أنساق الخرافة وإرهاصات المصير مقاربة نقدية في رواية رحلة مليون شلن خمسين دولارًا

أنساق الخرافة وإرهاصات المصير مقاربة نقدية في رواية “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”

أنساق الخرافة وإرهاصات المصير مقاربة نقدية في رواية “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”

د. عبده منصور المحمودي

حينما يضع الاشتغال السردي سياقات الثقافة الشعبية وتحولّات الأمكنة في صدارة اهتماماته التي يعمل على تسريدها، يتجلى الواقع بما فيه من أنساقٍ ذات مرجعيات أنثروبولوجية فاعلة في تشكيل نسيجه الاجتماعي. وهو الأمر الذي نال قدْرًا ملحوظًا من المعالجة السردية، في رواية الكاتبة اليمنية ليلى السياغي: “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”(1).

[1]: البُنية السردية
[1ــ1]: الفكرة السردية

تتمثّل فكرة العمل، في التداعيات المأساوية، التي تفضي إليها جولات الصراع ومساراته الهادفة إلى الاستحواذ على الثروة والسلطة. ولمعالجة هذه الفكرة، اتخذ العمل من تداعيات الصراع في الصومال موضوعًا لاشتغاله السردي. وبوجه خاص تلك التداعيات، التي انتظمت، في نسقٍ من محاولات النجاة العامة إلى أقرب مكان آمن. ولم يكن هذا المكان سوى اليمن؛ إذ تداخل مع الأمكنة الصومالية في تشكيل الحيز السردي المكاني، الذي استوعب سردية الانتصار للحياة. أمّا الحيّز السردي الزمني، فقد امتدّ من زمن اندلاع الصراع في الصومال، في أواخر القرن العشرين الفائت، حتى مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة.

[1ــ2]: الشخصيات والحيز السردي

الشخصية الرئيسة في هذا العمل هي شخصية الطفلة الصومالية “رحمة”. تلك، التي بدأت رحلتها في التشبث بأسباب الحياة، من تجاوزها للكارثة في إحدى جولات الصراع، التي نشبت في محيط منزلها؛ إذ “اختبأت في برميل قديم فارغ مرمي خلف البيت”(2). وعلى ذلك، فقد صُعقت بالكارثة، بعد انتهاء تلك المعركة؛ إذ لم تجد أحدًا من أفراد عائلتها باقيًا على قيد الحياة. لذلك؛ أشفقت عليها إحدى جاراتهم، وأخذتْها لتعيش معها.

لم تستقر حياة “رحمة” عند تلك (الجدة/ الجارة). وإنما تسارعت بها الأحداث، حتى وجدت نفسها تحت سيطرة “العم صالح العجوز”. في تلك المنطقة الصحراوية البعيدة، التي يتجمع فيها الفارون من جحيم الصراع، استعدادًا للرحيل إلى اليمن. فالرجل له علاقاتٌ ومصالحُ مع شبكةٍ، تعمل على تيسير هذه الرحلة لكل راغبٍ فيها، مقابل مبلغ “مليون شلن” صومالي، يساوي “خمسين دولارًا”. وهو المبلغ الذي كُثِّفتْ فيه فكرة هذا العمل، من خلال صياغة عنوان الرواية به: “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”.

  وصلت “رحمة” إلى اليمن، مع مجموعة كبيرة من الرجال والنساء. بينهم ذاك الشاب الصومالي “آر”. الذي لفتت “رحمة” انتباهه منذ وصولها إلى “العم صالح العجوز”. واستمرت علاقتها معه في رحلة النجاة إلى مدينة “عدن”. ثم افترقا، فنسجت أحداثٌ جديدة حياتها، تداخلت في صناعتها كثيرٌ من الشخصيات الثانوية. حتى جمع بينهما الحظ ثانية، فأخذها معه إلى مدينة “صنعاء”. ثم وجد نفسه مجبرًا على مغادرة اليمن، لتعيش “رحمة” وحيدة هناك، بتفاصيل حياةٍ غير بعيدة عن معاناة القهر والجوع والألم، التي كانت تعيشها في مدينة “عدن”، منذ أن وصلت إليها.

[2]: بُنية “الخرافة” وتسريد المصير

تتجلى الثقافة الشعبية الصومالية فاعلةً في تسريد أحداث العمل. ذلك؛ من خلال الحضور الفاعل لتلك الخرافة، التي يتشاءم فيها المجتمع الصومالي من كل مولود بعينين (زرقاوين/ بيضاوين). وهو ما حدث مع “رحمة”، منذ مولدها بهذا النوع من العيون؛ إذ تحدثت إليها تلك الجارة، التي تكفّلت بها، بالقول: “أنتِ نذير شؤم منذ ولادتكِ. يجب أن تواجهي الحياة أو سيكون الموت نصيبكِ. أهو الحظ أم قدركِ المشؤوم الذي تركك وحيدة بين كل هذا الموت … أتعرفين؟! سمّتكِ أمُّكِ رحمة لعل الأيام والأقدار تكون رؤوفة بك! يوم ولادتكِ اختفت الشمس وأظلمت الدنيا في عز الظهيرة. خرجتِ إلى الدنيا بعينين بيضاوين. أفزعتِ كل من رآك. كانتْ أمّكِ تخَافُ عليْكِ أكثر من خوفها على غيركِ من أخواتكِ. كانَت تخَاف من أن تشابه أقدارُكِ أقدارَ جدّك الذي تلبّسه الشيطان. كانَتْ تردد دائمًا: “لعل الأقدار تكون رحيمة بها من شر عينيها”(3).

رسخ كلام الجدة ــ هذا ــ في وعي “رحمة”، فكانت تستحضره ــ فيما بعد ــ كلما أظلمت الدينا في وجهها: “كانت تناديني بالساحرة، وأني نذير شؤم على القرية، جئت بالخراب من يوم مولدي، يوم حجب الظلام نور الشمس”(4). وفي سياق استحضارها لفكرة التشاؤم هذه، كانت ــ من حينٍ إلى آخر ــ تصل إلى نوعٍ من الإيمان بشقائها: “لقد كانوا على حق!! إني ملعونة، ولا أجلب سوى الشقاء!”(5).

[2ــ1]: من العيون يبدأ المصير

منذ اللحظة التي قررت فيها تلك الجدة رعاية “رحمة”، بدأت تستشرف مستقبل الطفلة؛ استئناسًا بلون عينيها المشؤوم. لقد قرأت فيهما ــ بلؤمٍ وخبث ــ سحرًا سيكون فاعلًا في تذليل صعوبات الحياة لصاحبته. لذلك؛ ذهبت تطمئنها: “تعالي يا زرقاء لا تخافي! … لكنك ساحرة وتستطيعين أن تفعلي كل شيء بهاتين العينين”(6). إذ يظهر ــ في هذه الإشارة ــ نسقٌ من المواربة، في الإفصاح عن نوعية تلك الحياة، التي ستستطيع “رحمة” تجاوزها باستخدام عينيها استخدامًا إغرائيًّا لطالبي المتعة.

بدأ قلقُ “رحمة” من حياتها القادمة، حينما داهم عددٌ من الرجال بيت الجدة، وأخذوها معهم. لم يكن لديها أدنى معرفة، إلى أين هم ذاهبون بها؛ فهي لم تتجاوز ــ بعدُ ـ مرحلة الطفولة. لذلك؛ كانت تتحدث إلى نفسها، متسائلةً: “ماذا تملك ابنة الثانية عشرة غير أساطير وحكايات والدتها، وزرقة عينيها، التي ورثتها عن جدها؟! لا تملك قوة سحرية تستخدمها، ولا تعاويذ تحميها، لا تعرف شيئًا عن عالم الرجال والنساء وجوع أجسادهم”(7).

[2ــ2]: مخيم الرحيل والجسد

أولئك الرجال، الذين أخذوا “رحمة” من منزل الجدة، وصلوا بها إلى مخيم الاستعداد للسفر إلى مدينة “عدن”. وفي ذاك المخيم، بدأ الشاب “آر” يتأملها، ويستشرف ما ستقودها إليه عيناها: “هذه العيون الزرقاء والبشرة اللامعة وطفولتها سترديها في عوالم العجوز الخفية، الذي يتربص بها ليقدمها سلعة لمن يدفع أكثر”(8). لقد بدأ “العم صالح”، في تنفيذ ما توجّس منه “آر”. واضطرت “رحمة” إلى التعاطي معه؛ لتجني ما تستطيع من المال، فعاشت تلك الأيام في ذاكرتها سنوات طوال. ومما توارد منها في استذكارها: “كانت عينا صالح العجوز تتجاهلان عن قصد ما يحدث، مقابل جزء مما أحصل عليه. كان يسمح لي بارتداء بعض الملابس التي أتلقاها والتي تبرز اكتناز مؤخرتي ولون عيني، حتى يزداد ثمن ما أقدمه من خدمات، فتزداد حصته هو أيضًا”(9).

[2ــ3]: “عدن” وعدستانِ مواربتان

فوجئت “رحمة”، بعد وصولها إلى مدينة “عدن”، بأن هذه المدينة ليست مدينة النجاة الموعودة، التي كانت تتخيّلها. إذ رحب بها شيخُ دينٍ، فعملت لديه خادمة في منزله. حتى انصدمت بحقارته؛ إذ انتهك شرفها، وأفرغ فيها رغبته. بعدها لم تستطع البقاء، فغادرتْ منزله. تشردتْ. وصلت بها الحال إلى سيدةٍ، تدير مكانًا خاصًّا بتقديم خدمات الجسد للراغبين. وأول ما لفت انتباه تلك السيدة في “رحمة” جسدها وعيناها، فأكدت ما فيهما من سحر: “أنت فتاة محظوظة، فجسدك الممشوق وبعينيك المتميزتين يمكنه أن يكسبك الملايين”(10).

حاولت “رحمة” أن تجد وسيلة للنجاة من شؤم عينيها، والحيلولة دون إغرائهما الذي يجلب لها المتاعب؛ فاستخدمت عدستين لاصقتين، كانت تضعهما في عينيها، منذ أن استقر بها المقام في منزل ذاك الشيخ المتديّن في “عدن”. وبعدما اقترفه من جُرمٍ، لم تستطع النجاة من مصيرها في منزل تلك السيدة. وهناك صار نزعُها لعدستي عينيها إيذانًا بتفعيل سحرهما، كلما وجّهتْها السيدة إلى استدراج نزيلِ متعةٍ، راغبٍ في ليلةٍ حمراء. ثم فكرت في محاولة التكسب لصالحها، وليس فقط لصالح تلك السيدة، فوضعت العدستين، وخرجت خفيةً. وحينما تيّسر لها أول موقفٍ لتحقيق ما خرجت لأجله، كان نزعُهما أوّلَ إجراءٍ، اتخذتْه لاستيعاب الموقف، في “الميكروباص” الذي أقلّها: “حين نزل آخر الركاب قامت بنزع العدستين اللتين تخفيان زرقة عينيها، فبادرها المحاسب بالحديث”(11).

اكتشفت السيدة طريق التكسّب الجديد الذي بدأتْه “رحمة” خارج سيطرتها؛ فطردتْها. ثم هيّأ لـ”رحمة” القدرُ اللقاء الثاني بذاك الشاب الصومالي “آر”، الذي لم تره منذ وصولهما إلى مدينة “عدن”. صادفتْه في شارع من شوارع المدينة، نادتْه، فتعرّف إليها، وعرض عليها السفر معه إلى مدينة “صنعاء”، فلم تفرط في ذلك.

[2ــ4]: “صنعاء” وارتباكُ عدستين       

بعد أيّام من وصول “رحمة” و”آر” إلى مدينة “صنعاء”، اضطر الشاب إلى السفر إلى بلده الصومال، بحثًا عن أخيه. وعاشت “رحمة” في “صنعاء”، على التسوّل. كانت تضع العدستين لتتقي بهما مضايقة الرجال والمعجبين بسحر عينيها. وفعلت الأمر نفسه طيلة تلك الفترة، التي عملت فيها خادمةً في منزل شيخٍ قبلي ثريّ؛ إذ أبقتها العدستان “في مجال الانتباه شهورًا طويلة، فأصبحت خادمة أو متسولة، لا أحد يلقي لها بالًا، بعيدة عن ذلك الاشتهاء الذي تراه في عيون الآخرين، وتلك الدهشة من اجتماع النقيضين: سواد بشرتها، وزرقة عينيها، وذلكَ السؤال العقيم عن لونهما. ربما أرادت أن تحتال على أقدارها، فأخفتهما، لعل سوء الطالع يغادرها!”(12).

[2ــ5]: الشقاءُ عدستان

في لحظة غفلةٍ من “رحمة”، لم تكن تضع العدستين في عينيها؛ ففوجئ ابن الشيخ الذي تعمل في منزله بسحر عينيها. اندفع نحوها، لم تستطع الإفلات منه إلّا بعد أن نال مبتغاه. أعادت العدستين إلى عينيها، لكنهما كانتا قد فقدتا قدرتهما على حمايتها؛ إذ تمادى الولد في إجبارها على التداعي مع رغباته. ثم انكشف للعائلة غيابُها عن المنزل، فسخطت عليها. طردتْها، وسُرق منها ما كانت قد جمعته من مستحقات خدمتها لديهم؛ إذ لم تُعْطَ سوى “خمسين دولارًا”.

وبهذا المبلغ ــ تحديدًا ــ أُثِيْرتْ هواجسُ شؤمها؛ إذ فكرت في التلازم بينه وشؤم عينيها، في كل محطة من محطات رحلتها المعذبة: “لقد أيقنتْ أن الخمسين دولارًا هي رفيقة دربها، وكأنها مصابة بها، وبعينيها الزرقاوين. لعنة الخمسين المبتورة؛ الخمسين دولارًا هنا، والمليون شلن هناك”(13). وامتد يقينها ــ هذا ــ إلى ما سبق أن وصلت إليه، من قناعةٍ بواقعية ذاك التشاؤم القديم: “انكمشت على فراشها، تعانق وحدتها وتفكر في لعنة عينيها الزرقاوين. حسبتْها في البداية خرافة من الخرافات الكثيرة التي يزخر بها الصومال؛ فما ذنبها؟! وما شأن عينيها بكل تلك الكوارث والفظائع التي هبطت على البلاد وعلى أسرتها وحياتها منذ فتحت عينيها البيضاوين؟! لقد اقتنعت أخيرًا بأنها فعلًا وريثة جدّها الذي تلبّسه الشيطان، وأن زرقة عينيها تعويذة موت وفراق أبدية، ووقعت اللعنة القديمة، ولن تعرف السبيل إلى فكها!” (14).

لقد اختطت عينا “رحمة” مسارات حياتها جسدًا لمتعة مرتقبة؛ إذ لا أحد استطاع اكتشاف جمال عينيها. وكل من كان يراها سرعان ما يُعجب بسحر عينيها، فينجذب إليهما، ثم ينجذب من خلالهما إلى جسدها. وحده “آر” هو مَنْ لاحظ فيهما معنىً جماليًّا ينسجه البكاء، فهمس لها بذلك، في لحظة حميمة: “أتعرفين؟! حين تبكين يتغيّر لون عينيكِ ليشبه لون البحر في يومٍ غائم”(15).

  1. ليلى السياغي، “رحلة مليون شلن خمسين دولارًا”. ط1، دار عناوين بوكس، القاهرة، 2022. ↩︎
  2. نفسه، ص11. ↩︎
  3. نفسه، ص20. ↩︎
  4. نفسه، ص204. ↩︎
  5. نفسه، ص117. ↩︎
  6. نفسه، ص20. ↩︎
  7. نفسه، ص42. ↩︎
  8. نفسه، ص16. ↩︎
  9. نفسه، ص123،122. ↩︎
  10. نفسه، ص145. ↩︎
  11. نفسه، ص175. ↩︎
  12. نفسه، ص237. ↩︎
  13. نفسه، ص243. ↩︎
  14. نفسه، ص219. ↩︎
  15. نفسه، ص209،208. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *