"الخيْبة" في المحكية اليمنية انحياز لتماهي الهيئات في الصفات

“الخيْبة” في المحكية اليمنية انحياز لتماهي الهيئات في الصفات

“الخيْبة” في المحكية اليمنية انحياز لتماهي الهيئات في الصفات      

د. عبده منصور المحمودي

للمحكيةِ اليمنية خصائصُها اللغويةُ غيرُ المرتبطةِ بالفصحى؛ فإن وجدنا ــ في بعضٍ من هذه الخصائص ــ خيطًا رفيعًا يعود بها إلى الفصحى، فإن كثيرًا منها ما يغيب عنه هذا الخيط.

ومن نماذج المحكية، التي تتجلّى فيها تلك العلاقة الرفيعة بين اللغة العربية الفصحى والمحكية اليمنية، لفظ “الخيْبة”، بسياقاته اللغوية والدلالية، وإحالاته في المتداول الشفاهي والثقافة الشعبية.

[1]: السياق اللغوي والدلالي     
[1ــ1]: “الخيبة” بين الفصحى والمحكية

يكتنز لفظ “الخيبة” خصائص محكية بحتة؛ فهو في المحكية اليمنية: “صفةٌ لكل ما ومَنْ ليس بجيِّد”(1)، وهي دلالةٌ لا وجود لها في المعجم الفصيح. إلا فيما يمكننا التماسُه من خيطٍ رفيعٍ جدًّا، يصلها بالجذر الفصيح؛ ففي معجمه: “خابَ ـ خَيْبَةً: حُرِمَ ومُنع. وــ لم يَنَلْ ما طَلَبَ. ويقال: خابَ سعيُه. وخاب أمله. و ــ خَسِرَ. فهو خائب”(2).

وبذلك؛ فإن المقاربة التوصيفية لهذا الارتباط بين المحكية والفصحى ــ في هذا اللفظ ــ تقوم على واحديةِ المعنى السلبي. بِسِعَتِهِ الدلاليةِ، التي ينضوي فيها الحرمان والخسران: حرمان الشيء من صفة الجودة، وخسارته الاتصاف بها.

[1ــ2]: “الخيبة” تذكيرًا وتأنيثًا

لا يبدو أن التداول الشفاهي للفظ “الخيبة” قد حسم أمرَ صياغتهِ بين التأنيث والتذكير. إذ نجده في مساحاتٍ جغرافيةٍ متداولًا بصيغةِ التأنيث “خيبة” للمؤنث والمذكر على حدٍّ سواء. وفي مساحاتٍ جغرافيةٍ نجده متداولًا بصيغة التذكير “خيبْ” للمؤنث والمذكر. كما نجده متجانسَ التداول مع ما يدل عليه في مساحاتٍ جغرافية أخرى؛ إذ يأتي في صيغة المؤنث للمؤنث، وفي صيغة المذكر للمذكر.

[1ــ3]: “الخيْبة” ودلالات الرداءة والقبح

يتموضع لفظُ “الخيبة”، في التداول الشفاهي تموضعًا دلاليًّا، تكثرُ فيهِ الإحالةُ بهِ على الرداءة في الأشياء، وعلى الدمامة والقبح في الإنسان. وواضحٌ أنها غلبةٌ دلاليةٌ على الهيئة، والشكل، والهيكل، والمظهر الخارجي. كما أن الإحالة بهذا اللفظ متسمةٌ بحضورٍ في التداول الشفاهي ــ وإن كان أقل من سابقه ــ تذهب فيه الإحالة بهذا اللفظ على الجوهر، والمعاني الداخلية، والصفات القيمية.

وكما هي الحال في الجغرافيا التداولية اليمنية للفظ “الخيبة”، يأتي تداولها الشفاهي في المديريتين المتجاورتين: “ماوية” من محافظة تعز، و”الحشاء” من محافظة الضالع، وفي أجزاء من المديريات المتماسة مع هاتين المديرتين.

الذي حتم الإشارة إلى هذه الجغرافيا التداولية الجزئية، هو اتساع دلالة لفظ “الخيبة” فيها. فإلى نسقية إحالاته مع إحالات جغرافيا التداول اليمنية، يضيف في هذه الجغرافيا التداولية الخاصة ــ بصيغةِ الجمع فيه لا المفرد ــ معنىً جديدًا، متعلقًا بمرضٍ خبيث يصيب الأطراف، هو مرض “الغرغرينا”. بمضامينه الدالة على ماهيته الخطرة، التي يتسبب فيها بموتِ أنسجةِ الجسم، نتيجةً لنقصِ تدفق الدم إليها، أو لوجود عدوى بكتيرية، مترافقًا مع ظهور قيحٍ وبثورٍ في المنطقة المصابة. وهذه النوعية من المرض، التي من أعراضها التقيح والبثور، هي النوعية التي يحيل عليها لفظُ “الخيَب”، في هذه المساحة من جغرافية التداول. فتسمعُ فيها مَنْ يتحدّثُ عن إصابةِ فلانٍ بمرضٍ مِنْ “الخِيَبْ”. ويكون المعنى في الغالب هو الإصابة بمرض “الغرغرينا”، أو بمرضٍ متوافرةٌ فيهِ مؤهلاتُ الخطورةِ، وصعوبةُ الشفاء منه.

[2]: “الخيبة” في المتداول الشفاهي

من أهم المقولات الشفاهية المتداولة في المجتمع اليمني، التي تتضمّن لفظ “الخيبة”، هذه المقولة المتوارثة في الثقافة الشعبية اليمنية:

“الْخْيْبِهْ لَمَا عِمِلْشْ مُنْكرْ بُمُّهْ شِذْكَرْ”

[2ــ1]: خصائص اللغة المحكية في المقولة

بهذه الصياغة اللغوية المحكية، تتردد هذه المقولة في الجغرافيا التداولية المشار إليها سلفًا (ماوية/ والحشاء). وصياغتها اللغوية ــ هذه ــ صياغةٌ محكيةٌ، متسقةٌ مع الخصائصِ اللغوية للمحكية في جغرافية التداول.

[2ــ1ــ1]: الوقف بالسكون و(أل التعريف)

من أبرز خصائص تلك المحكية، خاصية ملازمة السكون لأواخر الكلمات. إذ أن كل كلمةٍ من كلمات المقولة واضحٌ فيها الوقفُ بالسكون على آخر صوتٍ فيها. كما يظهر من خصائص هذه المحكية معاملتها لـ (أل) التعريف القمرية، معاملة (أل) التعريف الشمسية، في كيفية النطق بها، فهي غير منطوقة في جغرافية التداول هذه.

[2ــ1ــ2]: “لَمَا عِمِلْشْ”: “إن لم يعمل”

من تلك الخصائص ــ أيضًا ــ ما في التركيب: “لَمَا عِمِلْشْ”، الذي يحمل معنى: “إنْ لمْ يعمل”. إذ حلتْ فيه حركة “الكسرة” محل حركة “الفتحة” على صوت “العين” منه، أول أصوات الفعل “عَمِل”. وهذا التركيب واحدٌ من أنماط النفي المزدوج بـ”الشين” في المحكية اليمنية(3).

[2ــ1ــ3]: “بُمُّهْ”: “بماذا”

أما التركيب: “بُمُّهْ”، فقد حمل المعنى الذي يحمله التركيب الفصيح “بماذا؟”. وهو تركيبٌ مختلفٌ عن التركيب: “مِهْ”، المنتشر تداوله في محكية صنعاء الممتدة في كثيرٍ من المحافظات المحيطة بها، بل وبعض المحافظات غير المحيطة بها. وجوهرُ الاختلاف بين المحكيتين، يظهر في حركة صوت “الميم” في كُلٍّ منهما. إذ يرد صوت “الميم” من هذا التركيب، في هذه المحكية الواسعة ــ محكية صنعاء ــ  مُحَرَّكًا بحركة “الكسرة”. بينما يرد محركًا بحركة “الضمة”، في محكية الجغرافيا التداولية لهذه المقولة.

لقد حمل هذا التركيب في المحكية معنى اسم الاستفهام “ماذا؟”. وهو ما يغري بتأويل مصدره في الفصحى. إذ يمكن أن يستند هذا التأويل، إلى أن المحكية قد اكتفت بصوت “الميم”، من المصدر الفصيح “ماذا”. وأنها تخلتْ عن غيره من الأصوات: “ـ..ـا.ذ.ا”، واستبدلت بها صوت “الهاء” الساكن.

لكن مثل هذا التأويل فيه نوعٌ من التجيير. وإلى شيءٍ من ذلك، قد تطرق الدكتور خالد العبسي(4)؛ إذ تتجلى رؤيته في أن القول بمصدرية الفصحى لصيغةٍ محكيةٍ يمنيةٍ معاصرةٍ، قولٌ يقوم على افتراضيةِ أن الفصحى كانت حالةً تاريخيةً للمحكية اليمنية. وأن هذا غير متسق مع واقع الأمر القائم على انتماء المحكية اليمنية بتاريخها إلى جنوب الجزيرة العربية (العربية الجنوبية). أما الفصحى، فشأنها مختلف. فمن جهةٍ قد اخْتُلف في أصلها، أهي لغة أدبية مشتركة، أو هي لغة قريش، وثمة أقوال أخرى في تشكّلها. ومن جهة أخرى تنتمي ــ بالجملة ــ إلى مناطق وسط الجزيرة العربية (العربية الشمالية).

[2ــ1ــ4]: “شِذْكَرْ”: سيذكر                            

جاء التركيب: “شِذْكَرْ” ــ في هذه المقولة ــ صياغةً تعبيريةً عن المستقبل. وجاءت فيه “الشين” مضطلعة بما تضطلع به “السين”، في الدلالة على المستقبل حينما تسبق الفعل المضارع. واستعمالُ “الشين” للاستقبالِ من الخصائص التي تفردت بها المحكية اليمنية، بحسب ما أشار إليه الأستاذ الدكتور عباس السوسوة: “الشين تقابل السين في الفصيح، وهو تقابلٌ معروفٌ بين لغات الفصيلة السامية. وحسب علمي المتواضع ومعرفتي المحدودة باللهجات العربية الحديثة؛ لم أعرف محكيةً عربيةً ــ خارج نطاق اليمن ــ تستعمل الشين أو السين للدلالة على وقوع الحدث في المستقبل”(5).

[2ــ2]: الإحالة الدلالية في المقولة

تتردد هذه المقولة ــ في مساحة التداول ــ تعليقًا على خطأ، اقترفه شخصٌ مجبولٌ على اقتراف الأخطاء. وقد صَنَّفَهُ تكرارُ اقترافهِ للأخطاء ضمنَ الفئة الاجتماعية، التي يُصْطَلَحُ على مَنْ فيها بـ “الخيبة”. ويبدو تكريسٌ غيرُ واعٍ، لفكرة الملازمة بين المعتاد على اقتراف الأخطاء وصفريةِ الإيجابية فيه. وتحيل صفريةُ الإيجابية ــ هنا ــ على افتقار ذاك الشخص، لما يمكن أن يجعل اسمه متداولًا على الألسنة.

والتكريسُ غير الواعي نفسه، هو محورُ الفاعليةِ في تأطير الحديث الاجتماعي عن شخصٍ ما، في دائرتين اثنتين متناقضتين: الأولى الدائرة الإيجابية، وهي التي يتسم أصحابها بالإيجابية في سلوكهم وأفعالهم، وفيما يَلْمَسُهُ الناسُ فيهم، من خير ونفع، فتتمظهر هذه الإيجابية في صورةٍ كلاميةٍ، مركزُها صاحب هذه الإيجابية، فيحظى بالسمعة الطيبة والذكر الحسن.

أما الدائرة الأخرى فهي تلك الدائرة السلبية، التي تضم المُتَّسِمين بصفرية الإيجابية. وهنا ليس أمام الفرد فيها ما يمنحه ميزةَ نقيضه. لذلك؛ يبقى في هامش مجتمعه. وهو الأمر الذي يدفعه إلى اتخاذ مسلكٍ، يستطيع من خلاله الوصول إلى ألسنة الناس، في صورةٍ كلاميةٍ يكون هو موضوعها، وإن بسلبيةِ صفاته وأفعاله.

ويظهرُ في المقولةِ نوعٌ من تكريس الذهنية الاجتماعية للتماهي بين الشكل والجوهر، بين المظهر الخارجي والكينونة الداخلية. فالذي لم ينلْ مستوىً مقبولًا ــ مما يُعِدُّه المحيطُ الاجتماعي مستوىً متجانسَ الأشكال والهيئات مع مقاييسه الجمالية ــ يندرج في الرؤية العامة، ضمن المجموعة غير المتجانسة مع المقاييس القيمية في محيطها الاجتماعي. لذلك؛ تطلُّ هذه المقولةُ، في أول موقفٍ، يتطابقُ فيهِ شكلُ شخصٍ ما مع جوهره، تطابقًا في سلبيته مضمونًا وهيكلًا. سلبيته تلك، غير المتوائمة مع المعايير الاجتماعية، التي تُشَكِّلُ منظومةً إنسانيةً، يعيش فيها صاحبُ الشخصيةِ المجبولةِ على صفريةِ الإيجابية، في جوانبها الداخلية والخارجية، وفي سماتها الشكلية والجوهرية.

  1. مطهر علي الإرياني، “المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية”، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ ــ 1996م، ص: (251). ↩︎
  2. مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 1425هـ ــ 2004م. ص: (264). ↩︎
  3. عباس علي السوسوة، “قَد اليمنية، أبحاثٌ في الأبنية والنحو والاقتراض المعجمي”، مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، صنعاء، 1433هـ ــ 2012م، ص: (105). ↩︎
  4. خالد العبسي، “شرح المشعططات السبع” كتاب أدب وطرفة في الفضاء اليمني”، مجلة المدنية، 23 يونيو 2020م: ↩︎
  5. عباس علي السوسوة، “قد اليمنية أبحاثٌ في الأبنية والنحو والاقتراض المعجمي”، مرجع سابق، ص: (89). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *