المعاناة والصورة الاستعارية في شعر البردوني
لتفاصيل المعاناة والألم حضورُها البارز في عاطفة الشاعر عبد الله البردوني. كما أن لها أثرها الفاعل في إثراء تجربته الشعرية، وجمالياتها التصويرية؛ لا سيما فيما يتعلق منها بالصورة البلاغية، التشبيهة منها، والاستعارية؛ فقد صارت المعاناة والصورة الاستعارية في شعر البردوني، سياقًا فنيًّا مُترعًا بإحالاتٍ خصبة الدلالة والإيحاء.
وبدءًا، لا بد من الإشارة إلى التمايز بين مفهوم الاستعارة ووظيفتها قديمًا وحديثًا. فالاستعارة في النّقد القدِيم تقوم ــ بِشْكلٍ محْوريّ ــ علَى أن تتضمّن بأكْبر قدْرٍ ممْكِن مِن قيم التّشابُه بيْن طرفي الاستعارة (المستعار/ والمستعار له). وبذلك، فهي لا تزيد عن أن تكون وسيلة للتحسين والتنميق، أو وسيلة للتوضيح أو البرهان على صحة الفكرة(1).
وهذا التوصيف مرفوضٌ في نظرِ الرؤية المعاصرة، التي ترى أن الاستعارة ليست في أي مجال من مجالاتها عنصرًا إضافيًّا. وإنما هي تلك الوسيْلةُ التصويرية التي يستأنس بها الذهن الإبداعي في التجربة الشعرية، فيؤلّف من خلالها بين مُعطيات متعددة لا صلات منطقية فيما بينها(2).
واستنادًا إلى هذه الرؤية المعاصرة في الاستعارة، قامت البُنية الشعرية المنسوجة من المعاناة والصورة الاستعارية في شعر البردوني. وتنوّعت بين أنماط الصورة الاستعارية: تشخيصية وتجسيمية وتجريدية وتجميدية.
[1ــ1]: الصورة الاستعارية التشخيصية
يحيل مفهومُ الصورة التّشخيصيّة، على إضفاء الصفات الإنسانية على الأشيْاء والكَائنات والمعَاني.
[1ــ2]: تشخيص المعاناة
نجد تشخيص المعاناة ماثلًا في تجربة الشاعر عبد الله البردوني، لا سيما في سياق تصويره لمعاني الألم والمعاناة والحزن، أُناسًا يشكون آلامهم تارةً، وصامتين تارةً أخرى. فيتعرف الشاعر إلى بعضٍ من هذه الكائنات الشاكية، ويجهل الصامتة منها. ومن تجليات المعاناة والصورة الاستعارية، فيما يتعلق بالصورة التشخيصية منها قول الشاعر(3):
مُتَأَلِّمٌ مِمّا أنَا مُتَأَلِّمُ؟ *** حَارَ السُّؤَالُ، وَأطْرَقَ المُسْتَفْهِمُ
مَاذا أحسّ؟ وَآه حُزْني بَعْضُهُ *** يَشْكوْ فَأعْرِفُهُ وَبَعْضٌ مُبْهَمُ
إنسانية الحزن هنا واضحةٌ، في شكواه وتألمه وصمته وإبهامه، فيتألم الشاعر انفعالًا وتأثُّرًا بشكوى بعض أحزانه التي تعرّف إليها. أما بعضُها الآخر الصامت المبْهم، فلم يتمكن من التعرف إليه، فيتضاعف بذلك ألمه وحزْنُه.
لقد أنسَن البردوني معنى الحزن، وشخّصه في هيئة إنسانٍ شاكٍ متألم. والبردوني مولعٌ بوسيلة الإيحاء الرمزي، المتمثّل في تشخيص المجردات(4)؛ إذ تمثِّلُ هذه الوسيلة الفنية واحدة من سمات الحداثة الشعرية في شعره(5). وبذلك، فقد كانت هذه الصورة الشعرية واحدةً من سمات الواقعية التعبيرية في شعر البردوني. ذلك؛ لأن “أهم ما فيها هو هذا البَوح الذاتي الواقعي الذي تجلّى بحسن التعبير وجمال الرؤيا، هو النص القائم على الموازنة بين العلم واللاعلم، بين النفي والإثبات، وإن كانت هذه الثنائيات تنتمي إلى صدقٍ شعوري، هو الصدق بالتعبير، فإن المرجعية تعود إلى البردوني إنسانًا .. وَلا شَكَّ فِي أنّ الشّاعِر أرَاد أنْ تكُونَ الذّاتُ هِي الجَمْع، فالأَلَم لمْ يَكُنْ إلَّا ألمًا جَمَاعِيًّا فِي النَّص”(6).
[1ــ3]: تشخيص الزمن والجماد
في سياق أنسنة البردوني للأشياء والمعاني، يأتي تشْخِيصُ “الليل”، في كثيرٍ من صوره الشعرية، الناضحة بالحزن والمعاناة، من مثل قوله(7):
وَحْدي هُنا يا ليْلُ وَحدي *** مَا بيْنَ آلامي وسهْدي
فالشاعر يشخص الليل ويناجيه مناجاة إنسانٍ يعي ويسمع ويحس ويتأثر، فبث إليه همومه وأحزانه وسهده وآلامه. وفي الصّور التشْخيصيّة ــ التي تُؤنسِن الليل ــ إحالاتٌ إيحائية على الكَآبَة والهَمّ؛ إذ تتّسق هذه الإحالات مع فضاء الدلالة الحزينة، المتوافقة مع ظلام الليل وإيحاءه بسلبية العَتمة التي تتلاشى بها الرّؤى الواضحة (8).
كذلك، نجد البردوني يبعث الحياة في الأشياء الجَامِدة، ويمنحها الطبيعة الإنسَانيّة، التي تكتسبها شعرية الجُدران، والمباني، والشّوارِع، والأرصفة، من مثل قوله(9):
تُصْغِي إلَى بَعْضِها الجُدْرانُ، واجِفَةً *** تَئِنُّ تَحْمَرُّ، كالقَتْلى وَتَمْتَقِعُ
في هذا البيت تحويلٌ إبداعي استعاريّ للجدران، من طبيعتها الساكنة إلى طبيعة إنسانية حيوية. فالجدران ممتلكةً للمشاعر والأحاسيس والإدراك والحواس الإنسانية: تصغي، وتئن، وينتابها الخوف والقلق. كما أنها تسامره وتصغي مثله، وتسعل(10):
وسهدتُ والجدران تصغي مثلما *** أصغي، وتسعل كالجريح الساهدِ
لقد استطاع البردوني ببراعةٍ تشخيص الجدران بتفاصيل الطبيعة الإنسانية؛ فتشخيص الأشياء والجمادات إحدى الوسائل الفنية المهمة في شعره(11). والشاعر في إضفائه صفات الإنسان الحي على الكائنات غير البشريّة، يكْشف من خلالها عن تناقضات الواقِع، ويُسقط عليها مُعانَاته الذّاتِيّة (12).
[2ــ1]: الصورة الاستعارية التجسيمية
تستهدف الصورة الاستعارية التجسيمية تشعير المعاني المجردة، من خِلال منْحها صفاتٍ مادية(13). وبذلك، يغادر الشيء المجرد طبيعته الذهنية، إلى الطبيعة المادية في صور من التجسيد المادِيّ المَحْسُوس.
[2ــ2]: تجسيد المعاناة خيلًا
من المعاني التي جسّمها البردوني في صور مادية، تجسيمه للمعاناة والشجن في صورة (الخيل)، حينما يقول(14):
يا وجهها في الشاطئ الثاني *** أسرجتُ للإبحار أحزاني
أشرعتُ يا أمواج أوردتي *** وأتيتُ وحدي فوق أشجاني
لقد جسم الشاعر هنا الأحزان والأشجان في صورة خيلٍ، وإن لم يرد اسم (الخيل)، فقد ورد ما يدل عليه (أسرجت)، و(أتيتُ … فوق). وقد تجلت حداثة التصوير وجمالياته في تحوُّل الحزن من طبيعته الذهنية المجردة إلى كائنٍ حي، حمل الشاعر إلى غايته. كما تجلت هذه الجماليات، في إكساب هذا الكائن قدراتٍ لا يمتلكها في طبيعته الواقعية؛ إذ صار قادرًا على الإبحار بالشاعر نحو غايته المرجوة.
لقد تجسد الحزن حيوانًا ذا قدراتٍ تلبّي حاجة الشاعر؛ إذ صار خيلًا، بقدراته التي تمكنه من أن يمتطيه الشاعر برًّا. وقد امتطاه الشاعر، حتى وصل به إلى شاطئ البحر. لكن غاية الشاعر كانت في الشاطئ الثاني؛ فأضفى الحزن على هذا الكائن المتجسّد خيلًا قدراتٍ تُمَكِّنُه من الإبحار بالشاعر نحو غايته تلك. وفي ذلك، تبلورت شعرية المعاناة، وجمالياتها في هاتين الصورتين.
[2ــ3ــ1]: المعاناة زادٌ
كذلك هو الأمر، في تجسيم المعاني في صورة مادية جامدة. من مثل تجسيمها في صورة قوتٍ يومي؛ إذ جسم البردوني في قصائد معاناته عددًا من المعاني الذهنية، في هيئة طعامٍ يقتاته في واقعه البائس. من ذلك، معنى الأسى في هيئة الماء والزاد في هذه الصورة(15):
وَأَعِيْشُ في أوْهامِ سَلْوى *** وَالأَسَى زادِي وَمَائي
يجسم البردوني في هذه الصورة معنى الأسى في صورة مادية محسوسة. تمثّلت في أهم المتطلبات الضرورية لإشباع غريزة البقاء على قيد الحياة (الزاد/ الماء). وبذلك، يكون الأسى هو القوت اليومي، الذي تقوم عليه حياة الشاعر. من خلال ما جسمه الشاعر من المعاني في صورة قوتٍ وطعام بشكل كبير في شعرية معاناته. من ذلك، عجْنِه معنى الحزن في هذه الصورة، التي يقارن فيها حاله بحال صاحب الفرن وهو يخاطبه، بالقول(16):
عَاجِن الفُرْنِ .. أَتَدْرِيْ؟ سَنةً *** وَأنَا أعْجنُ أحْزانِي وَغَمِّيْ
كذلك، نجده يعيش على أوجاعه، فيقتاتُها، ويَعزِفُها شِعْرًا جميْلًا، في سياقاته يقيم أصداءه الذي يسكنها(17):
أقتاتُ أوْجَاعيْ وَأَعْزِفُها *** وَأشِيْدُ مِنْ أَصْدائِها سَكَني
كما تتفاقم معاناته لمآسيه وأحزانه وفاقته، فيجسم ذلك في صور شعرية زاخرة بالمفارقة الجمالية؛ فيكون جوعه وظمأه ــ الذي تتبلور فيه حاجة الشاعر الماسة إلى الزّاد ــ هوَ الزّاد نفسه، كقوله من قصيدتِه “كَيْفَ أنْسى”، التِي قالَها على قَبْر حبيْبَة الطفولة، وهو يطوف به(18):
وَاليَوم إِنِّي حَوْلَ قَبْرِكِ صَامِتٌ *** أَقْتاتُ مِنْ جُوعي وأسْتَسْقي الظّمَا
[2ــ3ــ2]: القوت المادي والذهني
الملاحظ، أن تجسيمه للمعاني في هيئة قوتٍ يكثر في دواوينه الأولى، ويقل إلى درجة الندرة في دواوينه الأخيرة. وفي هذه المفارقة يتجلّى التّصاعُد في مُسْتوى ما يَقتاتُه مِن المعَاني التي تكتنز دلالات حُزنٍ وشجن. إذ كان الحرمان والفقْر في الدّواوينِ الأُولى وراء غلبة (القوت) صورةً تجسيميةً لبعض المعاني. أما الدواوين الأخيرة، فقد تجاوز ذاك الحرمان، واقتات الأسى والمعاناة في مستوىً فكريٍّ ووجودي. من ذلك، تجسيده الموت زادًا، في ديوانه الثامن “ترجمة رملية لأعراس الغبار”، من قصيدته “رسالة إلى صديق في قبره”(19):
متَّ يومًا يا صديقي، وأنا *** كل يومٍ والردى شربي وزادي.
[3ــ1]: الصورة الاستعارية التجريدية
تحيل الصورة الاستعارية التجريدية، على ذاك النوع من التصوير الفنيّ، الذي يستهدف الانتقال بالمحسوسات من طبيعتها المادية إلى طبيعة معنوية يبتكرُها الشاعر(20). ويستأنس الشاعر بهذا النوع من التصوير، في صياغة رؤيته الشعرية، التي يشبه فيها الشّيء الحسّي بشيءٍ عقْلي. أو يشبه شيئًا معقولًا بشيءٍ آخر مَعْقولٍ مثله. فكائنات الطبيعة المادية المحسوسة، يُمكن الارتقاء بها إلى مقارنتها بأفكارٍ ذِهنيّة. كما أن الأفكار الذّهْنيّة المُجَرّدة، يمكن مقارنتها بأفكار ذهنيةٍ أخرى أكثر وُضوحًا(21).
[3ــ2]: تجريد الإنسان
من نماذج هذا التصوير في شعر البردوني، ما سعى فيه إلى تجريد الإنسان من طبيعته المادية إلى مفاهيم ذهنية مجردة. من مثل قوله(22):
أَنَا مَنْ أَنَا؟ الْأشْوَا *** قُ والحرْمَانُ وَالشَّكْوى أَنَا
أَنَا فِكرَةٌ وَلْهَى مَعَانِيْــ *** ــهَا التَّضَنِّيْ وَالضَّنَى
يتساءل الشاعر عن ماهيته، وذاته، وطبيعته، بصيغةٍ استفهامية تقريرية، توحي بإحساسه بعدمية ذاته. وبذلك، فهو يجيب على هذه التقريرية الاستفهامية، بتجريد ذاته من خصائصها المادية الملموسة، إلى وجودٍ معنويٍّ، تتقاسمه المعاني الذهنية: (الأشواق/ الحرمان/ الشكوى).
وتضمن البيت الثاني مركزَ الدلالة المحورية، المتمثلة في بلورة هذا التجريد للذات وتحوير الكينونة الإنسانية، إلى فكرة ذهنية ذات معنى كلي. هو الشَّقاءُ والبُؤْس: (التّضَنِّي/ والضَّنَى). ومن هذا المعنى تتفرع دلالاته التفصيلية، في صورٍ تجريدية من البيت الأول، زاخرةً بالمعاناة والعذاب (الأشواق، والحرمان، والشكوى). وإلى الفكرة والمعنى نفسه، تعود هذه الدلالات بتشابكٍ عنقودي، في هذا التصوير، الذي أبدعت المعاناة جماله وروعته.
[3ــ3]: تجريد الجماد
في هذا السياق، يأتي تجريد التجربة الشعرية عند البردوني للأشياء الجامدة. والانتقال بها من طبيعتها الماديّة، وحسّيّتها المعهودة إلى طبيعةٍ ذهنيةٍ. من مثل قوله، في ردّه على من سأَلَتْهُ عن عنْوانِه(23):
تَقُوْلِيْنَ أَيْنَ؟ وَبيْتِي صَدَىً *** مِنَ القَبْرِ، جُدْرانُه مِنْ نُوَاحْ
وتَيْهٌ وَرَاءَ ضَيَاعِ الضَّيَاعْ *** وَخَلْفَ الدُّجَى، وَوَراءَ الرِّيَاحْ
فبيت الشاعر هنا (مَسْكَنُه)، قد انتقل من خصائصه المادية في وجوده الملموس إلى معنىً ذهني (تيه). بما في هذا المعنى من دلالات الضياع. هذا الضياع، الذي يقترب من (التيه/ البيت) مُعَنْقِدًا صورة تجريدية أخرى؛ امتدادًا لسابقتها. فيكون معنى الضياع عالمًا له خصائصه، التي يقع مكانُ بيت الشاعر (التيه)، وراء أهم تلك الخصائص وجوهرها، أي ضياع الضياع نفسه.
لكن الشاعر يتجاوز هذا الضياع في تحديده مكان بيته، بعد أن يجرده إلى معنى ذهني في قصيدة أخرى، بعنوان “ساعة نقاش مع طالبة العنوان”، إذ يقول(24):
ـــ “حسناً عنوانكَ” … وابتسمتْ *** عيناها .. كعشايا (نيسانْ)
ـــ (صنعا) يا سلوى عنواني *** بيتي: في مُزدَحَمِ الأحزانْ.
فمكان بيت الشاعر في هذه الصورة هو (صنعاء)، وتحديدًا في مكانٍ ذهني، تزدحم فيه معاني الحزن، التي يتموضع بينها بيت الشاعر متجرِّدًا من طبيعته المادية.وتتجلّى في مشهد الأحزان وازدحامها في مدينة “صنعاء” صورةٌ تجريديّة أخرى لهذه المدينة ــ بما فيها (بَيْت الشَّاعِر) ــ إلَى أمكِنةٍ ذهنيّة أخرى، ليس من خصائصها ماديّة الأمكنة، وإنما معاني الحزن والمعاناة والعذاب.
يُعدّ تجريد المساكن في معانٍ ذهنية امتدادًا لتجريد ساكنيها، من الهيئة المادية لكينونتهم البشرية إلى معانٍ ذهنية. وفي ذلك كله، تصويرٌ لمدى ما وصل إليه الشعور الإبداعي من إحساسٍ بعدمية الحياة. وإحساسٍ بعدمية البقاء المعذب فيها، وعدمية ما فيها من مساكنَ، بعد أن تحوّلت، من ماهيتها المفترضة في أن تكون للراحة والطمأنينة، إلى ماهية مناقضةٍ. وبذلك، يتعاظم الشعور بلا جدوى الحياة، والشعور بتهميشها المستمر متخلقًا في تصويرٍ فنيٍّ، يجرد الحياة إنسانًا ومسكنًا إلى فضاءات ذهنية مبتكرة.
[3ــ4]: تجريد الزمن
من تجليات التصوير التجريدي لمعاناة الشاعر تجريده للزمن، من مثل ليالي السجن، التي تتجرد بماهيتها وطبيعتها المجبولة على قسوة الأسى والعذاب، إلى معانٍ تستقر في حنايا الشاعر، في مثل قوله من قصيدته “ليالي السجن”(25):
نزلتْ ليالي السجن بين جوانحي *** فحملتُ صدري للهموم ضريحا
ويبدو تجريد الليالي ــ في هذه الصورة ــ ذا إرادةٍ مباشرة من الليالي ذاتها. فهي تدخلُ دخولًا إجباريٍّا ممتلئًا بالسطوة والثقة، إلى حنايا الشاعر. كما أنها مستقرة في ذهنيته العاطفية ومشاعره القلبية، فصار حاملًا صدره ضريحًا للهموم، وما تكتنز به من دلالات حزن وشجن.
وبذلك، كان للصورة التجريدية سياقاها الذي استوعب تراجيديا المعاناة والصورة الاستعارية في شعر البردوني. من خلال ما أضفته على تجربة الشاعر من جمالية البناء الشعري، والإحالة المفتوحة على فضاءات المعاناة والحزن والألم.
[4ــ1]: الصورة الاستعارية التجميدية
التجميد في التصوير الفني، هو اتجاه تصويري رمزي كالتشخيص والتجس يم، مع اختلافه عنهما في مساره المغاير لهما، الذي يستهدف من خلاله سلبَ كائنٍ حيٍّ حياتَهُ، وتقديمه جمَادًا لا رُوْحَ فيهِ(26).ويأتي هذا النوع من التصوير الاستعاري، على نمطين اثنين: تجميدٌ كلّيٌّ، وتجميدٌ جزْئي.
[4ــ2]: التجميد الكُلّي
في التجميد الكُلّيّ، تُسْلبُ من الكائنِ الحيّ حيَاتَه سلبًا كُليًّا، فيتَحَوّل إلى جَمَادٍ لا رُوْحَ فِيْه، من مثل قول البردُّوني(27):
كلانا تُخَشِّبُنا الأمنيات *** وتعصرنا الذكرياتُ العنيفةْ
في الشطر الأول من هذا البيت تصويرٌ استعاري ذو تقنية تجميدية، نقلت الشاعر وصنعاء إلى عالم الجمادات الساكنة المتصلبة؛ فهو “يحاول تجميد نفسه وصنعاء المعادل الرمزي للشعب في صورة الأخشاب، للإيحاء بالجمود والثبات والرتابة، كما أن الصورة التي تظهر فيها الأخشاب وهي موضوعة بشكل أفقي توحي بالموت”(28).
وتتمدد هذه الصورة إلى الشطر الثاني من البيت، متمظهرةً في صورةٍ تجميدية أخرى، فيها نقلٌ للإنسان من طبيعته الحيّة إلى طبيعةٍ مادية لا حياة فيها، في حَالِ هذه الطّبيْعة السَّائِلة؛ إذ يحاوِل الشاعر “تَحْوِيل نفسَه وَالشّعبَ إلِى شَيْءٍ قابِلٍ للعَصْرِ رَغْبَةً مِن الشّاعِرِ فِيْ نَقلِ إِحساسِه بعدَمِيّةِ الشّعب، ولذلك حاول قدر الاستطاعة في أن ينفيه من الواقع، بفاعل من داخله، هي الأمنيات في الأولى والذكريات في الثانية، وكأن الشاعر يصنع أمامنا السبب الذي أدى إلى جمود الشعب، وهو عدم تجسيد الذكريات والأمنيات إلى واقعٍ حقيقي”(29).
[4ــ3]: التجميد الجزئي
يتمحور التجميد الجزئي، في تجميدِ جزءٍ من الكائن الإنساني، كتجميد القلب أو العين أو اليد… ومن تجليات التصوير التجميدي ــ بصفته الجزئية ــ عند البردوني ما في هذه الصورة الشعرية، من قصيدته “مع الحياة”، التي قالها وهو على سرير المرض(30):
ماحياتي إلّا طريقٌ من الأشـ *** ــواكِ أمشي بها على الجرحِ والدمْ
وَكأنّيْ أدوْس قلْبِي علَى النَّا *** ر وَأمْضي علَى الأنِيْنِ المُضَرّمْ
الصورة الشعرية ــ هنا ــ مكتنزة بإيحاءاتٍ إلى ما يعانيه القلب من عذابٍ ومهانةٍ، كلما داس عليهِ صاحبُه في جمْرِ المعاناة وألَم الأسقام، ماضِيًا فوْقَ أنيْنهِ المُسْتَعِر.
وعلى النقيض من إيحاء التصوير التجميدي للقلب بمهانته في معاناته وعذابه، نجده في صورٍ تجميدية أخرى ذات إيحاء بسموه ونبل مكانته، كما في هذه الصورة التي يجمد البردوني فيها قلبه قائلًا(31):
إنْ هَمَتْ أحْرُفي دمًا فلأني *** يمنيُّ المدادِ … قلبي دواتي
ففي هذا التصوير التجميدي للقلب إيحاءٌ بمكانته السامية. فهو دواة الشاعر التي فيها حبر إبداعه، وفي ذلك ــ أيضًا ــ إيحاءٌ بتخليد القلب، في تجميده دواةً لفن الشعر الموسوم بطبيعته الخالدة.
لقد كانت المعاناة والصورة الاستعارية في شعر البردوني، من أبرز تجليات الشعرية وجمالياتها في تجربته الشعرية. إذ أبدع البردوني، من المعاناة والألم، عناقيد تصويريةً، هندسها بتقنياتٍ الحداثة والتجديد، فزخرت شاعريةُ نصوصه عمومًا بهذه الحداثة الفنية، وامتدت في الشعرية المعاصرة فضاءاتٍ رحبةً، وعالمًا من الدهشة الباذخة والجمال المتجدد.
- مصطفى ناصف، “الصورة الأدبية”، دار الأندلس، ط3، بيروت، 1984م، ص: (144). ↩︎
- ريتشاردز، “مبادئ النقد الأدبي”، ترجمة: مصطفى بدوي، المؤسسة المصرية العامة، (د.ت)، ص: (310). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. ط1، الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 1423هــ ـــ 2002م، جـ1/ ص: (112). ↩︎
- هلال ناجي، “شعراء اليمن المعاصرون”، مؤسسة المعارف، ط2، بيروت، 1430هـ ــ 2009م، ص: (86). ↩︎
- عبد الواسع الحميري، “البردوني وإشكاليات الحداثة: هل البردوني حداثي أم لا؟”، صحيفة 26سبتمبر، صنعاء، العدد: (1411)، 4/9/2008م، ص: (6). ↩︎
- .محمد رضا مبارك، “تتابع الحدث الحكائي في نصوص البردوني”، مجلة علامات في النقد، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد: (70)، شعبان1430هـ ــ أغسطس2009م، ص: (217). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (163). ↩︎
- مدحت الجيار، “الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي”، دار المعارف، ط2، القاهرة، 1995م. ص: (85). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (780). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (427). ↩︎
- علي قاسم الزبيدي، “الحوار في شعر البردوني، قراءة في البعد الدرامي”، مجلة الثقافة، إصدارات وزارة الثقافة، صنعاء، العدد: (104)، يناير2012م، ص: (57). ↩︎
- نفسه، ص: (104). ↩︎
- مجدي وهبة، “معجم مصطلحات الأدب”، مكتبة لبنان، د.ط، بيروت، 1974م، ص: (358). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (727). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (282). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (782). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (357). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (166). ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص: (1114). ↩︎
- أحمد هيكل، “تطور الأدب الحديث في مصر”، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1987م، ص: (334). ↩︎
- عبد الفتاح عثمان، “دراسات في النقد الحديث”، مكتبة الشباب، ط1، القاهرة، 1991م، ص: (23). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (135). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (476). ↩︎
- .نفسه، جـ1/ ص: (647). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (160). ↩︎
- زينب فؤاد عبد الكريم، “الصورة الفنية عند عبيد الشعر حتى العصر الأموي”، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة ــ كلية دار العلوم، 1996م، ص: (315). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (691). ↩︎
- أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”، مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص: (284). ↩︎
- نفسه، ص: (284). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (137). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (688). ↩︎
تقييم ظريف لهذه الظاهرة في شعر البردوني، لكن هل م مصطفى بدوي محقق كتاب ريتشاردز ام مترجمه؟
أهلًا وسهلًا بك أستاذي الأجل.
.
يزهو الموقع بمرورك عليه.
.
مصطفى بدوي مترجم لكتاب ريتشار، وليس محققًا، وقد أصلحت الأمر.
.
كل المحبة والامتنان لك أستاذي.