جماليات الحبكة الروائية في رواية سولاريكا

جماليات الحبكة الروائية في رواية سولاريكا

جماليات الحبكة الروائية في رواية سولاريكا

د. عبده منصور المحمودي

في روايتها الصادرة حديثًا “سولاريكا”(1)، حرصت الكاتبة التونسية فضيلة مسعي، على اجتراح نسقٍ فنيٍّ خاص. تميّزت به الحبْكة السردية، وانسابت من خلاله سياقات هذا العمل، الذي استهدفت الكاتبة فيه تسريد تجربة الحب، في حياة الشخصية الرئيسة الفتاة العراقية “سولافة”، وعلاقتها العاطفية مع الشاب العراقي “ياسر”.

عالجت السياقات السردية، مسيرة هذه التجربة، وما تعرضت له من تمزق وعذاب. في الحيز الزمني، الذي يبدأ من تسعينيات القرن العشرين، وينتهي في مطالع العقد الثالث من الألفية الجديدة. في حيّزٍ مكاني، يبدأ عراقيًّا: (“بعشيقة”، و”لالش”). وينتهي أمريكيًّا، في مدينة “نيويورك”، التي هاجرت إليها “سولافة”، ولحق بها “ياسر”، وهناك قطفا زهرة حبهما الخالد.

[1]: خصوصية الحضور والغياب

تنوعت التقنيات السردية، التي استأنست بها الكاتبة. من أهمها تقنيتا: “الميتاقص”، و”الفلاش بك”. فهما التقنيّتان الأكثر فاعليةً في بناء نسق الحبكة السردية الخاصة بهذا العمل. هذا النسق الذي يقوم على صيغةٍ من التداخل بين آلياته، وأحداثه الواقعية والفانتازية. لا سيما ما يقوم عليه من محورية استناد إلى فضاء الحلم، وتفاصيله التي تتماهى في مسارات الحياة، كما تتماهى في الاشتغال على الكتابة السردية.

يتشكّل نسق الحبكة السردية ــ هذا ــ من خصوصية الحضور والغياب، التي اتسم بها صوت (السارد/ الكاتبة/ الراوي العليم). ويبدأ الاشتغال على بناء هذا (النسق/ الصوت) من عتبة “الإهداء”، التي كان للقارئ فيها نصيبٌ متصلٌ بتحفيزه على أن يمنح العمل ما يليق به من احتفاء التلقي؛ كونه عصارة لروح كاتبته، التي دوّنته بحبر دمها: “إليك أيها القارئ، فلا تجعل هذا الكتاب للعرض في مكتبة بيتك أو مكتبك. تصفّحه واكتنهه لأنه كتب بحبر دمي. لا تجعل الغبار كساء لدمي”(2).

وامتد هذا الحضور المباشر لهذا (النسق/ الصوت)، إلى العتبة الثانية، في الصفحة التالية لعتبة الإهداء (صفحة “بوح الكاتبة”)، التي تضمّنت توصيفًا مكثّفًا لموضوع الرواية؛ باعتباره “مراوحة بين واقع معيش وبين فانتازيا اقتضتها الحبكة الروائية. [لأن] الواقع والخيال توأمان لا يفترقان … هذه هي سولاريكا قصّة حب وواقع وخيال. ألم وحب وسلام”(3).

بعد ذلك، يتجلى إثراءُ هذا النسق ــ نسق الحبكة ــ  بإحلال صوت “سولافة”، محلّ صوت (السارد/ الراوي العليم)؛ إذ دخلت “سولافة” في غفوة نوم، غاصت بها في حلم، جمعها بصديقتها “نصاف” التي قضت نحبها في كارثة وباء “كورونا”(4). حدّثتْها عن عالم الأحياء الطافح بالأوبئة والمعاناة. بينما حدّثتْها “نصاف” عن عالمها الآخر في ضيافة السماء. وفي سياق ذلك، سألتْها هل انتهت من كتابة روايتها “سولاريكا”؟ ردت عليها “سولافة” بأنها محبطة، وغير متحمسة لاستكمالها(5). انتهى لقاؤهما هذا، فودّعت “نصاف” صديقتها “سولافة”، بعد أن حثّتها على استكمال روايتها. ثم يتلاشى الحلم بصحو “سُلافة” من غفوتها، مستأنفةً كتابة الرواية(6).

ومن خلال التأمل، في هذه الصيغة السردية ــ التي استوعبت هذه الحال المزدوجة (الحلم/ الصحو) ــ يُستشَفّ نوعٌ من التداخل الفني العالي حد التماهي، بين الصوتين الفاعلين فيها: (صوت شخصية الرواية “سلافة”)، و(صوت السارد/ الراوي العليم/ الكاتبة).

[2]: الرواية بين يدي شخصيّاتها

يظهر هذا (النسق/ الحبكة)، في منعطف جمالي جديد، استوعبتْه مساحة خيالية، احتفت بمشهدٍ فانتازي. خرجت إليه بعض الشخصيات من متن الرواية نفسها (سولاريكا)، التي سُردت فيها بعضٌ من تفاصيل حياتها.

تصدّرت شخصية “محمود” (إحدى شخصيات الرواية)، هذا المشهد الفانتازي، الذي ظهر فيه وفي يديه الرواية التي اقتناها، وأعجب بها. بدأ يقرأها بصوت مسموعٍ. لمن يقرأها؟! يقرأها لشخصية أخرى من شخصيّات الرواية، صديقه “ياسر”. يقرأ مضمون الرواية المتمثّل في تفاصيل من حياة شخصيتها الرئيسة “سولافة”. وبذلك، كانت شخصية “محمود”، تقرأ حياة شخصية الحبيبة “سولافة”، لشخصية “ياسر” حبيب “سُولافة”!

بدا “ياسر” منجذبًا إلى مضمون الرواية، مصغيًّا إلى تفاصيلها  بإعجاب(7)؛ إذ ذهب “محمود” في قراءة تسريد واحدة من ليالي “سولافة” في شقتها في مدينة “نيويورك”، وحالها التي كانت فيها غارقة في تداعيات الذكرى، وكان القمر يرقص “في عينيها الواسعتين الساحرتين المكحلتين، مُحْدثًا نغمة حزينة …”(8).

بعد صفحات، توقف “محمود” عن القراءة، فطلب منه “ياسر” الاستمرار؛ إذ كان في ذروة تأثره واستمتاعه بأحداث الرواية. استغرب صديقه من تحول موقفه، من اللامبالاة بالقراءة والروايات إلى الاستمتاع بها. ففسّر له “ياسر” الأمر؛ إذ كان سبب هذا التحول كامنًا فيما لمسه من تشابهٍ، بين قصة شخصية الرواية وقصة حبيبته، التي جاء إلى هذه المدينة “نيويورك” باحثًا عنها.

كان “ياسر” يتساءل عن إمكانية أن تكون “سلافة” الرواية، هي حبيبته ذاتها. لكنه استبعد ذلك؛ بعد أن انتبه إلى الاختلاف بينهما في بعض الصفات: “هي مِن بعشيقة. من هناك. من العراق. حتّى اسم البطلة نفسه. هل هذا مجرّد مصادفة؟. لا أعتقد. لكن سولافة لا تكتب”(9). ثم يعقب عليه “محمود” مؤكدًا أن الأمر ليس أكثر من مصادفة، مستندًا إلى البعد المكاني، بين الجغرافيا التي تنتمي إليها الحبيبة (العراق) والجغرافيا التي تنتمي إليها كاتبة الرواية (تونس): “يا أخي كيف تعرف الكاتبة التونسية سلافتك هذه؟”(10). وفي هذه الإشارة السردية إلى التمايز بين الجغرافيتين، تجلّى حضور نسق (الصوت/ الحبكة)، بصيغة ضمير الغائب، متمثّلًا في صوت (السارد/ الراوي العليم/ الكاتبة).

[3]: التجلّي في صيغة ضمير المتكلم

بعد صفحات قليلة، يتجلّى هذا الصوت نفسه، ليس بصيغة ضمير الغائب السابقة، وإنما بصيغة ضمير (المتكلم). ذلك، في إشارة، وردت على لسان الكاتبة ذاتها، تقول فيها: “سولافة لم تكن تعرف بحشرية الكُتّاب مثلي. لا تعلم أنّنا لحاء أشجار تغلّف كلّ العالم بكائناته ونباتاته وأشيائه. لا تعلم أننا هلاميون في الزّمان والمكان بخيالنا وإحساسنا المرهف. لهذا لم تتفطّن إليّ وأنا ألبسها كظلّها منذ كانت كمهرة حرّة في أحراش بعشيقة. لا أظنّها تعلم أنّني أنقل لكم كلّ حركاتها وسكناتها وهي التي تحسب لكلّ شيء حسابًا. لو كانت تعلم هل كانت ستتّخذ من الغيمة صديقة وتسرّ إليها بمكنون قلبها وهواجسها؟”(11).

تقوم هذه الإشارة السردية، على نسقٍ من التعاطي التأويلي لعلاقة الكاتبة مع شخصية الراوية؛ وهو تعاطٍ موارب ذو مسارات فانتازية. لا سيما في استناده إلى نسق فني تضمّنته الإحالة على غيمةٍ، كانت تتحدث إليها “سولافة”، في شقتها في “نيويورك”: “تكلمت مخاطبة غيمة بدت لها مضطربة وقلقة مثلها، وكأنها قد تماهت معها. فصارت الغيمة هي سولافة وسولافة هي الغيمة”(12). وكأن تلك الغيمة قد استمعت إلى شجون “سلافة”، فاكتنزتها، وحملتها معها إلى حيث تخلّقت كائنًا سرديًّا في هذا العمل الروائي.

[4]: ذروة الحبكة نسقٌ تدويري

يتوارى هذا الصوت الفاعل في ضبط النسيج السردي ــ صوت (السارد/ الراوي العليم/ الكاتبة) ــ متيحًا المساحات السردية لانسياب الأحداث وتدفق الحكاية. وقد بلغ هذا الانسياب بتسريد الأحداث إلى النهاية التي احتفت بذروة هذا (الصوت/ الحبكة)، من خلال حضوره في نسقٍ من التدوير السردي، القائم على آلية الحلم، التي جمعت بين بداية العمل ونهايته.

لقد كانت آلية الحلم ــ تلك ــ فاعلة في الجمع بين الشخصية الرئيسة في الرواية “سولافة”، والشخصية الواقعية القائمة بتدوين الحكاية، المتمثلة في صوت (السارد/ الراوي العليم/ الكاتبة). تجلّى ذلك، في تأثيث المساحة السردية الأخيرة، بتفاصيل لحظة أثيرة، كان فيها الحبيبان (“سلافة”/ و”ياسر”)، على متن الطائرة المسافرة بهما إلى “إسبانيا”؛ لحضور معرض صديقهما الفنان التشكيلي السوري “عبد القادر خليل”. غفت “سُلافة” في تلك اللحظة، فرأت حلمًا جمعها بالشخصية الواقعية (الكاتبة)، التي أشارت إلى ذلك بالقول: “اليوم المتعب لسلافة جعلها تتهالك على الكرسيّ وتغطّ في نوم عميق. متوسّدة كتف ياسر الذي غطّاها بذراعيه وانحنى عليها كرضيعة”(13).

لقد التقى الصوتان (صوت الشخصية الواقعية [الكاتبة]/ وصوت الشخصية الروائية [سُلافة]) في تسريدٍ متجانس المضمون: غفوةً، وحلمًا؛ إذ تشير الكاتبة إلى أنها لم تنقطع عن متابعة تفاصيل حياة الحبيبين إلّا في تلك اللحظة، التي غفت فيها غفوة مماثلة لغفوة “سُولافة”: “لكن أنا راوية القصة، كنت أتلصّص عليهما إلى أن غفوت بطبعي… غفوت وفاتني ما تبقّى من الأحداث. لكن صوتًا ألفته جدًّا”(14). لم يكن ذاك الصوت سوى صوت “نصاف”، التي قَدِمَتْ من عالمها العلوي: “نعم أنا يا رفيقتي الغالية… جئت أهنئك لأنك أكملت الرّواية”(15).

التقت الكاتبة في غفوتها هذه بصديقتها “نصاف”، التي هنأتها على الانتهاء من روايتها. ثم ودّعتها، بعد أن أضفى حضورها مزيدًا من فنية التدوير السردي والتقاء البداية بالنهاية. ذلك من خلال الإشارة السردية إلى كلمة “لقطة”، التي كانت كثيرًا ما ترددها “نصاف” في مواقف الدهشة والإعجاب. إذ وردت تلك الكلمة في الصفحات الأولى: “عندما يدهشك شيء ما تقولين لقطة”(16). ثم وردت في الصفحات الأخيرة: “وباء جديد…؟ لقطة.. يا لها من لقطة….”(17).

كما تزامن توديع “نصاف” للكاتبة، مع استفاقة الكاتبة من غفوتها على وقع تنبيه أمها: “أحسست برجّ كبير من كتفي وسمعت صوتًا يلهج باسمي بفزع: ابنتي… حبيبتي… انهضي… إنّك تحلمين… باسم الله الرّحمان الرّحيم… قومي يا ابنتي… العني الشّيطان… هذه الأحلام ستأخذك معها أحد الأيّام… نصاف لا تكف عن التردّد عليك في أحلامك… تريد صحبتك هناك أيضًا؟ قولي لها شدّي أحجارك… ألزميها… هيّا قومي. غدًا لديك أمسية شعرية”(18).

ويظهر ــ هنا ــ التداخل في مستوىً متقدمٍ من فنية التماهي والمخاتلة، في بُنية مضمون التدوير السردي (الحلم). ذلك؛ لأن بداية الرواية ونهايتها قد تجانستا في مضمون الحلم: (التساؤل عن الرواية، واستكمالها). وفي الوقت نفسه تمايزتا، في المفارقة، التي تخللّت هذا التجانُس، فاختلفت شخصيات البداية عن شخصيات النهاية؛ إذ كانت شخصيات البداية: (“سُلافة”/ “نصاف”)، بينما كانت شخصيات النهاية: (“الكاتبة”/ “نصاف”).

ومن زاوية أخرى، أفضت هذه المفارقة، إلى تجانسٍ آخر بين البداية والنهاية؛ في حضور شخصية الكاتبة في كُلٍّ منهما. ففي البداية خاطبت القارئ في صفحتي (“الإهداء”، و”بوح الكاتبة”). وفي النهاية، جاءت صيغة التسريد الأخير على لسانها؛ إذ صحت من غفوتها، محاولةً استذكار بعضٍ من تفاصيل ذاك الحلم، لكنها لم تستطع: “نهضت وأنا أحاول أن أتذكّر تفاصيل ما جرى فلم أفلح.. قل أيّها المتلصّص على حبر قلبي هل تعرف أنت التفاصيل؟”(19).

وتنطوي هذه الصيغة التي قام عليها تسريد النهاية على نسق فنيّ، قائم على توظيف آلية التسريد الخيالي في تأويل العلاقة بين صوت (السارد/ الراوي العليم/ الكاتبة)، وشخصية العمل. لتتجلى بذلك ذروة التدوير في تسريد السياقات، بدءًا بحلمٍ وانتهاءً بحلم. وكأن الرواية ليست سوى فكرة، تم إنجازها في الحلم لا في الواقع؛ فمجال الإبداع الخاص بالكاتبة هو الشعر؛ إذ تنتظرها أمسية شعرية، بحسب ما أحالت عليه جملة تنبيه الأم لـ(ابنتها/ الكاتبة). وإذا كانت هذه الإحالة تعزيزًا إضافيًّا لماهية الحلم ومضمونه السردي، فإن هذه الماهية نفسها، هي النسق الذي يحيل على تلاشي الحلم بواقعية الإنجاز السردي، الذي اكتمل في هذا العمل الروائي النوعي، بما هو عليه من بُنية تشويقية، لا تترك قارئًا تداعى مع صفحاته الأولى إلّا بعد أن يصل إلى تخوم الصفحة الأخيرة منه.


  1. فضيلة مسعي، “سولاريكا”. ط1، دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2024م. ↩︎
  2. نفسه، ص7. ↩︎
  3. نفسه، ص9. ↩︎
  4. نفسه، ص16. ↩︎
  5. نفسه، ص17. ↩︎
  6. نفسه، ص25. ↩︎
  7. نفسه، ص27ــ29. ↩︎
  8. نفسه، ص31. ↩︎
  9. نفسه، ص39. ↩︎
  10. نفسه. ↩︎
  11. نفسه، ص43،42. ↩︎
  12. نفسه، ص61. ↩︎
  13. نفسه، ص260. ↩︎
  14. نفسه. ↩︎
  15. نفسه. ↩︎
  16. نفسه، ص20. ↩︎
  17. نفسه، ص261. ↩︎
  18. نفسه، ص262،261. ↩︎
  19. نفسه، ص261. ↩︎

فكرتين عن“جماليات الحبكة الروائية في رواية سولاريكا”

  1. تحية طيبة دكتور-ليس اجمل من الرواية سوى هذه القراءة المبهرة التي على درجة عالية من التميز..سعدت جدا بها و لا أخال القارئ الا كذلك.شكرا من القلب دكتور على اضافتك النوعية و تحية من القلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *