الرمز الأسطوري في الشعر اليمني المعاصر
يمثّل التراث الأسطوري رافدًا مهمًّا من روافد التجديد في الشعر العربي الحديث. وامتدادًا لهذه السمة التجديدية يأتي الرمز الأسطوري في الشعر اليمني المعاصر. إذ وظّف الشعراء اليمنيون المعاصرون المادة الأسطورية، في نسيج إبداعهم. وقد استلهموا عددًا من رموزها. منها ما ينتمي إلى الأساطير المحلية، ومنها ما ينتمي إلى منظومة الأساطير غير المحلية عربيةً وعالمية.
[1]: الرمز الأسطوري المحلي
لم تكن الأساطير ــ في يومٍ من الأيّام ــ حكرًا على شعبٍ من الشعوب من دون غيره. فلكل شعب أساطيره المحلية الخاصة به، تتخلل مراحل حياته وأطوار التكَوّن لمساراته الفكرية والوجودية. وبذلك، فقد كان لليمن أساطيره المحلية الخاصة. وإن كانت هذه الأساطير قد وُجِدَ ما يشبهها عند الشعوب الأخرى، فإن ذلك لا ينفي خصوصية الإبداع والتمايز(1).
استوحت بُنية الشعر اليمني المعاصر كثيرًا من الأبعاد الرمزية في الأسطورة المحلية. تلك التي وظّف الشعراء مخزونها الفكريّ، في التعبير عن عددٍ من مضامين قصائدهم، من أهمها أسطورتا “القمر”، و”البَدَة”.
[1ــ1]: أسطورة “القمر”
مما استأنس به الشعر اليمني المعاصر من الأساطير المحلية، أسطورة “القمر”. وقد كان “القمر” يمثل أخطر ضلع في الثواليث الإلهية من آلهة الثالوث اليمني القديم؛ فقد قدس اليمنيون القدماء الثلاثي السماوي: “القمر” كإله ذكر أخذ دور الأب. و”الشمس” كإلهة أنثى أخذت دور الأم. أما “عثتر” أو “الزهرة” فقد كان إلهًا ذكرًا أخذ دور الابن. وعلى ذلك، “القمر” كان هو الإله المقدم، فعبده القتبانيون والحميريون بالاسم “عم”. وعند الحضارمة اتخذ اسم “سين” وكان معبودهم. أما المعينيون، فقد عرفوه باسم “ود”، فعبدوه بهذا الاسم. وباسم “المقة” كان معبودًا خاصًّا عند السبئيين”(2).
[1ــ2]: أسطورة “صياد”، أو “البَدَة”
تعرف “البدة”، أو “صياد”، بأنها تلك العيِّنة الأسطورية الخرافية من النساء. يقال إنهن يحولن الرجال إلى حمير، ويتحوّلن إلى أُتُنٍ، ويمارسن معهم الجنس كالحيوانات أمام الناس، ثم تعود المرأة إلى صورتها البشرية، بعد أن تتمرغ في التراب حتى تمنع كثرة الغبار رؤية الناس إليها. على حين يعجز الرجل الممسوخ أن يستعيد صورته الآدمية، إلا على يد رجل مشعوذ يسمى (المبَدبد)؛ لأنه يخلص الرجال من مسخ “البدات”. ويقال إن النساء اللواتي يصلن إلى هذه القدرة، يتدربن على التعرّي ثلاثين ليلة، في أمكنة مكشوفة. ويبلن أربعين صباحًا متواليًا في مواجهة الشمس عند بزوغها. وأنهن يحرمن من الزواج؛ لغناء آبائهن، وارتفاع مهورهن لما يتمتعن به من جمال(3).
وتقول هذه الأسطورة، إن “البدة” غالبًا ما “تخرج في الليل، ويكون ضحيتها عادةً من الأطفال أو الجبناء الكبار، وتتصور للضحية في أشكال متعددة، فتارة تظهر في شكل فتاة جميلة، تدعو الضحية ثم تمسك بها، وتطلب منها أن تحملها إلى مكانٍ معين، حتى إذا وصلت إلى ذلك المكان، وجدت نفسها مليئة بحشرات القمل، أو تتصور لها بكائن شبيه بالمرأة ولكن برجلي حمار، أو تتشكل جدارًا تحبس فيها الضحية، ولا ينجو منها إلا الذي لا يستجيب لها مهما قدمت من إغراءات”(4).
وهذه الأسطورة المتداولة في المجتمع اليمني، لها تسميات عديدة، منها: “العجوز الكاهنة”، و”أم الصبيان”، و”ناشئة الليل”، و”الجرجوف”، الذي هو صورة مذكرة منها(5). كما أنها في بعضٍ من حالاتها تشبه “الغول العربية”، كما يصفها لنا تأبط شرًّا(6). وتشبه من عدة وجوهٍ أيضًا “ليليث”، وهي روحٌ شريرة في الميثولوجيا السامية، تقيم في المواطن المهجورة، وتهاجم الأطفال(7).
[1ــ3]: أسطورة “القمر” في نصٍّ شعري
يمكن الوقوف على نموذج لتوظيف أسطورة “القمر”، في الشعر اليمني المعاصر، من خلال النظر في استلهام الشاعر محمد حسين هيثم لأبعاد هذه الأسطورة في قصيدته “اكتمالات سين بين يدي المأربية والقرمطي”. التي منها قوله:
“أحاولُ أن أبدأ
أدلقُ أصابعي في مدى البياض:
يأتيني “سين”
إلهٌ لا يتكاملْ”(8).
لقد استحضر الشاعر أسطورة “القمر”، ممثلةً في الإله “سين”(9)، واتخذ منه رمزًا لاكتمال وحدة الوطن اليمني. بمعنى أنه استلهم مضمون الرمز المتمثل في حال اكتمال القمر (الإله سين)، كونه المعبود القديم لليمنيين، الذين كانوا يطيلون السجود في معابده، عندما يبلغ ذروة الاكتمال، ويصير قادرًا على قهر الظلام، وتبديد الخوف والوحشة عن القوافل التي تقطع رمال الصحراء، ويحترق قلبها نهارًا بلهيب الشمس(10).
وقد كانت أحزان الجرح الوطني، المتمثل في تشطيره بؤرةً استدعائية لرمزية هذه الأسطورة، وتوظيف مضامينها في التعبير عن الغاية الوطنية. تلك الغاية، المعقود على تحققها اكتمال الوطن، والتحام أبنائه في تقديسه؛ حفاظًا منهم على ما يسديه اتحاده واكتماله عليهم من تبديدٍ لمخاوفهم، وتجفيفٍ لمنابع الحزن المتدفق في حياتهم وحياة وطنهم المكلوم بانشطاره.
[2]: الرمز الأسطوري غير المحلي
من تجليات الرمز الأسطوري في الشعر اليمني المعاصر، استلهام أبعادٍ رمزية من التراث الأسطوري غير المحلي. وفي سياق ذلك، يأتي استلهام الرمزية الأسطورية العالمية، من مثل أسطورة “سيزيف”(11)، وأسطورة “أوديب”، وغيرهما من الأساطير العالمية، التي أثرى بها الشاعر اليمني المعاصر نصه الشعري.
[2ــ1ــ1]: أسطورة “أوديب” في نصٍّ شعري
من تجليات أسطورة “أوديب” في الشعر اليمني المعاصر، استثمار الشاعر محمد الشرفي لأبعادها، في مثل قوله:
“أوديب لم يقتل الوحش، لم يَكُ سيِّدَ طيبةَ،
لم يسترح لادعاء الكهانة والغائبين وراء
أحاجي القدر
يبيح الأمومةَ، يقتل والدهُ كل حين، ويمشي
وراء الجنازة يبكي
يقبل نعش أبيه ويمسح خنجرَهُ فيهِ، يخلطُ
بين البكاءِ
وبين الفرح”(12).
أجرى الشاعر ــ هنا ــ بعض التغييرات الجوهرية في تفاصيل المضامين التي قامت عليها أسطورة “أوديب”. لقد وظّف الشاعر “أوديب” رمزًا لمن يسيء في حق وطنه، وفي هذا التوظيف الفني توارت فاعلية النبوءة، التي قامت عليها الأسطورة. ذلك، أن ـ”أوديب” المعاصر غير مستريحٍ لهذه الادعاءات، لذا لم يكن مؤمنًا بها، وهذا يعني أن ما قام به لم يكن انسياقًا وراء تلك النبوءة، وإنما انسياقًا وراء رغبته هو في ذلك.
كما تجلى التعديل لمضامين الأسطورة، في نفي إنجاز “أوديب” الذي نال به المُلْكَ والزواج، فهو لم يقضِ على وحشٍ، وتضافر هذا التعديل مع التعديل المتجسّد في الإيحاء برغبة “أوديب” فيما قام به من سلوكيات تجاه والديه، اللذين امتزجا هنا في رمزيتهما إلى الوطن.
وتتمظهر رغبته تلك ورضاه، في إباحته للأمومة، وتكراره القضاء على والده كل حين، والتظاهر بحزنه على ذلك؛ فيمشي وراء جنازة والده مقبِّلًا نعشه، ماسحًا خنجره في النعش. وفي ذلك تجلٍّ لرضاه الموارب، ورغبته فيما يفعل، لاسيما في قدرته على الخلط بين البكاء والفرح.
والوظيفة الرمزية لهذه الأبعاد الأسطورية، وما أجراه عليها الشاعر من تحوير، تتجسد في إيحاءاتها بمهارة التلون والخداع، التي يتصف بها أولئك الذين تتوالى إساءاتهم للوطن. فهم يدّعون خوفهم وحرصهم عليه، ويظهرون أسفهم على ما يحل به، ويبطنون فرحتهم بمكاسبهم الذاتية التي يجنونها من آلامه وبؤسه.
[2ــ1ــ2]: تحوير نهاية الأسطورة
يمتد التحوير الفني لأبعاد أسطورة “أوديب” إلى خاتمة القصيدة نفسها، التي أضفى التحوير لمضمون النهاية فيها أملًا استشرافيًّا، فلم تمت المدينة، وإنما لا تزال منتظرة عودة “أوديب” إلى رشده:
“يرجعُ أوديب يبكي على قدمي أمّهِ ــــ يعتذرْ
ويكسرُ خنجرَه مرتين ويرميه بين يديها
يتوب إليها ويأخذ من مقلتيها
ضياءً لعينيه
يشربُ من راحتيها،
كؤوس الضياء”(13).
لقد فتح التحوير الفني آفاقًا جديدة، مغايرة لتلك النهاية، التي مُني بها “أوديب” وأمه في الأسطورة، فلا يزال الوطن دافقًا بالحياة، زاخرًا بقيم العفو والصفح عمن أساء إليه من أبنائه؛ لعلهم يتخلون عن سلبياتهم تجاهه، ويعودون إليه أسوياء، ليمنحهم النور الذي ترتوي به نفوسهم، وتستنير به عيونهم التي فقأها الندم والعذاب.
ويتضح أن الشعراء اليمنيين المعاصرين، قد غلب على توظيفهم للأسطورة العالمية، الاستئناس بالأساطير اليونانية. وتفسير ذلك، عائد إلى تأثرهم برواد الشعر الحر العرب، أو اطلاعهم على الشعر الغربي المترجم، وليس عن طريق المثاقفة المباشرة مع الثقافة الغربية(14). لذلك لم يبلغ توظيفهم لرمزية الأسطورة العالمية في تجاربهم الشعرية مستواه الفني المنشود؛ إذ غلب على استيحائه الحضور الجزئي، الذي يفتقر إلى سريان روح الأسطورة في بنية النص الشعري كاملة.
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص: (156). ↩︎
- ينظر: سيد القمني، “الأسطورة والتراث”، المركز المصري لبحوث الحضارة”، ط3، القاهرة، 1999م، ص: (147). ↩︎
- ينظر: عبد الله البردوني، “الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل”، دار المأمون، الجيزة، 1988م، ص: (38). ↩︎
- أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”، مرجع سابق، ص: (156). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الغوووول..”، صحيفة الثقافية، تعز، العدد: (459)، 16 نوفمبر 2008، ص: (26). ↩︎
- كانت الغول هي سبب إلحاق لقب تأبط شرًّا بصاحبه؛ إذ يروي أبو الفرج الأصفهاني أن تأبط شرًّا لُقب بهذا اللقب، لأنه رأى كبشًا في الصحراء، فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فلم يقلّه، فرمى به، فإذا هو الغول، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول!، قالوا تأبط شرًّا، فلُقب بذلك. يُنظر: أبو الفرج الأصفهاني، “الأغاني”، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم العزباوي، ومحمود محمد غنيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م، جـ21/ ص: (127). ↩︎
- ينظر: أحمد قاسم أسحم “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”، مرجع سابق، ص: (156). ↩︎
- محمد حسين هيثم، “الأعمال الشعرية الكاملة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص: (356). ↩︎
- الإله “سين”، هو: كبير آلهة حضرموت، كشفته بعثة بريطانية، في منطقة “الحريضة” عام 1944م، في نقوش تمتد بطول الشريط الساحلي لجنوب الجزيرة العربية، على امتداد أرض الأحقاف. ينظر: ثريا منقوش، “التوحيد يمان (التوحيد في تطوره التاريخي)”، دار الطليعة، بيروت، 1977م، ص: (73،72) ↩︎
- ينظر: عبد العزيز المقالح، “البدايات الجنوبية، قراءة في كتابات الشعراء اليمنيين الشبان”، دار الحداثة، ط1، بيروت، 1986م، ص: (41،40). ↩︎
- “سيزيف” كان أحد أكثر الشخصيات مكْرًا، بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت “ثاناتوس”، مما أغضب كبير الآلهة “زيوس”. فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي. وعوقب سيزيف جزاءً لاعتقاده المتعجرف كبشر، بأن ذكاءه يمكن أن يغلب ويفوق ذكاء “زيوس” ومكره. فقد اتخذ سيزيف الخطوة الجريئة، بالإبلاغ عن فضائح ونزوات “زيوس” الغرامية، وأخبر إله النهر “أسوبوس”، بكل ما يتعلق بابنته “إيجينا” مع “زيوس”. ينظر: ماكس شابيرو، “معجم الأساطير”، ترجمة: حنا عبود، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1999م، ص: (229). ↩︎
- محمد الشرفي، “الأعمال الكاملة”، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ط1، صنعاء، 1428هـ ـــ 2007، جـ1/ ص: (379،378). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (381). ↩︎
- ينظر: عبد الحميد الحسامي، “الحداثة في الشعر اليمني المعاصر”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص: (213). ↩︎