال الدين، “علم اللغة المقارن”. مكتبة الآداب، القاهرة، 1420هـ ـ 1999م، ص: (132). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (35). ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. مرجع سابق، ص: (64). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “مدخل إلى علم اللغة”. مرجع سابق، ص: (19). ↩︎
- فرانس بوب، أو (فرانتس بوب) Bopp (1791 ـ 1867): عالم ألسني لغوي ألماني، ولد في ماينتس، اشتهر بكتابه “القواعد المقارنة للغات الهندو أوروبية”، الذي يعتبر أساس الدراسات الألسنية المقارنة. ↩︎
- ميلكا إفيتش، “اتجاهات البحث اللساني”. ترجمة، سعد عبد العزيز مصلوح، و وفاء كامل فايد. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، د.ت، ص: (49). ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. مرجع سابق، ص: (64،63). ↩︎
- ميلكا إفيتش، “اتجاهات البحث اللساني”. مرجع سابق، ص: (49). ↩︎
- حازم علي كمال الدين، “علم اللغة المقارن”. مرجع سابق، ص: (67). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص: (70،69). ↩︎
- رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي”. مرجع سابق، ص: (198). ↩︎
- ينظر: حازم علي كمال الدين، “علم اللغة المقارن”. مرجع سابق، ص: (70). ↩︎
- هادي نهر، “البحوث اللغوية والأدبية، الاتجاهات والمناهج والإجراءات”. دار الأمل، الأردن، 1426هـ ـ 2005م، ص: (69). ↩︎
- نادية رمضان النجار، “فصول في الدرس اللغوي بين القدماء والمحدثين”. مرجع سابق، ص: (137). ↩︎
- الخليل بن أحمد الفراهيدي، “كتاب العين”. تحقيق: مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي. دار ومكتبة الهلال، بيروت، د.ت، المجلد (1)، ص: (205). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “البحث اللغوي”. دار غريب، القاهرة، د.ت، ص: (80). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي”. مرجع سابق، ص: (204). ↩︎
- نفسه، ص: (200). ↩︎
- محمد يوسف حبلص، “مقدمة في علم اللغة”. دار الثقافة العربية، القاهرة، 1997م، ص: (239). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (41). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “مدخل إلى علم اللغة”. مرجع سابق، ص: (25). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (41). ↩︎
- محمود إسماعيل صيني، وإسحاق محمد الأمين، “التقابل اللغوي وتحليل الأخطاء”. تعريب وتحرير. ط1، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1402هـ ـ 1982م، ص: (5). ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “مدخل إلى علم اللغة”. مرجع سابق، ص: (25). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- محمود فهمي حجازي، “علم اللغة العربية”. مرجع سابق، ص: (41). ↩︎