الرمزية والحياة الموازية في رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"

الرمزية والحياة الموازية في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد”

الرمزية والحياة الموازية في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد”

د. عبده منصور المحمودي

من خلال الشخصية الرئيسة “ميلاد”، قدّم الكاتب الليبي محمد النعاس في روايته “خبز على طاولة الخال ميلاد”(1)، نموذجًا إنسانيًّا مغايرًا لمفاهيم الرجولة السائدة في مجتمعه القروي. تلك المفاهيم، التي لم يستطع أن يتوافق معها، بعد عددٍ من محاولاتهِ الفاشلة. حتى قرّر التخلِّي عنها، كما قرر أن يعيش حياته على حقيقتها. وقد ساندته في ذلك زوجته “زينب”. إذ اتَّسَقتْ حياتُه مع حقيقتها هي الأخرى. فتولّت  هي العمل خارج المنزل. وتكفّل هو بالعمل داخله، غيرَ مُدركٍ أنه قد صار بحياته ــ هذه ــ هدفًا للسخرية الاجتماعية، إلا بعدما كاشَفَه ابنُ عمه بذلك.

كان النصف الثاني من القرن العشرين حيّزًا زمنيًّا لهذا العمل. الذي اتخذ من ليبيا حيّزًا مكانيًّا تجاوزتْه السرديةُ، حينما شملت المجتمعات العربية كلها. ذلك؛ واستوعبتْ إشكالياتٍ (جُندرية)، ضاقت بها الحياةُ الاجتماعيةُ؛ فتخلّقت حياةً موازية. من خلال رمزيةِ الخبزِ المحيلةِ عليها، والثقافةِ الشعبيةِ الفاعلةِ في نسجِ تفاصيلها.

[1]: الخبزُ والحياةُ الموازية
[1ــ1]: صناعة الخبز وحياة “ميلاد”

مثّلَ الخبز ــ بتفاصيل العمل عليه ــ مضمارًا احتوى حياة “ميلاد”. بعدما وجَدَ أنّ في صناعته ما يُغني عن تلك الحياةِ غير المتصالحةِ مع شخصيته، إن لم يكن بديلًا منها: “أحيانًا أفكّرُ أنّ مسألةَ صناعةِ الخبزِ تشبهُ الحياة، حياتي على أقلّ تقديرٍ”(2). وبالخبز امتزجت شخصية “ميلاد”، فيقول: “إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شهوتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي، وجفافي في رغيفي الذي يتأثّر شكله بتلك المشاعر”(3).

[1ــ2]: تسريد صناعة الخبز

اتِّساقًا مع دورها الفاعل في استيعابِ حياة “ميلاد” البديلة، نالت صناعةُ الخبز قسطًا وافرًا من الحضورِ الحيوي في الاشتغالِ السردي. إذ استقامت بها صياغةُ العنوان. وبها أثّث العملُ تفاصيلَه. بما في ذلك، ما تضمَّنهُ من أسماءِ الخبز وأنواعه. من مثل: (الشيباتا، باقيت، توست، رغائف الخبز الصقلي بالسمسم، البريوش، الكرواسون، البيتزا، والبيقلز الأمريكي،…).

لقد حرصتْ الكتابةُ السردية، على أن يكون في الخبز ــ وعمليات صناعته ومحطاتها ــ مستوىً متقدمٌ من الرمزيةِ إلى كثيرٍ من مظاهر الحياة الإنسانية. ذلك؛ لأن “الخبز في مرحلة العجين كائنٌ حيٌّ مثلنا، يتنفّس، يتحرّك …”(4). وتحملُ مكوناتُ الخبز ــ متمازجةً: الدقيق، الخميرة، الماء، الملح، الحبّ، الهواء، والوقت ــ سعةَ الإحالةِ بها على مكوناتِ الحياة المختلفة، المادية منها والمعنوية.

كما أن مُكَوِّن الوقتِ قاسمٌ مشتركٌ في الوصولِ بعملياتِ التفاعلِ بين هذه المكوناتِ إلى نتيجةٍ واحدةٍ، في (الخبز/ والإنسان). فالوقت هو المُكَوّنُ السِّرّي، الذي يمنح المذاق المختلف للخبز، فـ”لكل نوعٍ من أنواع الخبز وقتٌ معيّنٌ ليصنع الطعم داخله(5). وكل شخصيةٍ ناجحةٍ أو فاشلةٍ. لا شك في أنها قد استغرقتْ وقتًا معينًا. في عملياتِ تفاعلها مع مكوناتِ الحياة وأحداثها ومخاوفها. وعلى ضوءِ الزمنِ الذي يسري فيه هذا التفاعل، يأتي تحديدُ الشخصية لنسبةِ النجاح والفشل، في تجاربها الحياتية.

[1ــ3]: إشكالية جندرية

من خلال هذه المعادلة ــ بما فيها من رمزيةٍ وقواسم مشتركة بين الحياة الإنسانية والحياة الموازية ــ يمكن التعاطي مع حياة “ميلاد”. ذات الإشكالية (الجندرية). المتفاعلةِ مع مكونات الحياة المختلفة ومع علاقاته العائلية والاجتماعية. حيث تخَمّرتْ ــ هذه الإشكالية ــ مع مرور الوقت الكافي لأن تُصْنعَ منها وصفةُ السخريةِ الاجتماعية منه. بتنوعاتِ مذاق هذه السخرية: عجزُهُ عن أن يكون رجلَ البيت الذي يفرضُ كلمته على نسائهِ المتحكمات فيه. واستمتاعُهُ بعملِ المنزلِ استمتاعًا مُتوازيًا مع استمتاعِ زوجته بالعمل خارجه.

[1ــ4]: اختمار عجينة السخرية الاجتماعية

تشكّلتْ من هذا التوازي عجينةٌ أخرى من المكونات الحياتية السابقة نفسها. تلك التي صُنِعتْ منها وصفة السخرية الاجتماعية، مع الإضافة إليها المكائد والضغائن. اختمر هذا المزيجُ من المكوناتِ، بفاعليةِ الوقتِ الكافي لأن يُصبحَ عجينةً لمشكلةٍ عائليةٍ متفاقمةٍ بين الزوجين: (ميلاد/ زينب). وقد تعدَّد المشتركون في صناعةِ هذه (الوجبة/ المُشْكلة العائلية): مجتمع الزوج، شقيقاته، أمه، ابن عمه “العبسي”. وتلميذته المدام “مريم”، التي أشعلت فيه نارَ غيرتهِ على زوجتهِ وشكَّه في سيرتها. كما حرّكَتْ مشاعره نحوها. بانجذابها الوجداني إليه. وصولًا إلى أن يخونَ زوجته معها، انتقامًا منها. بعدما وصل إلى اليقين في خيانتها له مع مديرها.

[1ــ5]: تجانس مع تفاصيل الواقع

ظهرت حكاية صناعة الخبز على قدر كبير من التخصيب السردي لسياقاتها بخيوطٍ من المعاني المتجانسة مع تفاصيل الواقع المعيش. فأضفى هذا التخصيب نوعًا من الحيوية على رمزية الحكاية إلى الحياة الإنسانية. حيث تمخض عن هذه الأنسقة الإحالية تجانسُ مراحل صناعة الخبز مع ما يشابهها من مظاهر الحياة البشرية.

بمعنى أن القضايا الاجتماعية والأفكار والقرارات تمُرّ بمراحل متشابهة ــ في جوهرها ــ مع المحطات التي يمر بها إعدادُ رغيف الخبز. إذ تُمْزَجُ المكوناتُ المتعلقةُ بفكرةٍ أو قرارٍ أو قضيةٍ اجتماعية، ثم تُعجنُ، وتُتركُ وقتًا كافيًا لأن تتخمّر. بعد ذلك، تأتي مرحلةُ وضعها على النار. وصولًا إلى مرحلتها الأخيرةِ، التي تكون فيها وجبةً جاهزة.

تجسّدت ــ تلك المرحلة الأخيرة ــ في إزهاق حياة “زينب”، على يد زوجها “ميلاد”. بعد أن خُبِزَ رغيفُ الضغينةِ بينهما، على يدِ أكثر من شخصٍ اشترك في العمل عليها. لا سيما ما قامت به المدام “مريم”، التي أشرفت على هذه العملية منذ الوهلة السردية الأولى، في أولى صفحات الرواية. وتَعَهَّدَتْها بما يكفي من الإضافاتِ والمكونات اللازمة. وعايشتْها على النارِ الهادئةِ، حتى لحظتها الأخيرة، حيث استوتْ على يديها نهايةُ الحكايةِ، في آخر صفحةٍ من هذا العمل.

[2]: سرديةُ الثقافة الشعبية

إنّ الحياة الموازية ــ التي استوعبتْها رمزيةُ الخبز، وعاشتْها شخصيةُ العمل ــ قد تشَكَّلَتْ من منظومةِ الحياةِ البشريةِ في مجتمعِ الحكاية. بما في هذه المنظومة من تقاليد ثقافيةٍ واجتماعيةٍ، وأعرافٍ وعاداتٍ، وموروثٍ شفاهيٍّ. تأتي في الصدارةِ منه الأمثالُ والمقولاتُ الشعبية؛ لما تكتنزه من ثراءٍ ورمزيةٍ وانصهارٍ وتكثيفٍ لثقافة الشعوب وتجاربها.

لذلك؛ فقد كان لهذه المنظومة ــ في هذه الرواية ــ دورٌ محوريٌّ فاعلٌ، في تشكيل الحياةِ الموازيةِ وصياغتها. تلك الحياة، التي ظهرت في عباءةٍ من عملياتِ صناعةِ الخبز. إذ استُثمرت الثقافةُ الشعبيةُ، في نَسْجِ الحكايةِ وتخليقِ سياقاتها، فتجانست الثقافةُ السائدةُ في مجتمعِ الحكايةِ، مع ما تسارد في الروايةِ، من رؤىً اجتماعيةٍ متعلقةٍ بإشكالية (الجندر).

