الرمز الشعري المفهوم والرؤية
[1]: تعريف الرمز الشعري
كان (أرسطو)(1) هو أول من تطرّق إلى مفهوم الرمز؛ فهو يرى أن الكلمات رموز لمعاني أشياء. أي رموز لمفهوم الأشياء الحسية أولًا، ثم التجريدية المتعلقة بمرتبة أعلى من مرتبة الحس ثانيًا(2). فضلًا عن أن اللغة ــ في طبيعتها ــ مجموعة من الرموز، بحسب قول (دي سوسير)(3).
وفي الاصطلاح الأدبي، يعني الرمز “كل ما يحل محل شيء آخر في الدلالة عليه لا بطريق المطابقة التامة وإنما بالإيماء أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها”(4). ذلك؛ لأن الخطاب الأدبي خطاب رمزي، فهو “جهد تعبيري يحتشد بدلالات رمزية تتفاوت حيوية وفرادة من شاعر إلى آخر”(5).
ويرى (فرويد) أن مصدر الرمز هو الرغبة اللاشعورية. فالرمز ــ عنده ــ ببساطة أداة في يد اللاشعور أو المكبوت الجنسي. ومفهوم الرمز مرتبط عند يونغ(6) بفهمه للاشعور الجماعي؛ فهو يرى أن الاهتمام ينصب ــ بشكل رئيس ــ على عناصر، تُعدّ بالطبيعة منتمية إلى اللاشعور. وهكذا يتسع الأفق عنده، بشكل يختلف عن أستاذه (فرويد)، فمصدر الرموز في رأيه هو اللاشعور الجمعي(7).
وفي النص الشعري، تتمخض الرموز الشعرية عن تجربة شعورية. وهي حال ذاتية يمر بها الأديب، فيعبر عنها بصور وتعابير إيحائية؛ انعكاسًا لما في نفسه. لأن النفس تتأثر بالعوامل الخارجية المكتسبة، فتطبعها بطابع معين؛ كونها بنت المحيط الذي نشأت فيه، تتنوع بتنوعه، وتختلف باختلافه(8).
[2]: العلاقة بين الرمز وما يشير إليه
كثيرًا ما يعرف الرمز بأنه (شيء ينوب عن شيء آخر). ويكاد هذا التعريف أن يكون سطحيًّا، لا يقدم ولا يؤخر. على أنه يصبح أكثر أهمية، حين تُدرس تلك الرموز، التي لها علاقتها بمحسوساتٍ، من مثل: الرؤية، والسمع، والشم، واللمس. وتنوب هذه المحسوسات عن شيء (آخر)، هو تجربة روحية أو إحساس أو فكرة. لأن اللغة الرمزية هي اللغة التي نعبر بها عن تجارب نفسية في الأساس.
ولمعرفة العلاقة الخاصة بين الرمز والمرموز إليه، لابد من التمييز بين ثلاثة أنواع من الرموز: الرمز التقليدي، والرمز العرضي، والرمز الكلي.
[2ــ1]: علاقة الرمز التقليدي
الرمز التقليدي، هو أكثر الأنواع الثلاثة شيوعًا، لأننا نستعمله في لغتنا اليومية. فمثلًا كلمة (منضدة) ــ مكتوبة أو حين نسمع التشكيل الصوتي لها ــ فإن الأحرف: (م. ن. ض. د. ة) تنوب مناب شيء آخر. وليس للشيء (منضدة) علاقة بالتشكيل الصوتي (منضدة). والسبب الوحيد في أن الكلمة ترمز إلى الشيء هو الاتفاق لوصف هذا الشيء الخاص بهذا(9).
[2ــ2]: علاقة الرمز العرضي
تكون العلاقة بين الرمز والمرموز إليه علاقة عرضية، في الرمز العرضي. فمثلًا بإمكاننا أن نحلم بأننا موجودون في مدينة معينة، وقد لا ترتبط بها في الحلم أية حال نفسية معينة، فلا نرى إلا شارعًا أو اسم مدينة، ونتساءل لِما خطرت في بالنا هذه المدينة بالذات في المنام.
وقد نكتشف أن النوم قد غشينا في حال نفسية، كانت شبيهة بالحال النفسية التي ترمز إليها المدينة بالنسبة لنا، فالصورة في الحلم تمثل هذه الحال النفسية. وتنوب المدينة مناب الحال النفسية، التي مررنا بها ذات يوم. وهنا تكون العلاقة بين الرمز والتجربة المرموز إليها مجرد علاقة عرضية(10).
[2ــ3]: علاقة الرمز الكُلّي
أما في الرمز الكلي، فهنالك علاقة داخلية بين الرمز وبين الشيء الذي يمثله. فكثير من الرموز الكلية لها جذورها، في تجربة كل إنسان. ولنأخذ رمز النار مثلًا على ذلك، فنار الموقد تفتننا في المقام الأول بحيويتها، فهي تتحول وتتحرك طوال الوقت. وعلى هذا، فلها ثبات معين، فهي تبقى نفسها، من دون أن تبقى على حالها، وتوحي بالقوة والقدرة والظرف(11).
والرمز الكلي، هو الرمز الوحيد، الذي تكون فيه العلاقة بين الرمز والمرموز إليه ملازمةً باطنة. ذلك، أن له جذوره في التجربة، ذات العلاقة الداخلية، بين العاطفة والفكرة من جهة والتجربة الحسية من جهة أخرى. وعلى هذا سُمي كُليًّا؛ لأنه مشترك بين الناس كلهم(12). والرمز الكلي، هو ــ من ناحيةٍ أخرى ــ الرمز المتّسم بالقيمة التعبيرية والفنية، التي تمثل محورًا جوهريًّا، ينتظم من خلاله بين جماليات النص الشعري.
[3]: الرمزية
الرمزية مصطلح أدبي لم يتبلور له معنىً واضح. فالرمزية ضبابٌ مشع أكثر منها منطقة محددة؛ لما يعترض ذلك من عوائق. أبرزها قيام الرمز على معنيين: الأول أنه ينوب عن شيءٍ آخر. والثاني معناه المذهبي، الذي يعني فيه الرمز أنه تفاعلٌ بين شيئين أحدهما ظاهر، والآخر خفي. ومن ذلك أيضًا، التباين في أفكار ورؤى الرمزيين أنفسهم(13). تلك الرؤى، التي أدخلت الرمزية في أطوار من التطور، كان آخرها انقسام المذهب الرمزي على مجموعتين. تبعت إحداهما فيرلين(14)، وتميز شعرهم بالبساطة والوضوح في استخدام الرموز. وتبعت الأخرى ملارميه(15)، وقد رفع أصحابها راية الشعر الحر، ونادوا بتحطيم الأشكال التقليدية، وإعادة بناء الشعر من خلال الرمز. فكانت الرمزية ــ بذلك ــ وجهًا بلا ملامح، على حد تعبير (بلكيان).
وعلى ذلك، فقد أصبح مصطلح الرمزية عنوانًا مريحًا، يستخدمه مؤرخو الأدب؛ للدلالة على عصر ما بعد الرومانسية. على اعتبار أن الرمزية، كانت رد فعل على المذاهب الفنية، التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر؛ إذ كانت رد فعل على: الرومانسية، والوضعية، والبرناسية، والطبيعية، والكلاسيكية، والواقعية(16).
[4]: العلاقة بين الرمز والصورة
يلتقي الرمز والصورة الشعرية في أن كُلًّا منهما تكمن مهمته بالدرجة الأولى، في القدرة على تنوير العمل الأدبي، وإكساب المعنى سحر الجدة والحداثة. لكنهما يختلفان في كثير من الأمور، أهمها: أن كل صورة لا تبرح إطار الحواس الخمس في إشارتها غير الحسية. أي أنها حسية فيما تمثله، لأن ما تمثله بطبيعته مرتبط بالحواس، فهي لا تعطي ــ إذن ــ أبعد مما تُمثل. في حين أن الرمز الشعري عبارة عن إشارة حسية مجازية لشيء لا يقع تحت الحواس(17).
كما يختلفان في درجة التجريد؛ فالرموز أكثر تجريدًا من الصورة التي تدرك بتداخل الحواس وتراسلها، وتقوم على التجسيد والتشخيص(18). في حين أن الرمز يكمن في لامحدودية الإيحاء، من خلال ذلك التركيب المعقد. هذا فضلًا عن أن الصور الجزئية تعتبر عناصر في بناء الرمز.
ولذلك، يصبح الرمز أكثر عمومية وشمولًا من الصورة، في استيعاب رؤية الشاعر بكل أبعادها(19). مع الإشارة إلى عدم التناسي أن الرمز ليس إلا وجهًا مقنعًا من وجوه التعبير بالصورة. ذلك؛ لأن الصورة إذا تجاوزت حدود الدلالة الحسية واعتمدت الإيحاء، وفُهمت على أنها بناء مركب تتآزر جزئياته وتتنامى، غدت رمزًا(20). فالصورة تبقى مجازًا، ما دامت وظيفتها تصوير تجربة معينة وفي لحظة محددة. لكن هذا المجاز يتحول إلى رمز، وذلك بمعاودة الصورة وتكرارها.
[5]: أهمية الرمز وقيمته الفنية
لقد احتل الرمز مكانه المميز، في النسق التاريخي للفكر البشري. فما من نشاطٍ ذي بال إلّا والرمز لُبُّه. وقد دلت النقوش التي نقشها الإنسان على أن استخدام الرمز في الفن يرجع إلى عهود العصر الحجري القديم، وكذلك إلى فنون الشرق القديم. مما يدل على أن الإنسان القديم، كان يعي وظيفة الرمز بوصفه نوعًا من اللغة، يمكن عن طريقه الاتصال بالآخرين(21).
ولعل أهمية الرمز في القديم، كانت تكمن في أنه وسيلة إلى تقرير أو استنباط مغزى خلقي أو تعليمي. أو محاولة لتجسيد بعض المفاهيم الغامضة، التي تعيش مع الإنسان، من أمثال: الموت، والحياة. فقد لجأ بعضُهم إلى تمثيل الموت بدمية، والحياة بأغصان أو أشجار. باعتبار هذين العنصرين رمزين للثبات والجمود، والنماء والحركة. ومن ثم كانت علاقة الرمز بالشعر، ضرورة فنية؛ ليضمن له الإيحاء الذي يعد أهم سمات الشعر الجوهرية(22).
وتكمن أهمية الرمز ــ فضلًا عن ذلك ــ في أنه وسيلة لإثراء اللغة، وسد العجز فيها. ذلك؛ لأن الشعر ــ من خلال رمزيته ــ يحاول في مراتٍ عديدة التعبير عن زوايا غامضة في النفس(23). و”الشاعر حين يعبر عن اللانهائي بلغة النهائي؛ فإنه يفكر بطريقة شعرية وسيلتها الرموز”(24).
ومن هنا كان الرمز أبلغ تأثيرًا في النفس من الحقيقة، وغدا ظاهرة من أبرز الظواهر الفنية في الشعر المعاصر؛ ومعيارًا تجاوز الجوانب الفنية لتشكيل العمل الشعري إلى الآفاق الفكرية والرؤى المتأملة. حتى صارت بعض الأشياء، لا يمكن فهمُها إلا إذا دُرست كرموز(25).
وتتحدد قيمة الرمز الدلالية حينما يندغم في البناء العام للنص؛ فالرمز سمة للأسلوب وليس سمة للكلمات(26). وقد لجأ الشاعر الحداثي، إلى توظيفه في تجربته الشعرية. لذلك؛ لم تكن “حداثة القصيدة العربية في خروج الشاعر العربي على الوزن والقافية، بل تتمثل حقًّا في انعطافته الكبرى لبلورة رؤية خاصة به، وما ترتب على ذلك من بحث عن رموز وأساطير وأقنعة، يجسد فيها ومن خلالها رؤاه ويمنحها شكلًا حيًّا ملموسًا”(27).
إضاءة
فرد يناند دي سوسيرF.De Saussure (1857ـ 1913م): ولد في مدينة “جنيف”، لأسرة مهاجرة من فرنسا إلى سويسرا بعد الحروب الدينية الفرنسية. اتصل بصديق والده أدولف بيليثت Adolphe Pictet عالم الفيلولوجيا، وهو لا يزال في سن الخامسة عشرة. تلقى تعليمه في جنيف ثم ألمانيا. وتخصص في دراسة اللسانيات، وكان أول بحثٍ له بعنوان (ملاحظات حول النظام البدائي للصوائت في اللغات الهندأوروبية). عمل محاضرًا في المدرسة العليا بباريس، من عام 1881م إلى 1891م. ثم عاد إلى جنيف، فتولى منصب الأستاذية فيها(28).
- أرسطو Aristotle (384 ـ 322ق.م)، فيلسوف يوناني, يعد واحدًا من أعظم الفلاسفة في جميع العصور. ينظر: منير البعلبكي، “قاموس المورد”. ط40، دار العلم للملايين، بيروت، 2006م، ص: (8). ↩︎
- ينظر: محمد غنيمي هلال، “النقد الأدبي الحديث”. دار نهضة مصر، القاهرة، 1997م، ص: (39). ↩︎
- ينظر: الولي محمد، “الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي”. ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990م، ص: (190). ↩︎
- مجدي وهبة، وكامل المهندس، “معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب”. مكتبة لبنان، بيروت، 1974م، ص: (252). ↩︎
- علي جعفر العلاق، “في حداثة النص الشعري”. ط1، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990م، ص: (56،55). ↩︎
- يونغ، كارل غوستاف Carl Gustacv Jung (1875ـــ1961): عالم نفس سويسري. يعتبر أحد أعظم علماء النفس في العصر الحديث. عُرف ببحوثه العميقة في حقل اللاوعي والميثولوجيا. كان أول من طَلَعَ على الناس بمفهوم الشخصية المنبسطة، والشخصية المنطوية وطوَّره. ينظر: منير البعلبكي، “معجم أعلام المورد”. المرجع السابق، ص: (510). ↩︎
- ينظر: الولي محمد، “الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي”. المرجع السابق، ص: (201،200). ↩︎
- ينظر: محمد مبارك، “دراسات نقدية في النظرية والتطبيق”. منشورات وزارة الأعلام، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1396هـ ــ 1976م، ص: (91). ↩︎
- ينظر: إريش فروم، “الحكايات والأساطير والأحلام”. صلاح حاتم (ترجمة). ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 1990م، ص: (18). ↩︎
- نفسه، ص: (20). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص: (22،21). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص: (19). ↩︎
- فيرلين، بولPaul Verlaine (1844ـــ1896): شاعر فرنسي. يعد أحد رواد المدرسة الرمزية symbolism. قال بأن الشعر يجب أن يكون موسيقى في المحل الأول وأن يجمع ما بين المبهم والدقيق. وقد جمعته بالشاعر الفرنسي آرتور رينبوRimbaud صداقة حميمة، فطوَّف معه في فرنسا وبلجيكا وإنكلترا، ولكن هذه الصداقة انتهت بإطلاق فيرلين النار على رينبو وإصابته بجراح، فحُكم عليه عام 1873 بالسجن سنتين اثنتين. من أشهر آثاره: “الفن الشعري” (عام 1874). ينظر: منير البعلبكي، “معجم أعلام المورد”، المرجع السابق، ص: (337). ↩︎
- مالارميه، إسطفان Srephane Mallarme (1842ـــ1898): شاعر فرنسي. يعتبر مؤسس المدرسة الرمزية symbolism وزعيمها. أجهد نفسه من أجل إبداع الشعر الصافي الموصدة أبوابه في وجه “جلافة” الحياة اليومية. وتحقيقًا لهذا الهدف، تعيّن عليه أن يبتكر أسلوبًا جديدًا، في استخدام اللغة؛ لأن المُطلق لا يمكن أن يُجَسَّد بلغة الصُّحف. ينظر: منير البعلبكي، “معجم أعلام المورد”. المرجع السابق، ص: (412). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. المرجع السابق، ص: (20،19). ↩︎
- ينظر: مصطفى السعدني، “التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل”. منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977م، ص: (130). ↩︎
- ينظر: محمد فتوح أحمد، “الرمز والرمزية في الشعر المعاصر”. ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978م، ص: (45). ↩︎
- ينظر: مصطفى السعدني، “التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل”. المرجع السابق، ص: (133). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. المرجع السابق، ص: (9). ↩︎
- نفسه، ص: (7). ↩︎
- نفسه، ص: (8،7). ↩︎
- نفسه، ص: (8). ↩︎
- علي شلش، “في عالم الشعر”. دار المعارف، القاهرة، د.ت، ص: (17). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. المرجع السابق، ص: (8). ↩︎
- ينظر: محمد فتوح أحمد، “الرمز والرمزية في الشعر المعاصر”. المرجع السابق، ص: (138). ↩︎
- علي جعفر العلاق، “في حداثة النص الشعري”. المرجع السابق، ص: (56،55). ↩︎
- ينظر: جفري سامسون، “مدارس اللسانيات، التسابق والتطور”. محمد زياد كبة (ترجمة). جامعة الملك سعود، الرياض، 1417هـ، ص: (26ـ27). ↩︎