الحكاية الشعبية في الشعر اليمني المعاصر “الدودحية” و”دون كيشوت” نموذجًا
ضِمْن سياقات التوظيف الشعري للموروثات الثقافية ــ المحليّة والعالميّة ــ يأتي ما يتعلق منها بتوظيف الحكاية الشعبية في الشعر اليمني المعاصر. من ذلك، ما يتجلّى في استئناس التجربة الشعرية اليمنية المعاصرة، بالحكاية الشعبية المحليّة، المعروفة بحكاية “الدودحية”. والحكاية الشعبية العالمية، حكاية “دون كيشوت“.
[1ــ1]: حكاية “الدودحية”
“الدودحيّة”: أغنيّةٌ شعبية، مُستوحاة من قصةٍ لفتاة يمنية، يرجع تاريخها، إلى ثلاثينيّات القرن الماضي. وقد عكست ــ تلك القصة والحكاية ــ جانبًا مهمًّا، من الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية، في تلك الحقبة. كما أن النسبة في هذه الحكاية “الدودحية” تحيل على اسم عائلة تلك الفتاة، التي تنتمي إلى عليّة القوم، ذوي الوجاهة والثراء.
وقعت تلك الفتاة، في علاقة حبٍّ مع ابن عمّها. رغبا في الزواج، لكن حالت الظروف دون ذلك. لم يستطيعا الصمود أمام عذاب الحرمان ولوعة الرغبة، فوقعا في المحظور.
انكشف سرّ علاقتهما، وذاع بين الناس، فوجد النظام الرسمي نفسه أمام خيارين: إمّا أن يتجاهل القضية، فيكرس في أذهان عامة الشعب أنه لا يطبق الشرع إلاَّ على المساكين والضعفاء. وإمّا أن يفرض هيبته، فيطبق القانون النافذ على “الدودحية” وابن عمها، ولا يرضخ لانتمائهما، إلى طبقة اجتماعية عُليا. وهذا ما تم بالفعل، إذ حُكم عليهما بالتعزير(1).
[1ــ2]: أغاني “الدودحية”
تم تنفيذ الحكم على الفتاة وابن عمها، فكان لذلك تأثيره المباشر في انتشار خبر الفضيحة في أنحاء اليمن. ومن ثم تبلور هذا الانتشار في أُغنيّةٍ، عُرفت باسم “أغنية الدودحية”. تلك الأغنية، التي تبدأ بمخاطبة الفتاة، والحال التي وصلت إليها قصتُها:
يا دَوْدَحيَةْ ويا غضن القنا*** قد دردحوا بش على وادي بنا
أمَانْ يا نازلَ الوادي أمان
بعدها، اتّسع هذا السياق في الثقافة الاجتماعية، واستمـد الـغناء الشـعبـي هــذه الحــادثـة، وألّـف حـولـها أغنـيات شعبيـة مختـلفة، أُطلق عليها “أغنيّات الدودحية”. وقد شكّلت هذه الأغنيّات نسقًا خاصًّا من الغناء اليمني(2)، نال شـهـرة واسعة واهتمامًا مُتجدِّدًا.
لم يكن الاهتمام بهذه الأغنيّات مقصورًا على المستوى المحليّ فحسب، وإنما امتد إلى المستوى العالمي(3). فقد احتفظ بها اليمنيون اليهود الذين غادروا اليمن، عام 1948م، ضمن ما حرصوا على الاحتفاظ به، من أصولهم اليمنية الثقافية والإبداعية. كما تولّى الجيل الثاني منهم إكمال المهمة، فأعاد عدد من الفنانين اليهود إنتاج الفنون الثقافية الشعبية اليمنية، في قوالب فنية حديثة. من أشهرهم المطربة عفراء حسن هزاع، المولودة لأبوين يمنيين، في حي فقير بتل أبيب، عام 1958م.
وقد لاقت تلك الأعمال رواجًا كبيرًا في إسرائيل وأوروبا وأميركا، وحصل عددٌ منها على جوائز دولية. من مثل أغنية “الدودحية” ــ هذه ــ التي قدّمتها الفنانة عفراء بقالب فنيٍّ غنائيٍّ راقٍ، فنالت عنها جائزة “غرامي”. كما نالت الفنانة نفسها الجائزة الأولى في مهرجان “اليوروفيجين” بألمانيا، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
[1ــ3ــ1]: “الدودحية” في الشعر اليمني المعاصر
يأتي الاستئناس الإبداعي بحكاية “الدودحية”، ضمن النسق الرمزي، الذي تجسّدت من خلاله جماليات الحكاية الشعبية في الشعر اليمني المعاصر. من ذلك، استيحاؤها الرمزي، في قول الشاعر عبد الله البردّوني(4):
يا (هدهدُ) اليومَ، الحمولةُ *** فوقَ طاقتِكَ القويّةْ
هذي حقائبُكَ الكِبارُ *** تَنِمُّ عن خُبْثِ الطَّوِيّةْ
هل جِئتَ من سبأٍ؟ وكيـ *** ــفَ رأيتَهُ؟ .. أضحى سَبِيَّةْ
ولّى، عليهِ عباءةٌ … *** مِنْ أُغْنياتِ الدَّودَحِيَّةْ
في هذه الأبيات، استثمر الشاعر حكاية “الدودحية”، في نسيج الصياغة الشعرية. الذي قام على المزج بين رمزيتين اثنتين، تنتميان إلى الموروث الثقافي اليمني الشعبي والتاريخي. الأولى منهما رمزية هذه الحكاية (الدودحية)، والثانية رمزية “الهدهد”.
[1ــ3ــ2]: ثلاثية الرمزية: (سبأ/ الهدهد/ الدودحيّة)
كشفت الصياغة الشعرية ــ في نسقها الحواريّ مع “الهدهد” ــ عن حال اليمن المعاصر، الذي أحال عليه الرمز “سبأ”. ثم ارتبطت هذه الرمزية برمزية “الهدهد”، الذي يُفاجئه الخطاب الشعري، بالاستفسار عمّا جاء به، من نبأ عن البلد المثخن بمآسيه.
وفي هذا السياق المزجي بين الرمزيّتين (سبأ/ والهدهد)، تنمو رمزية التماهي، التي تصل إلى رمزية هذه الحكاية الشعبية “الدودحية”، وفاعلية استيعابها لواقع اليمن البائس. بعد أن (أضحى سبية، وولى عليه عباءة من أغنيات الدودحية).
وهنا يُلاحظ أن التوظيف الرمزي لهذه الحكاية، قد اتّجه نحو مصير الحكاية أكثر من اتجاهه نحو الحكاية نفسها؛ إذ توالدت الحكاية أغنياتٍ شعبية، احتفظت بمضمون اللمز الاجتماعي الذي وُسِمتْ به. كما اتّسعت في وظيفتها وإيحاءاتها، حتى غدت هذه الأغنيات رمزًا شعبيًّا مشحونًا بحمولة دلالية، تكشف عن الفساد الاجتماعي المتوغل في السلطة.
لذلك، صارت أغنيات الدودحية متنفسًا غنائيًّا رحبًا، لا لذات الحادث، وإنما لعقم الفترة من الأحداث الهزازة(5). كما أن هذه الأغنيات، لم تتوخ “الدودحية” كقضية، وإنما فجرت الكظوم النفسية لدى عامة الشعب(6). فلو أنها حدثت في واحد من بيوت الطبقة الدنيا، لكانت من الأمور العادية، وَلَما شغلت الشعراء والمغنيين والباحثين، لكنها إرهاص اجتماعي ينبئ عن تغييرات منتظرة(7).
[2ــ1]: حكاية “دون كيشوت”
من سياقات الرمزية الشعرية في القصيدة اليمنية المعاصرة، ما يعود إلى الاستئناس بالحكاية الشعبية المتجاوزة للجغرافيا، التحامًا بالموروث الشعبي الإنساني. من ذلك، توظيف الحكاية الشعبية العالمية “دون كيشوت”، في تجارب الشعر اليمني المعاصر.
يشير مضمون هذه الحكاية، إلى ارتباطها برجل فقير، اسمه (دون كيشوت). كان طيّب القلب، اختل تفكيره بعد أن قرأ قصصًا عن حياة الفرسان ومغامراتهم، فخُيّل إليه أنه مدعو مثلهم إلى مساعدة المظلومين، ونصرة الحق. وتحت تأثير تلك القراءة فيه، لبس درعًا قديمة، وامتطى جوادًا نحيلًا، واتخذ امرأة من قرية مجاورة اسمها (دولشينا)؛ لتكون سيدة قلبه ومصدر إلهامه. كما اختار رفيقًا اسمه (سانشو)، جمع بين السذاجة والدهاء، أغراه (دون كيشوت)، بما وعده به من أنه سيجعله حاكمًا لإحدى الجزر.
بدأ الرجل (دون كيشوت) في ارتحاله. وكان ــ أثناء ذلك ــ يخيّل لعقله المختل أن الأشياء الماثلة أمامه أشباح مخيفة، أو فرسان أشرار يجب قتلهم. وهنا، يرمي نفسه في مغامرات، تنتهي بعواقب وخيمة عليه.
في نهاية المطاف، يشفق عليه أحد أصدقائه، ويواجهه في شكل فارس، ينازله، فيتغلب عليه، ويطلب منه أن يمتنع مدة سنة عن مغامراته. عندئذٍ قرر (دون كيشوت) أن يعيش حياة الرعاة، غير أنه أُصيب بمرض في طريق عودته إلى قريته، ومات(8).
[2ــ2ــ1]: حكاية “دون كيشوت” في الشعر اليمني المعاصر
وظّفت الشعرية اليمنية المعاصرة حكاية “دون كيشوت”، في سياقاتها الرمزية. من ذلك، ما نجده في نصٍّ للشاعر محمد حسين هيثم، عنْوَنَه الشاعر بهذه الحكاية نفسها “دون كيشوت”، ومما فيه قوله:
“بطواحينَ أخيرةْ
بهلاكاتٍ يانعةٍ
بسيوفٍ من خشبٍ
وبظلِّ حصانْ
سأسمِّي النجمةَ “دُلسينا”
وسأعرج في الأحزانْ”(9).
لم يكن (دون كيشوت) ــ في هذا النص ــ سوى رمز للمثقف والمبدع، الذي يقضي حياته قراءةً وتثَقُّفًا. وكأن الشاعر هنا “يتحدث عن الحروب الثقافية، أحلام المثقفين وأوهامهم، بُعْدِهم عن الواقع، عدم جدوى الكتابة أو الثقافة وضعف دورها الاجتماعي السياسي”(10).
لقد وصل المثقف والمبدع ــ من خلال قراءاته وثقافته ــ إلى إحساس شبيه بالإحساس، الذي وصلت إليه شخصية الحكاية. بعد أن سلك المسلك نفسه، الذي سلكته تلك الشخصية. وهو مسلكٌ ماثلٌ في خوض معارك وهمية غير مجدية. لاسيما معركة “طواحين الهواء”، أشهر المعارك التي عُرف بها (دون كيشوت). تلك المعركة، التي رأى فيها طواحين الهواء العملاقة، تثور وتدور في الفضاء. قام بشنّ هجومه عليها، وانطلق يحاربها على أنها كما توهّم شياطين ذات أذرع، ولا بد من أن يخلص العالم من شرها. لكن كانت العاقبة غير موفقة؛ إذ هزمتْه تلك الطواحين، وكادت أن تحطم عظامه(11).
[2ــ2ــ2]: معركة وهمية ونتيجة واحدة
لقد كانت هذه المعركة الوهمية ــ في هذه السطور الشعرية ــ رمزًا لذاك الصراع، الذي يخوضه المثقفون والمبدعون، في مجتمعٍ متخلفٍ، أوصلهم في معركتهم إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها (دون كيشوت). وهي نتيجة، تقوم على واحدية الشعور بالهزيمة والندم والحزن والأسف على ما فات. كما أنها نتيجة متشكّلة بإحباطات الواقع البائس، الذي يستميت في محاربة مثقفيه ومبدعيه. بما لهذه الإحباطات من تأثير مباشرٍ، في ارتفاع نبرة التشاؤم، التي قامت عليها رمزية التعبير الشعري، في هذا النص.
يظهر ــ في هذه المساحة الرمزية ــ نوعٌ من التساوي في المقدمات بين طرفيها (الرمز/ والمرموز إليه). كما يظهر التساوي بينهما في النتائج، التي غابت فيها واقعية الاختلاف بينهما. ذلك، من خلال التمايُز بين نتائج طرفي البُنية الرمزية (شخصية الحكاية/ المثقف). فإن كان الوهم هو النتيجة التي وصل إليها بطل هذه الحكاية الشعبية، فإن الأمر مختلف فيما يصل إليه المثقف من نتائج؛ إذ يحقق بعضًا ممّا يسعى إليه من غايات. وعلى ذلك، فإن التغييب القصدي للتمايز بينهما في النتائج، قد مثّل موجةً من الحث المستفز لكينونة الذات المبدعة والمثقفة، ودافعًا يسير بها، نحو مزيدٍ من جولات المواجهة مع الواقع؛ سعيًا منها إلى إحداث هزّات التغيير المنشود، في بنيته التكوينية البائسة.
- ينظر: عبد الله البردوني، “فنون الأدب الشعبي في اليمن”. دار الفكر، ط3، دمشق، 1995م، ص: (308ـــ315). ↩︎
- نفسه، ص: (315،314). ↩︎
- ينظر: عباس عبد الله السيد، “”الدودحية” .. حكاية يمنية استوطنت فلسطين وأطربت العالم”. صحيفة الثقافية، تعز، العدد: (454)، 12/10/2008م، ص: (25). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ط1، صنعاء، 1423هـ ـ 2002، جـ1/ ص: (712،711). ↩︎
- ينظر: عبد الله البردوني، “فنون الأدب الشعبي في اليمن”. المرجع السابق، ص: (309). ↩︎
- نفسه، ص: (314). ↩︎
- نفسه، ص: (315). ↩︎
- الأزرق بن علو، “الرحلة، أساطير، تاريخ، أدب، حكايات”. دار قباء، القاهرة، 2001، ص: (168). ↩︎
- محمد حسين هيثم، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (236). ↩︎
- أحمد الطرس العرامي، “الكتابة بوصفها حالة دونكيشوتية: قراءة في نصين لهيثم”. ملحق صحيفة الثورة (الثورة الثقافي)، صنعاء، العدد: (16231)، 20/4/2009م، ص: (4). ↩︎
- ينظر: الأزرق بن علو، “الرحلة”، المرجع السابق، ص: (168). ↩︎