الشعرية والحضارة الآلية في ديوان علوان الجيلاني "ألبومات آدم الثاني"

الشعرية والحضارة الآلية في ديوان علوان الجيلاني “ألبومات آدم الثاني”

الشعرية والحضارة الآلية في ديوان علوان الجيلاني “ألبومات آدم الثاني”

د. عبده منصور المحمودي

في ديوانه الصادر مؤخرًا “ألبومات آدم الثاني”(1)، يقدم الشاعر والناقد علوان الجيلاني رؤيته الشعرية في الشعر؛ من خلال سياقاتٍ ثلاثة: الشعراء، وماهية الشعر، والمُنجز الشعري. وقد تجلّى في تشكيل الشاعر لأبعاد رؤيته الشعرية ــ هذه ــ نوعٌ من المركزية الشعرية، التي استوعبت صورًا من إشكالية العلاقة بين الشعر والحضارة الآلية. لا سيما ما يتعلق منها بالذروة، التي وصلت إليها هذه الحضارة، تلك المتمثلة في ما استجد من طفرة الذكاء الاصطناعي.

[1]: الشعراء والحضارة الآلية
[1ــ1]: اعتداد الذوات الشاعرة

مثّلت الذات الشاعرة الانطلاقة الأولى في تشكيل الرؤية الشعرية في هذا الديوان؛ من خلال صيغة الإحالة الجمعية على الشعراء، وتفاصيل من الخصائص التي يتفردون بها، منها امتلاكهم القدرة على التمييز بين المعاني:

“شعراءُ عرفنا موقع كل كلمة

عرفنا الهجوم من المكامن

ميزّنا طعم كل معنى”(2).

يظهر ــ هنا ــ الاعتداد بخصائص الذوات الشاعرة، في سياقٍ من فنية التعبير الشعري، القائم على تجسيد المعنى، من خلال الانتقال به من ماهيته التجريدية إلى ماهية جديدة، ذات طبيعة مادية محسوسة، يمكن استيعابُها تذوقًا لعدد من طعومها المختلفة.

وفي سياق هذا الاعتداد، يأتي التعريج على علاقة الشعراء بظواهر الحياة المختلفة، وموقفهم منها؛ إذ لا يتعاطون معها من زاوية نفعية معتادة، وإنما من زاوية جمالية بحتة خاصة بهم:

“شعراء

لم نراقب النجوم لأسباب تتعلق بالتقويم،

نراقبها لأسبابٍ جمالية”(3).

[1ــ2]: الشعرية والحضارة الآلية

استمرت الذوات الشعرية محافظةً على اعتدادها بامتلاكها الموهبة الإبداعية. ولم تتخلّ عن ذلك، حتى حينما لمست انتقال العلم بالإنسانية، إلى مستوى متقدم من الحياة:

“حين حوّلت الحضارات العلم إلى مصنع

يصهر وجداننا على نحو غامض

كنا نستمتع بمشاهدة وحش الضوء

يتجول في الأرض بحثًا عن فريسة

كنا نحن الفريسة”(4).

تبرز خصوصية الذوات الشاعرة، في استيعابها لمظاهر الصدمة بتحولات الحضارة ومعطيات العلم الحديث؛ إذ بدأت استيعابها هذه التحولات استيعابًا جماليًّا؛ انطلاقًا من الفلسفة الجمالية، التي اعتادت عليها في التعاطي مع مظاهر الحياة المختلفة. لكن الأمر لم يقف عند هذا الاستيعاب الجمالي المنطوي على لذة الاستمتاع بمشاهدة ضوء التقدم العلمي، بل انتقل بشعرية الاستمتاع إلى شعرية الصدمة والارتباك، بعد الإحساس بافتراس هذا الضوء ــ نفسه ــ لكينونة الاستمتاع به. وما ترتب على ذلك، من تداعيات في ماهية الكتابة الشعرية:

“صارت اللغة تعيش حياتها بصمتٍ ولا مبالاة

صارتْ عوالمَ مهجورةً وقاحلة

عوالم عرّتها رياح الآلة،

صرنا نسكن واقعًا افتراضيًّا بلا مجاز

لا قطرة ماء يشتعل فيها الحنين

ولا نصلَ عشبٍ ينبتُ من قبلةٍ احترق بها عاشقان(5).

تتجلى آثار الصدمة وتداعياتها، في حيوية اللغة الشعرية، التي أصيبت بنوع من الصمت واللامبالة. بفعل الآلة المتسارعة في اكتساح تفاصيل الحياة، والانتقال بها من واقعيتها المعتادة ــ بحقائقها ومجازاتها ــ إلى واقعيتها الافتراضية، المفرغة من إحالات المجاز. حد أن تفقد اللغة قدرتها على اجتراح شعرية الأشياء، من مثل ما يتقطر من ماء الحنين المشتعل، أو ينبت من أعشاب القبلة التي تماهى في احتراقها عاشقان. لم تستطع اللغة اجتراح مثل هذه الشعرية، بعد أن ساد الاحتفاء بمفاهيم الحضارة الحديثة وأدواتها، من مثل “التلسكوب” و”خرائط المستقبل”(6). ومثلها “الروبوتات”، و“الرجل الآلي”:

“صارت اللغات روبوتات كونية

صارت سماوات بلا ذاكرة ولا خيال

وثمة صوتٌ غريبٌ

يتأرجح فوق قُبّةٍ من جزئياتٍ ضوئية:

افسحوا للرياح القادمة من التخوم،

يعلن الرجل الآلي بصوت متقطع جاف تمامًا”(7).

لقد وجدت الآلة طريقها إلى تمثّل الإنسان، ومحاولة الحلول محله. بما في ذلك، تمثّلها للغته، التي اختفى منها ماء الشعرية، في سياق تلاشي روحها الإنسانية التي أحالت على غيابها ــ في صوت “الرجل الآلي” ــ صفةُ ذاك الصوت متقطّعًا وجافًّا.

ثم تأتي الطفرة الأكثر إرباكًا وصدمةً ــ للذات الإنسانية عامة والذات الشعرية خاصة ــ طفرة الذكاء الاصطناعي المتسارع في التهام إنسانية الأشياء:

“كان المستقبل خرائطَ لرياحٍ هوجاءَ عاليةِ السرعة

مئاتٍ من القنوات المتعرجة والشبكات العنكبوتية

خوارزميّاتٍ تتبجّح بمنطقها الاستدلالي

بياناتٍ تتدفق وتتصادم في تجاويف روحنا الضعيفة،

وحين التهمَنا الذكاءُ الاصطناعي

لم نكن من بحارِ وهواء كوكبِ الشعر القديم

كنا وحوشًا غريبةً

ولم يكن الوجود متجانٍسًا أبدًا”(8).

يظهر ــ هنا ــ نسقٌ من التداعي، مع تسارع آلية الحضارة ووظائفها وأشكالها. تلك الأشكال، التي استدعى السياق الشعري صورًا منها: “خرائط الرياح”، “القنوات المتعرجة”، “الشبكات العنكبوتية”، “خوارزميات”، “بيانات”، “الذكاء الاصطناعي”. كما يظهر الأثر البالغ الذي تركته هذه المعطيات في الوجود الإنساني، بعد أن نالت من التجانس بين معطياته.

[2]: ماهية الشعر وسيرته الجمالية

يأتي التعاطي مع ماهية الشعر وسيرته الجمالية، في تشكيل الرؤية الشعرية؛ بوصفه معطىً إبداعيًّا ذا خصائص ومسارات ومحطات مختلفة. بما في ذلك كله من تفاعل الشعر مع المناخات الفكرية والنقدية، وما تفضي إليه من أنساقِ تحوّلٍ في ماهيته واتجاهات الكتابة فيه.

يُوَجَّهُ منحى الخطاب ــ في هذا السياق ــ إلى الشعر، بدءًا من الإحالة على أن هذا الكائن لم يتجلَ للذوات الشاعرة إلّا مكتملًا:

“لم نرَ مولدك بأبصارنا..

منذ اللحظة الأولى كنتَ شابًا ومكتملًا

مدهشًا ومفرطًا في أناقتك”(9).

تتضمّن هذه الإحالة خيطًا من التجانس بين بداية الشعر وماهيته؛ إذ ليس من الممكن الإمساك بمحدداتٍ قطعية تؤطر جماليات الشعر، ومثل ذلك من غير الممكن الوقوف على محددات الطفولة فيه، بل ولا الوقوف على ما يُقرّ بطفولته؛ إذ لا طفولة له، بوصفه معطىً جماليًّا، والمعطيات الجمالية لا طفولة لها؛ إذ يتم استيعابُها كاملةَ الإدهاش والتأثير في فعل التلقي والمثاقفة.

ويمتد هذا النسق ــ بصيغته المحيلة على اكتمال البداية ــ إلى تسمية هذا الكائن (الشعر)، التي لم تتغير منذ استيعاب جماله الأول:

“منذ البداية كنت الشعر

لم يكن بوسعنا البحث عن اسم آخر نطلقه عليك”(10).

وعلى ما في هذا النسق، من تضمينٍ لاكتمال جمال الشعر منذ البداية، إلّا أن الرؤية الشعرية لم تُغْفِل الحقيقة الفلسفية، المحيلة على استحالة الكمال المطلق. تلك الحقيقة، التي تداعت معها الرؤية الشعرية، فأكدت سمة النقص، في هذا الكائن، لا اكتماله:

“أنت حياةٌ ناقصة

جوهرٌ لا يتجانس أبدًا

لذلك تبدو مبعثرًا ومشوشًا وبدائيًّا

مع ذلك تبدو وسيمًا ومتلاحمًا أيضًا

نقصكَ هو سر جمالك”(11).

لكن سمة النقص ــ هذه ــ مختلفة في هذا الكائن؛ لخصوصيته واختلافه عن غيره من الكائنات، فهي سمةٌ فاعلة في اكتمال جماله، بل هي السر الكامن وراء إضفاء هذه الصفة عليه.

وتأسيسًا على تأكيد هذا السر الجمالي، تأتي شعرية استحضار السياق الشعري للشاعر أبي الطيب المتنبي، واستحضار أبرز ما أضفتْه شعريّته ــ وشعريّة عصره ــ على الشعر من تحولات؛ من مثل الغموض الشفيف:

“حينها مسّكَ غموضٌ شفيف”(12).

والأمر نفسه، في استحضار ما أفضت إليه تلك التحولات، من جماليات الكتابة الشعرية:

“صِرتَ بهاء الوجود الساطع وهشاشته أيضًا

تتراءى في لمعانك المُقلق

تُكَمِّلُ حياتنا الناقصة بخطواتك المتقابلة”(13).

لقد اكتمل ــ هنا ــ نسق حتمية النقص في شتى الكائنات، إسقاطًا على الشعر، وجماله المستند إلى حتمية النقص فيه. تلك الحتمية الجمالية، التي تضطلع بإضفاء الكمال، على حياة الشعراء.

وتداعيًا مع ما جاء من عصورٍ مختلفة بعد عصر المتنبي، كان على الشعر أن يتفاعل مع آثارها الفاعلة فيه، بما هي عليه من تفاوتٍ بين السلب والإيجاب. وعلى ذلك، فإنه لم يفرط بروحه الجمالية، التي يبقى محتفظًا بها، لتعود حيويتها كلما توافرت لها عوامل التخلق المتجدد:

“كان شحوبك حياة جديدة لك..

رهافتك تتحول إلى تعريفاتٍ لا عهد لك بها

صِرْتَ تملك روحًا من الكريستال تعكس كلَّ شيء

صِرْتَ طيرًا بحريًّا يمنحنا قلبه ودمه،

صار الوجود كله مسمارًا تُعلَّق فيه اللوحة”(14).

هذه الروح ــ بجوهرها غير المعرض للفناء ــ هي التي تعرّضت لإشكالياتِ مذاهب الشعر والنقد الأدبي في العصر الحديث:

“حين اختلستك الواقعية لم تعد أنت(15).

وعلى ذلك، لم تذبل روح الشعر؛ فماهيتها مجبولة على التخلّق أنساقًا جمالية عصية على التأطير والتمذهب:

“لستَ الحياة اليومية

أنت تيار الحياة،

لستَ ما يجري على يد الشاعر

أنتَ ما يجري في قلب الشاعر

….

أنت أيُّ شيءٍ آخر غير أن تكون مكشوفًا”(16).

تلك الأنساق الجمالية، التي كثّفتْها الرؤية الشعرية، في توصيف ماهية الشعر وجوهره الفاعل في منح الأشياء معانيها، على هذا النحو من التجلي الشعري:

“لا تشرح وتخبر

لكنك تسحر وتدهش،

ما لا تلمسه لا وجود له

ما تلمسه يصير وطنًا

يتحوّل إلى وجودٍ مهيمن”(17).

[3]: الشعر في تجليّاته النصية

يكتمل تشكيل الرؤية الشعرية بسياقها الثالث، المتمثل في التجليات النصية، التي يتشكّل بها المنجز الشعري. على اختلاف هذه التجليات، وتعددها؛ إذ نجد منها ما يلوح فاتنًا، لكنه يتلاشى بتلاشي لذة التلقي:

“نصٌّ كانحناءاتِ جسدٍ فاتن

نصٌّ كممرٍّ طويل

نصٌّ مكتوبٌ بغبار الطَّلع

يتطلَّعُ إليك بصوتٍ هامس

حين تبدأ لذته بالتلاشي

تتذكر أنه لم يكن حدثًا عظيمًا

مجرد كلماتٍ لا تتمنَّى نسيانها”(18).

كذلك، من هذا التجليات النصيّة، ما يأتي متخمًا بتفاصيله وجمالياته، لكن لا تحتفي الذائقة به زمنًا أطول مما يتسق مع ماهيته مكانًا تعبره الأشياء والكائنات:

“نصٌّ مثل فندقٍ فاخر

الكثير من التشبيهات

استعاراتٌ وصورٌ مشهدية

كلماتٌ أضواؤها خافتة

وكلماتٌ قويةُ الضوء

“لكنه يعرف أنك لن تعيش فيه طويلًا

أنه قد يختفي إلى الأبد بمجرد أن تغادره”(19).

ومقابل النصوص المأهولة بالتلاشي، هناك نصوص مكتنزةٌ أحاسيس دفء وسحرٍ، وعامرةٌ بأسرارٍ لا مجال للكشف عنها:

“نصٌّ ينضح دفئًا وسحرًا

يصافحكَ كيَدٍ بشرية

نَفَسُهُ يختلط بأنفاسك

ينحني لك كأنه يُعبِّر عن العرفان بالجميل

….

نصٌّ مليءٌ بالأسرار

لكنه لا يدعك تزحف إليها”(20).

وعلى تعدد أشكال النصوص الشعرية وأنواعها، فإن هناك نصًّا واحدًا هو المأهول بشعرية التداعي فيك، واستدراجك إلى الاستقرار في معانيه:

“نصٌّ يرتعشُ كقُبلةٍ عذراء

يشبه تنورةً قصيرةً من الرِّيش

تشعر وأنت تقرأه باهتزازِ مظلةٍ رقيقة

لا تنتهي منه أبدًا،

يتحول إلى جزء منك

تعيش معه كأنك تعيش في داخلك”(21).

لقد استندت الرؤية الشعرية ــ في هذا العمل ــ إلى الشعر. من خلال الذوات الفاعلة في إبداعه (الشعراء)، ثم من خلال جوهره وماهيته الفنية والجمالية، وانتهاءً بمنجزه نصوصًا شعرية، متنوعة، مختلفة باختلاف ما تتركه من أثر في ذهنية التلقي. وهو ما يحيل على احتفاء هذه الرؤية، بالمدى الذي تصل إليه شعرية النص، وتداعياتها في أفق التلقي، في سياقيه: الخاص، والعام.

كما يتجلى ــ في هذه الرؤية ــ نوعٌ من الإنصاف لماهية الشعر، في وجه شراسة الحضارة الآلية؛ ليبقى على طبيعته المتجاوزة معطيات الحياة ومستجداتها. بما في ذلك إحالة هذه الرؤية على استحالة النيل من جوهر الشعر، ورسوخ هويته وتجذرها في الذات الإنسانية. هذه الذات المجبولة على حاجتها الدائمة إليه، لتضفي ماء الشعرية وروحها على كثيرٍ من مكونات الحياة ومستجداتها، في شتى الأمكنة والأزمنة.


  1. علوان مهدي الجيلاني، “ألبومات آدام الثاني”. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2025م. ↩︎
  2. نفسه، ص7. ↩︎
  3. نفسه، ص9. ↩︎
  4. نفسه، ص24. ↩︎
  5. نفسه، ص25. ↩︎
  6. تفسه، ص28. ↩︎
  7. نفسه، ص29. ↩︎
  8. نفسه، ص34. ↩︎
  9. نفسه، ص39. ↩︎
  10. نفسه، ص40. ↩︎
  11. نفسه، ص46. ↩︎
  12. نفسه، ص50. ↩︎
  13. نفسه، ص51. ↩︎
  14. نفسه، ص61. ↩︎
  15. نتفسه، ص68. ↩︎
  16. .نفسه، ص69. ↩︎
  17. نفسه، ص76. ↩︎
  18. نفسه، ص81. ↩︎
  19. نفسه، ص86،85. ↩︎
  20. نفسه، ص90. ↩︎
  21. نفسه، ص91. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *