مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية

مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية

مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية

د. عبده منصور المحمودي

ذاكٍرة الشِّفاه فِي اليمن(1)

تتخذ مركزيةُ الخواتيم ــ في الثقافة الشعبية اليمنية ــ موضعًا حِكَمِيًّا. ضمنَ ما يتردد تداوله، في سياقاتِ الحياة المختلفة. ذلك؛ لأن ذاكرةَ الشِّفاهِ ــ في أيّ مجتمع إنساني ــ هي سفرُ حياته الثريّ بخصوصيته وتاريخه الثقافي. وبذلك؛ فإن هذه الذاكرة (ذاكرة الشِّفاه)، تمثّل في الثقافة المجتمعية في اليمن أسفارَ حياةٍ شفاهيَّةِ التدوين والذاكرة. تلك الحياة التي تتشَرّب خصوصيةَ مجتمعِها الشعبيّ. كما تتشَرّب تراثَه الماديّ، وتجاربَه الخصبة، التي تزخرُ بِها أريافُ اليمن.

يستخلصُ الإنسانُ اليمنيّ كثيرًا من رؤاه الحِكمية، من تفاصيلَ حياته الاجتماعية وأنساق ثقافته الشعبية. فعليها يستندُ في تسييرِ أموره. يتداولُها غيرَ مفرّطٍ فيها. تتناقلها أجْياله، تتردّد أمثالًا على ألسنتِهم، ميزانًا لما يدورُ في دائرةِ فكرتِها، من تفاصيلِ حياتِهم، ومُشكلات واقعهم وأحداثه.

ريفيّون، حياتُهم هي مدرستهم الأولى. تجاربُهم متونٌ لما وصلتْ إليه رؤاهم. وتفاصيلُ ذاكِرةِ اعْتراكِهم مع نوائب الزمان والمكان تجري على شفاههم. إنها ذاكرةٌ، يوغل صمودها في سيرورة الزمن؛ فيضطلع بتوثيقها، على صفحات كلامهم، وفي سطور أصواتهم.

بتلقائيةٍ، تتراتب تجاربُهم، في أنسقةٍ متعددة. منها هذا النسقُ القائم على ترسيخ المنطقية، في القول: إن خواتيم الأمور، هي مركزية المعنى والحدث. وإنّ الحكم على الأمور، يجب أن يأتي بِناءً على نتائجها وإيجابية النهايات فيها. لا أنْ يأتي بناءً على بداياتها، وسلامة مقدماتها. في هذا النسق، انتظمت ثمارُ تجاربهم مَقولاتٍ وحِكمًا متداوَلَةً على ألسنتهم، في مواقف مختلفة، ومتنوعة.

مما ينتظم في هذا النسق من مقولاتهم، مقولتانِ اثنتانِ، الأولى منهما: “ذَرَأْكُ لِكْ يَا عَمَّهْ!.. قالهْ: يَا بَنِيْ عبَارِهْ نَبَاتِهْ”. والثانية: “لـَ تْقوْلْ بُرْ الَّا وْقاهوْهْ بَالصُّرْ“.

تختلف طريقة نطق هاتين المقولتين، من منطقة إلى أخرى، ومن حيّزٍ اجتماعيٍّ إلى آخر. اختلافات بسيطة، تستلزمها سليقة البناء اللغوي الخاص بكلّ منطقة. واحدةٌ من صورهما الصوتيّة/ النُّطقيّة ــ تلك ــ هي الصورة، التي يتسم بها تداولهما الشفاهي، في الغالب من أرياف مُديريتي: “ماوية”، و”الحشاء”(2). إن لم يكُن في جميْعها.

[1]: حقيقة الإنبات، لا الإخلاص في عملية “بذر الحَبّ”

من تجليّات مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية، هذا المعنى، الذي تتضمّنه المقولة الشعبية المتداولة:

“ذَرَأْكُ لِكْ يَا عَمَّهْ!.. قالهْ: يَا بَنِيْ عبَارِهْ نَبَاتِهْ”.

[1ــ1]: لغة المقولة

انسجامًا مع خصائص المحكية ــ في مديريتي “الحشأ” و”ماوية” ــ تأتي هذه المقولة، بهذه الصورة الصوتية. حيث يحلّ في الفعل: (ذَرَأْكُ/ ذرَأتُ). صوتُ (الكَاف) محلّ (تاء) فاعلِه المتكلّم. وانتهى فعلُ القول الماضي، بصوت (الهاء). الذي حل محل (تاء الفاعل) للمؤنثة الغائبة. أما صيغة (عَبارِهْ) ــ التي تنتهي بضمير المؤنث المتصل ــ فيظهر فيها اكتفاءُ المحكية، من ضمير المؤنث المتصل (ـــها) بصوتِ (الهاء)، والوقف عليه بالسكون. ومثل ذلك، جاءت صياغةُ (نَبَاتِه/ نبَاتها).

وجاءت (عَبارِهْ) من المعجم الفصيح؛ إذ يقال: “عَبَر المَتاعَ والدَّراهمَ: نَظر كَم وَزنُها ومَا هِي … و(اعْتبَرَ) الشّيء: اخْتَبَرَهُ وامْتَحنَه … [و] (الاعْتِبَار): الفرَضُ والتّقديرُ”(3). لذلك؛ كانت دلالتُها ــ في هذه المقولة ــ على التقييم والتقدير، لنجاح العمل، أو فشله.

[1ــ2]: سياق المقولة

تتردّد هذه المقولة؛ تعقيبًا على نشوة أحدهم، بالحديث عن مجهودٍ قام به ــ أو لا يزال يقوم به ــ من أجل تحقيق إنجَازٍ ما. قبل أن ينتهي من هذا العمل، أو قبل أن يستكمل اشتراطاتِ نجاحِه، على صورته النهائية الملموسة.

ينحو اطّرادُ التداول ــ في هذه المقولة ــ منحى الاكْتفاء بترديد لفظيها، المكتنزين بدلالة الحكمة: (عَبَارهْ/ نَبَاتِهْ). وهو اكتفاء إنجازيّ، يتكئ على رسوخها المتكامل بأجزائها، في الذهنية الشعبية. بما في ذلك، مقام الكلام الذي تردُ فيه.

وسرعان ما يستحضر المتحدث هذه المقولة بأجزائها كاملةً، حينما يستشعرُ الحاجة إلى فاعلية قولها ــ كامِلةً ــ في تنوير مقام حديثه. لا سيما في مقامٍ، يلاحظ فيه تباطؤ المعنيِّ بها في استحضار المحذوف منها.

ويحيل هذا الاستطراد، على الانطلاقة الأولى للمقولة. تلك الانطلاقة، التي يمكن مقاربتها: بموقِفٍ بين شَخصٍ وامْرأةٍ من قريباته. عُمرُها متقدّمٌ، يؤهّلها إلى أنْ تكون في مستوى قرابتها له (عمَته). يزفَّ إليها البُشرى، في إنجازه بذْرَ الحبِّ في مزرعتها. وينتظر تعقيبها عليه بامتنانها له، أو ثنائها عليه. لكنها لم تتعاطَ مع بشارته، بما يتّسقُ مع ظاهر معناها. وأجّلت ذلك، إلى ما سيسفر عنه تمحيصُها، بمعيارٍ قائم على منطقية زمنية قريبة. أيْ زمنيّة، ستتضح فيها نتيجة عملِه سلبًا أو إيجابًا. فملاحظتُها للنبات ونموّهِ، هي ما ستفصح مزرعتُها ــ من خلاله ــ عن النجاح والإيجابية، في عمله.

لا يقف تداول هذه المقولة عند مهاد انطلاقتها الأولى؛ ففيها ما يؤهلها إلى امتداد أوسع. إذ يتنوع حضورها في أكثرِ من مجال. كما يتنوع في كثيرٍ من المواقف، التي تظهر فيها نشْوة شخْصٍ ما، بإنْجازٍ لم يقفْ ــ بعدُ ــ على قدمي واقعيته، ولم تكتمل اشتراطات حقيقته.

[2]: امتلك البُر ثم تحدّث عنه

تتجلّى مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية، من خلال هذا المعنى. في هذه المقولة، المتداولة:

“لـَ تْقوْلْ بُرْ الَّا وْقاهوْهْ بَالصُّرْ“.

[2ــ1]: لغة المقولة

من خلال التأمُّل في الصورة الصوتية لهذه المقولة ــ وفقًا لخصائص المحكية في جغرافيتها المكانية والاجتماعية ــ يظهرُ عليها عَدمُ امتدادِ صَوتِ الفتحةِ بعد (اللّام)، في (لَا) النّاهية؛ ليستوي ألفًا. كما توارتْ فاعليةُ (لا) الناهية الجازمة للفعل المضارع، ولم تُخلّص الفعلَ (تقول) من ظاهرة (اجْتماع ساكِنين) على الصّوتين: (الواو/ اللّام). ولا يجتمع ساكنانِ في الفصحى؛ إذ يحْذفُ (الواو)، في مثل هذه الحال. لكن خصائص المحكية، تبقي على الساكنين مجتمعين. ويظهر التسكين سمةً واضحة، على أواخر الكلمات، فتغيب الحركات الإعرابيّة. ويُلاحظ أن الصيغة: (الَّا وْقاهوْهْ بَالصُّرْ)، قد حملت معنى القول: (إلَّا وقدْ صارَ في الصُّرّة).

استقام بناء هذه المقولة، على سليقة المستوى اللغويّ المحكيّ. الذي استمد محوريّةَ قُطبيه من الفصحى، في اللفظين: (البُر/ الصُّر). مع عدم انقطاع الدلالة المعجمية فيهما؛ فـ “(البرُّ): حبُّ القَمْح. وابن بُرّة: الخُبْز”(4). و(الصّر) ــ الذي استبدل صيْغة تذكيره بصيغتهِ المؤنّثة ــ ورَدَ معجميًّا: “(الصُّرّةُ): ما يُجْمَعُ فيْهِ الشَّيءُ وَيُشدّ. (ج) صُررٌ”(5).

إلى دلالتهما المعجمية، أُثْرِيَا اللفْظانِ (بُرّ/ صُرّ)، بمحمولات دلالية، ذات حيويةٍ انصهارية، في سِياقيّةِ القصديّة الشعبيّة النّاسِجة لِهذه المقولة. التي اكتَسَبَتْ ــ بفاعلية التداولِ ــ ماهيةَ (المثل الشعبي)، الذي يتردّد في مواقف كثيرة، يجمعهُ بها انتماؤها إلى فكرته.

[2ــ2]: ارتباطًا بسياق المقولة الأولى

لا تعني إيجابية النتيجة ــ في المقولة السابقة ــ أنَّ الحكم باتٌّ فيها؛ فهي نتيجة أوليّة. تتبعها مراحلُ، ومنعطفاتٌ؛ حتى الوصولِ إلى النتيجة النهائيّة. حيث يقتضي ــ هذا الوصول ــ المرورَ الحتميّ بطريْقٍ متعرّجٍ، محْفوفٍ بالمخاطر، تجتمع فيه التناقضات التي تتقاسم الاشتراطات الاحتماليّة للنتيجة، بصورتيها: السلبيّة والإيجابيّة.

لذلك؛ فإن نسقَ الحكمة ــ الذي بدأ من المقولة السابقة ــ يستكملُ مسَارَه في هذه المقولة، التي أوجزت في توصيف ذاك الطريق، ورحلته المجهولة المضطربة.

[2ــ3]: سياق المقولة

عادةً ما تأتي هذه المقولة، في موقفٍ، يكون فيه أحد المتحدثين عَارمَ الانتشاءِ، بأمْرٍ خَيّرٍ، في طريقه إليه. وفي الوقت نفسه، يكون متغافِلًا عمّا يكتنف هذا الطريق من مخاطر.

ومن خلال مقاربةٍ ــ تستهدفُ مُلَامَسَةً تأويليّةً لأوَّل مهَادٍ تخلَّقتْ فيه هذه المقولة ــ يتضح أن هذا المهاد هو حقلها الدلاليّ المباشِر (الزّراعة)، المهنة الرئيْسة في المُجمتع اليمنيّ الريفيّ. وهو مهَادٌ مُرتبطٌ بموقفٍ، أبْطالُه مُزارِعَانِ أو أكثر: أحدُهم يتحدّث عمّا سيكونُ في حوزتهِ، من وفرةِ محصولِ مزرعته، ستجود عليه به الأيّام القادِمة. كما يتحدّث ــ في الموقف نفسه ــ عن استشرافِه تحقيق ذلك، في مُقدّماتٍ واضحة، كخُضرة الحقل، أو بِدايات نُضجٍ، في بعض سنابلِه. ينبري له مُزارعٌ آخر، فيرفع في وجهه هذه المقولة لافِتةً تنبيْهيّةً تَرشيْديّةً لمُستوى الإفْراط في تفاؤُله، مَسنودةً بواقعية الهشاشَة، في مُقدمات الرجل.

ليست هشاشة المقدمات نفسها، وإنما الهشاشة في مستوى الأمان. الذي يُرافق رحلتها إلى النهاية (حتّى صُرّة صاحبها). وكأنه يقف مُسْهِبًا في معنى لافتتهِ: ليس البُرُ بُرًّا إلّا بعد أن يكون في حُوزتك. ما لم، فإنه في مفترق مخاطر متعددة. منها ما ينتظره في الحقل، كالطيور، أو القرود. أو ذبوله قبل آخر لحظات نضْجه، حينما لا تجود عليهِ السماء، بما يسْتكمل به نضجَه. ثم تأتي مخاطر أخرى، منها ما يمكن التنبؤ به، ومنها ما لا يمكن التنبؤ به. وبذلك، فإن ما تراه خيرًا قادمًا إليك، هو في الحقيقة لا يزال أملًا، في مهب الاحتمالات المتناقضة.

[2ــ4]: امتدادٌ سياقي

    من مهدها الأول، انطلقتْ هذه المقولة، متخمةً بنسقها الحِكمي المُتكاثف. الذي منحها سيادةً توسعيّة امتداديّة لفكرتها. وبذلك؛ فقد شملت الدلالة على توجيه النصيحة إلى كل شخصٍ، يغمره الانتشاءُ بحديثه عن خيرٍ قادم إليهِ، أو إلى غيره. أو قلْ التوجيه إليه مشورةً مجانية، بالتريّث في الحديث، فلا يتم تضْمينُه قَطعِيّةً بماهيةِ موضوعه، إلّا وقد استوفى موضوعُ الحديث معالمَ واقعيته الملموسة. ليست الواقعيّة المتعارَفُ عليها ــ فهذا أمرٌ مفرُوغٌ مِنه ــ وإنّما تلك الواقعية، التي تتوافرُ فيها اشتراطات الحيازة والامتلاكِ لما يدور حوله الكلام.

[3]: انتماء المقولتين إلى بيئتهما

يتضح في هاتين المقولتين ــ المتداولتين اللتين تجلّت فيهما مركزية الخواتيم في الثقافة الشعبية اليمنية ــ انتماؤهما إلى بيئتهما. كما يتّضح فيهما تجسيدُهما لبيئتهما ــ هذه ــ بما فيها من مخاطر وهيمنةٍ للقلق والخوف، من انهيار الحلم في أيّة لحظة.

وفي ذلك، إحالة غير مباشرة، على اضطراب الحياة، فوق مستوى الحتمية التَّقَلُّبيّةِ. تلك الحتميّة، التي لا تتجاوز حدود الأمان. كما أنها إحالةٌ على حياةٍ يمنية: قاسية، مفقودٌ فيها الأمان. زاخرة بالخسارات؛ فمن يفوز بشيء ــ بعد عناء ــ لا يفوز به، إلا بعد مراحلَ من: القلق، والتوجُّس، واللَّاطمأنينة.

  1. د. عبده منصور المحمودي، “ذاكرة الشفاه في اليمن (إيْجابيّة النّهايَاتِ لَا سَلامةَ المُقدّمات)، فِي الذِّهنيّة الشعبيّة”. منصة خيوط، 29 أكتوبر 2020. ↩︎
  2. في التقسيم الإداري الجديد عام 1998م، أُلحقتْ مديرية “الحشاء” بمحافظة “الضالع” إداريًّا. بعد أن كانت وجارتها مديرية “ماوية” تابعتين إداريًّا لمحافظة “تعز”. ↩︎
  3. مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”. مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ ــ 2004م. ص: (580)، مادة: (عَ.بَ.ر). ↩︎
  4. نفسه، ص: (49)، مادة: (ب.ر.ر). ↩︎
  5. نفسه، ص: (512)، مادة: (ص.ر.ر). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *