تسريد إشكالية المال والمصير في رواية “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”
في روايتها “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”(1)، عالجت الكاتبة ليلى السياغي تداعيات الصراع في الصومال، لا سيما ما أفضت إليه من رحلات اللجوء إلى اليمن. وفي سياق ذلك، أضاءت الكاتبة إشكالية المال والمصير، التي تُعدّ محورية في صياغة الأحداث وتداعياتها القاتمة. إذ استهلت الشخصية الرئيسة في العمل الفتاة الصومالية “رحمة”، رحلة النجاة بسلامتها من مواجهة، جرت أحداثها، بالقرب من منزلهم، قضت على أفراد عائلتها كلهم، فتكفّلت برعايتها إحدى الجارات. ثم كانت محطة نجاتها الثانية، إلى مخيم تجهيز الراغبين في الرحيل. تلتها المرحلة الأخيرة المتمثلة في وصولها إلى اليمن، والإقامة في مدينة “عدن”، ثم في مدينة “صنعاء”.
[1]: المال يكتب القواعد
في كتابه “أغنى رجل في بابل”(2)، يشير الكاتب (جورج كلاسون)، إلى قوة المال في صياغة القواعد وإعطاء القيم معانيها؛ فصاحب المال هو من يضع القانون، وهو من يفسر التشريعات بما يتناسب مع غاياته. وبصيغةٍ أخرى، يتناول هذه الفكرة نفسها الكاتب (روبرت. تي كيوساكي) في كتابه “الأب الغني والأب الفقير”(3). إذ يشير إلى سلطة المال المخملية، التي يستطيع الأثرياء ــ من خلالها ــ تحقيق كل ما يرغبون في تحقيقه. ولم يكن هذان المؤلفان وحدهما مَنْ أشار إلى ذلك؛ فأدبيات المال والثراء تكاد أن تكون مجمعةً عليه.
من خلال تأمل هذه الفكرة (فكرة قوة المال) من زاوية سرديّة ــ بوصفها فاعلة في تشكيل المصير الذي يؤطر الشخصية، ويحدد خصائص حياتها ــ يمكن استشفافها في هذا العمل؛ إذ مثّلت نسقًا من النسيج المتصل في سياقاته السردية.
ينمو هذا النسق، من اقتران الثروة بالسلطة. وما يترتب على ذلك من إشعال الصراع بين الأطراف الطامحة إلى الفوز بهما. وهو الصراع الذي استشرى في بلد “رحمة”، وأجهز على عائلتها. ثم تجلّى هذا النسق في الإقدام على انتزاعها من حِجْر جارتهم؛ رغبةً في كسب المال. وكانت الرغبة نفسها وراء ما لمسْته من اهتمام “العم صالح العجوز” بها؛ ليحصل على ما يستطيع من التكسب بجسدها.
وحظي هذا النسق باهتمامٍ سرديٍّ، مُتّسقٍ مع فاعليته في صياغة مصاير الشخصيات. ليس في تكثيف الاشتغال السردي على فكرة الرواية في عنوانها “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا” فحسب، وإنما في تسريد تفاصيل هذا النسق، وتداعيات أحداثه؛ إذ كان “العم صالح” يقدمها للرجال مقابل “شلنات”(4). وعُمْلةُ “الشلن”، نفسها، هي العملة المحورية في تسريد الأحداث؛ إذ كان لمبلغ الـ “مليون شلن” ــ الذي يساوي “خمسين دولارًا” ــ دورُهُ الفاعل، في دفع تلك المجموعة إلى تجميع الراغبين في مغادرة البلد الملتهب. ومن ثم العمل على تيسير تحقيق رغبتهم مقابل هذا المبلغ(5).
[2]: إشكالية الأحداث المتناسلة
يتوالى تشبيك الأحداث، بفكرة إشكالية المال والمصير (مليون شلن خمسين دولارًا). وما تفضي إليه هذه الفكرة، من سلطة مطلقة للمال. فبعد أن وصلت “رحمة” إلى اليمن، كان ذاك المبلغ استحقاقًا شهريًّا لها في العمل خادمةً في منزل شيخ وصلت إلى منزله؛إذ كان يعطيها ما يساويه من العملة المحلية “عشرة آلاف ريال يمني”، أي “خمسين دولارًا”(6). وبعد إقدامه على انتهاك شرفها، هربت من منزله، ومعها ما كانت قد جمَعَتْه من ذاك الاستحقاق. فبدأت في الاستعانة به؛ إذ قامت بفك ورقة “خمسين دولارًا”، بمبلغ تسعة آلاف ريال يمني(7). كما أعطت ورقة مماثلة لامرأة، قبلت بإقامتها في بيتها، مقابل إيجار شهري، يبلغ عشرة آلاف ريال يمني(8). وحينما وصلت إلى مدينة “صنعاء”، ارتفع استحقاقها الشهري، من خدمتها لرجل ثريٍّ هناك، إلى ورقتين “مئة دولار”(9).
لقد استطاعت “رحمة” أن تجمع أكثر من هذا المبلغ. سواءٌ من ذاك الشيخ في عدن، أو من الشيخ القبلي في صنعاء. لكنها على ذلك ــ في الحالين ــ قد فقدت حصيلة استحقاقها؛ إذ داهم رجال الشيخ في عدن الغرفة، التي هربت إليها واستعادوا ما استلمتْه منه(10). ولم تحتفظ سوى بما تمكنت به من تجاوز محنة أيّامها تلك. وفي صنعاء، لم تتمكن من العودة إلى المنزل الذي كانت تعمل فيه؛ إذ طُردت، وسلّمها الحارس “خمسين دولارًا” فقط(11)، لتبقى هي حظها من الدنيا بمعية شقاء عينيها.
[3]: حتمية المصير وخلاصة التجربة
لقد كان لحاجة “رحمة” إلى المال ــ بمعية شقاء عينيها ــ دورٌ جوهريٌّ في تشكيل حياتها، وتأطير مصيرها في عالم تلبية رغبات الباحثين عن المتعة. بدءًا من محاولة “العم صالح” الانقضاض عليها(12). مرورًا بتعرضها لانتهاك عفتها بعد محاولة هروبها(13). وما تلى ذلك من مواقف مشابهة. وصولًا إلى شعورها بلذة الغريزة واستمتاعها بالنشوة، سواءٌ في خيالها وتعاطيها الذاتي مع جسدها(14). أو في اتخاذها منه عملًا للتكسب(15)، بعدما أدركت قيمة جسدها الذي تملكه. وبعد أن فكّرت في أن بإمكانها أن تصل ــ من خلاله ــ إلى السعادة التي ترغب فيها(16).
وفي سياق هذا المصير البائس، تتجلى خلاصة التجربة البشرية مع الجسد؛ إذ يرى الرجل في جسد المرأة فرصةً، يحرص على ألّا يفرط فيها. لذلك؛ يبدي نوعًا من العطاء واللطف الموارب. وهو ما كان يثير توجُّس “رحمة”، كلما لمستْه من أحد. فتستعيد كلمات أمها، التي كانت ترددها في أذنها: “لكل شيء ثمن. الجميع ينتظر ثمن لطفه وكرمه”(17).
ومثل ذلك، هي خلاصة التجربة البشرية، في حقيقة هذا الكائن؛ فلا أحدَ منزوعةٌ منه هذه الغريزة والرغبة في الآخر، مهما تصنع خلاف ذلك. وقد استوعبت “رحمة” هذه الحقيقة، حينما صعقها ذاك الشيخ في عدن، بحقيقته الشهوانية، فذهبت تتحدث إلى نفسها: “الرجال جميعهم متشابهون. كل همهم إشباع ما بين أرجلهم… من يرتدي العمامة ومن يلبس البنطلون… كلهم كلاب ومجرمون”(18). ثم تبلورت لديها خلاصةُ إدراكها لهذه الحقيقة البشرية (الرغبة/ الجسد/ الانجذاب المتبادل)؛ إذ أيقنت أن ذاك الشيخ “رجلٌ مثل كل الرجال، وأن لديه رغبات وشهوات ونزوات، ولجسد الأنثى بوصلة تفضح رعشة الانتشاء. إحساسها لا يكذب”(19). كما لا يكذب إحساسُهما (الرجل/ والمرأة)، في انجذاب كُلٍّ منهما إلى الآخر: “كلاهما الرجل والمرأة يدركان الانجذاب. هرمونات تقرأ وتحلل مغزى النظرة، الابتسامة، رنة الصوت؛ لكنهما يجهلان مدى تطورها من اللامحسوس إلى المحسوس، المحسوس الذي يجسده الغزل الصريح، وربما الطلب المباشر”(20).
- ليلى السياغي، “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”. ط1، دار عناوين بوكس، القاهرة، 2022. ↩︎
- جورج كلاسون، “أغنى رجل في بابل”. مكتبة جرير، الرياض، د.ت. ↩︎
- .روبرت تي. كيوساكي. بالاشتراك مع شارون إل ليشتر، “الأب الغني والأب الفقير ما يُعلِّمه الأثرياء ولا يعلِّمه الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى لأبنائهم”. ط4، مكتبة جرير، الرياض، 2009م. ↩︎
- ليلى السياغي، “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”. مرجع سابق، ص55. ↩︎
- نفسه، ص50،43،16. ↩︎
- نفسه، ص115،106،105. ↩︎
- نفسه، ص133،132،131. ↩︎
- نفسه، ص121. ↩︎
- نفسه، ص225. ↩︎
- نفسه، ص144،143. ↩︎
- نفسه، ص243،242. ↩︎
- نفسه، ص37. ↩︎
- نفسه، ص38. ↩︎
- نفسه، ص166،165،151. ↩︎
- نفسه، ص172. ↩︎
- نفسه، ص222. ↩︎
- .نفسه، ص18. ↩︎
- نفسه، ص119. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص176. ↩︎