[2ــ1]: مقولة: “عيلة وخالها ميلاد”

لقد استندتْ سرديةُ العملِ إلى مضمونِ المقولة: “عيلة وخالها ميلاد”، التي تُعدُّ “مقولةً شعبيةً منتشرةً بين الليبيين، يعيّرون بها الرجلَ الذي لا يملكُ سلطةً على النساءِ اللائي يتبعنه”(6). كما تُطْلَقُ على العائلةِ الليبيةِ، التي تشاكس نساؤها نسقَ التقاليد الثقافية والاجتماعية.

وبمضمونِ هذه المقولةِ، بدأ العملُ سردَ حكايته، فتَشَكّلتْ بجوهرها عتبةُ عنونتهِ “خبز على طاولة الخال ميلاد” المتمازجةُ مع الخبزِ وإحالاتهِ الرمزية. ونُسِجَتْ بها تفاصيلُه، حيث ظهرت في صورٍ إحاليةٍ ثابتةٍ في جوهر مضمونها الشعبي، مختلفةٍ في صياغاتها وأشكالها اللفظية.

أمّا ظهور هذه المقولة، على شكلها وصياغتها المعهودةِ في التداول الشفاهي، فقد كان محدودًا. من مثل ورودها على لسان “ميلاد”. في لحظةِ سخطه على “هنادي” ابنة أخته، ورغبته في تأديبها: “سمعت الجملة “عيلة وخالها ميلاد” في أماكن مختلفة. وصلت شهرتي حتى في أحياء المدينة، وأنا أحاول مسحها”(7).

[2ــ2]: إحالة الأمثال الشعبية

عاضدتْ الأمثالُ ــ التي جسّدتْ فاعليةَ الثقافةِ الشعبيةِ في سرديةِ هذا العمل ــ سياقَ المقولة السابقة، بإحالاتها على حالِ “ميلاد”، وعلى مواصفاتِ الرجلِ القائمةِ على المفارقةِ الجوهريةِ بين الرجل والمرأة. من ذلك، ما في هذا المثل، الذي جاء استهلالًا للفصل الخاص بحياة “ميلاد” في المعسكر: “تعيشْ يومْ ديكْ ولا عشرة دجاجة”. الذي يعني: “أن يعيش المرء رجلًا صاحب مواقف وشجاعًا يومًا واحدًا أفضل له من أن يعيش عشرة أضعافه خائفًا ذليلًا كالدجاج”(8). ثم ورد على لسان الضابطِ المدربِ، بلهجةٍ توبيخيةٍ لـ “ميلاد”؛ انتقاصًا من رجولته(9).

والأمر نفسه، في المثل الذي افتُتحَ به فصلُ “دار غزالة”: “الفرس على راكبها”، ومعناه: “أن المرأة تتخلق بأخلاق زوجها وأنه هو الذي يربيها بعد أبيها”(10).

ومثل ذلك، هو افتتاح فصل “بيت العائلة”، بالمثل الشعبي: “البنات زرّيعة إبليس”(11). ثم ورود هذا المثل في ثنايا الفصل، ضِمنَ موقفٍ احتدّ فيه عراكٌ كلاميٌّ، بين شقيقات “ميلاد” وأمه من جهة، وزوجته من جهةٍ أخرى. في تلك الجلسة، التي كُنّ فيها ينزعن “شعر أرجلهن”. على إثرِ معرفتهنّ من زوجته أن شقيقهنّ هو من أعدّ “الحلوى الخاصة بنزع الشعر”، بعد أن حسبنَ أنه ــ بعد زواجه منها ــ قد ترك هذا الأمر غير اللائق بالرجل. كان “ميلاد” يسمع هذا الاشتجار الكلامي إلى غرفته حيث ينزوي، غير متدخِّلٍ فيه، فتهادى إلى مسامعه صوتُ أمه: “البنات زرِّيعة إبليس”(12). كما ورد هذا المثل على لسان “ميلاد”، في موضعٍ آخر، من الفصل نفسه(13)، مُتَضَمِّنًا اتِّفاقه مع دلالته، في تلك اللحظة نفسها، التي حاول فيها تأديب ابنة أخته، على سلوكِها غير المتسق مع الفلسفة الاجتماعية السائدة.

إضاءة

فازت رواية الكاتب الليبي محمد النعاس “خبز على طاولة الخال ميلاد”. بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، في دورتها الخامسة عشرة 2022م.

  1. محمد النعاس، “خبز على طاولة الخال ميلاد”. ط4، دار مسكلياني، 2022م. ↩︎
  2. نفسه، ص29. ↩︎
  3. نفسه، ص189. ↩︎
  4. نفسه، ص15. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. نفسه، ص3. ↩︎
  7. نفسه، ص154. ↩︎
  8. نفسه، ص32. ↩︎
  9. نفسه، ص42. ↩︎
  10. نفسه، ص65. ↩︎
  11. نفسه، ص126. ↩︎
  12. نفسه، ص144. ↩︎
  13. نفسه، ص155. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *