الصورة البلاغية في الشعر اليمني المعاصر
تُعدُّ الصورة البلاغية في الشعر اليمني المعاصر نسقًا من أنساقه الفنية، التي استأنس بها الشعراء في صياغة نصوصهم الشعرية. وبذلك، كان لها حضورها الفاعل في التجربة الشعرية اليمنية المعاصرة. لا سيما ما يتعلق منها بنوعي الصورة البلاغية: التشبيهية، والاستعارية(1).
[1]: الصورة التشبيهية
تتجلّى المحورية البلاغية للصورة التشبيهية في الشعر اليمني المعاصر، في عدد من التجارب الشعرية. لذلك نجد جماليات الصورة التشبيهية في شعر عبد الله البردوني، ومثلها جماليات الصورة التشبيهية في شعر عبد العزيز المقالح. كما نجد ذلك عند غيرهما، في تجارب عدد من شعراء اليمن المعاصرين.
تبدو واضحةً كثرةُ استعمال الشعراء اليمنيين المعاصرين لأداة التشبيه (الكاف). وبوجه خاص، في الصور المفردة من صورهم “التشبيهية المرسلة”. ولا غرابة في ذلك؛ فهذه الأداة توصف بأنها من أكثر أدوات التشبيه استعمالًا. كما أنها “تأتي عادة في الاستعمالات العادية البسيطة، وتفيد قرب المشبه من المشبه به، وبسبب وضعها بين طرفي التشبيه فإنها لا تفيد المبالغة، لأن المشبه يظل مستقلًا بذاته عن المشبه به، وتقف (الكاف) حاجزًا شكليًّا ونفسيًّا بين طرفي التشبيه، تقرب بين الأطراف ولا تبالغ في العلاقة المشتركة بينهما”(2). وهي الوظيفة التي تتناسب مع ماهية الصورة المفردة في الصورة التشبيهية المرسلة.
ويغلب طابع التجديد، على استعمال الصورة التشبيهية في الشعر اليمني المعاصر. وهو ما يظهر، في عدم وقوف الشعراء عند مجرد المقاربة بين المشبه والمشبه به. وإنما اعتمادهم ــ بشكل ملحوظٍ ــ على العامل النفسي، وفقًا لرؤية نقدية معاصرة، تتجسّد من خلالها سمة من سمات الحداثة في الشعر اليمني المعاصر.
كما يغلب على الصورة التشبيهية في الشعر اليمني المعاصر، أنها تقنية قائمة على تجريد المحسوس. إمّا رغبة في الفناء والتلاشي والتهميش، وإما رغبة في الخلود معنىً ورمزًا.
وعلى ذلك، فقد اتسمت بعض الصور التشبيهية في الشعر اليمني المعاصر بخصائص البناء المعهود. وهو ذاك البناء القائم على تجسيد المجرد، في صور يغلب عليها الحسية: نفسية ولمسية.
[2]: الصورة الاستعارية
جسد الشعراء اليمنيون المعاصرون، من خلال الصورة البلاغية الاستعارية، مساراتٍ متعددة من رؤاهم الشعرية(3). من ذلك، ما نجده من استئناسِ تجاربهم الشعرية بمحاور الصورة الاستعارية الأربعة: التشخيص، والتجسيم، والتجريد، والتجميد. وهو ما نجده في سياقات متعددة في تجارب عدد من الشعراء اليمنيين المعاصرين، كالشاعر عبد الله البردوني، وعبد العزيز المقالح، ومحمد الشرفي، وغيرهم.
[2ــ1]: الصورة التشخيصية
يتجلى توظيف الشعراء اليمنيين المعاصرين للصورة البلاغية، ذات الصيغة الاستعارية التشخيصية، فيما عملوا عليه من تشخيصٍ لمعطياتٍ مجرّدة، وأخرى مادية، وزمنية.
يمثل تشخيص المجردات (المعاني) مسارًا بارزًا في نصوص شعراء اليمن المعاصرين، فقد انتشر في نصوصهم انتشارًا واسعًا، فأحالوا به أشياء معنوية إلى أشخاص(4). لذلك؛ انتشر تشخيصهم للزمن، ومثله تشخيصهم للجمادات، من مثل: البِنَايات، والشَّوارع، والأرْصِفة، والجُدْرَان، وغيرها.
وفي السياق نفسه، يأتي تشخيص الماديات، في الشعر اليمني المعاصر. ومن أبرز تجليّات ذلك، إضفاء الحياة الإنسانية على الفنون وأدواتها المختلفة، وما يتعلق بها من معطيات مادية وجامدة.
ومن خلال اهتمام الشعراء اليمنيين المعاصرين بتشخيص الفنون وأدواتها، يقدمون رؤيتهم في الفن، ونظرتهم إليه. كما يعبرون عن تعويلهم على الفن؛ بوصفه وسيلةً تعبيريةً أكثر ملاءمةً لاستيعاب ما يمكن استيعابه، من السياقات والمضامين في تجاربهم الشعرية .
[2ــ2]: الصورة التجسيمية
يتجلّى اهتمام الشعراء اليمنيين المعاصرين بالصورة البلاغية التجسيمية، من خلال ما تضمّنته تجاربهم الشعرية، من تجسيمٍ لبعض المعاني الذهنية في هيئاتٍ وصورٍ محسوسة؛ إذ جاءت المعاني مجسمة في هيئة حيوانٍ مفترس تارة؛ لتصوير ما يتسم به الحزن والمعاني المرتبطة به من وحشية وقسوة. وفي هيئة الحيوان الضحية تارةً أخرى؛ إذ كان يغلب الموت ذبحًا على الأشياء الجميلة المجسِّدة لمعانٍ ذهنية. وذلك، للإيحاء ببشاعة الظلم والقهر والوأد، التي تتعرض لها قيم الحق والخير والرقة والجمال.
كما يتجلّى هذا الاهتمام، في تجسيد المعاناة والألم في صور مادية جامدة. كأن تكون صورة قوت يومي، حينما تأتي صيغة التعبير عن المشاعر الشجية والحزن في صورة طعامٍ يقتاته الشاعر في واقعه. أو يأتي الأسى ماءً وزادًا، في صيغ من التعبير الشعري، عن تفاصيل البؤس في بيئة الذات الشاعرة.
وتضمّنت القصيدة اليمنية المعاصرة تجسيدًا للمعاني الذهنية، في صور مادية، ذات خصائص دالة على الاستمرار والحيوية والخلود. وذلك؛ إيحاءً بحيوية الألم، وتَشَعُّب معانيه، واستمرارية تصاعد نموه وكثافته.
[2ــ3]: الصورة التجريدية
قامت الصورة الاستعارية التجريدية في الشعرية اليمنية المعاصرة ــ بشكلٍ رئيس ــ على تجريد: الجمادات، والمعاني، والإنسان، والزمن. حينما لم يستطع الشاعر اليمني المعاصر أن يحقق فاعلية الوجود الإنساني على مستوى الحياة الواقعية المعيشة.
وبعد أن تعثّر بالعوائق المختلفة التي يضعها في طريقه هذا الواقع الاجتماعي المتخلف، اندفع إلى الإجهاز على الوجود الإنساني وتحويله تارة إلى فكرة معذبة. وتارةً إلى مفاهيم مشبعة بدلالات الحزن والحسرة والألم.
وفي توظيفه للصورة الاستعارية التجريدية، جرّد الشاعر اليمني المعاصر المساكن إلى معانٍ ذهنية؛ إيحاءً بما في الوجدان الاجتماعي والإبداعي، من إحساسٍ بالتهميش والعدمية ولا جدوى الحياة.
وضمن الصورة الاستعارية التجريدية في الشعر اليمني المعاصر، يأتي التجريد بين معنىً ومعنى. إذ تضمنت نماذجُ هذا المحور تجريدًا للمعاني المرتبطة بالألم إلى معانٍ ذهنية أخرى، ذات خصوصية دلالية تفصيلية لمعنى المعاناة وتجلياتها.
أمّا تجريد الزمن في الشعر اليمني المعاصر، فيغلب عليه تجريد عنصر الليل إلى معانٍ ذهنيةٍ، متسقة مع تجليات الألم ودلالاته المتشابكة، في محاور الصورة التجريدية كلها. على ما في ذلك، من ضمنيةٍ ارتباطية واقعية وثقافية، ما بين الليل وطبيعته المبهمة وبين عوالم التجريد الذهنية المتسمة بعدمية الإحساس المادي بمدركاتها وكائناتها.
ويمثل الحضور البارز لتجريد الزمن في صورة الليل إيحاءً إلى طبيعة الليل الهادئة، والمحفزة على التجريد الذهني للأشياء. بما في ذلك ماهيته التي تتضاءل بكثافتها المعتمة من إمكانات الإدراك الحسي للأشياء المادية.
وعلى ما تمثّله الصورة الاستعارية التجريدية من جمالياتٍ فنية في الشعر اليمني المعاصر، إلّا أنها تأتي بنسبة أقل، إذا ما قارنّاها بالصورتين السابقتين (التشخيصية والتجسيمية). وذلك؛ لأن هذا النوع من التصوير الفني “قليل في الشعر؛ لاعتماد الشعر في الأساس على التشخيص والتجسيد”(5).
[2ــ4]: الصورة التجميدية
استثمر الشعراء اليمنيون المعاصرون هذا الفرع ــ من الصورة البلاغية الاستعارية ــ في استيعاب تجاربهم الشعرية. إذ استأنسوا بالمحورين الرئيسين فيه: التجميد الكُلِّي، والتجميد الجزئي.
[2ــ4ــ1]: التجميد الكُلِّي
يقوم هذا النوع من التصوير الاستعاري التجميدي على سلْبِ الكائن الحي حياته، لا سيما سلب الكائن الإنساني كينونته البشرية. فيحيل هذا السلب على إحباطات الواقع الفاعلة في سلب الكائن الإنساني جوهره الوجودي.
وقد عبّر الشعراء اليمنيون المعاصرون عن ذلك، في هيئاتٍ مادية متعددة. من أبرزها هيئة تخشّب الذات الإنسانية؛ لما في التخشب من إيحاءات بالتحولات التي تسلب الكائن الحي روحه وحياته. وصولاً به إلى التجميد الكلي، فقد كان الخشب نباتًا وأشجارًا تدب فيها الحياة النباتية. وسُلبت منه هذه الحياة، فتحول إلى جمادٍ متخشّب، غير مُفْرغٍ من دلالات حياته الماضية. وهو الأمر المتسق مع الذات الإنسانية، التي وصلت المعاناة إلى تجميدها، في ماديةٍ خشبيةٍ، موحيةٍ بحياةٍ ماضية لهذه الذات المتخشبة في جمودها الكلي.
[2ــ4ــ2]: التجميد الجزئي
تتجلى جماليات التصوير البلاغي في نسقه الاستعاري التجميدي بصيغته الجزئية، في تجميد بعض أعضاء الجسد البشري. التي من أبرزها الأعضاء: (القلب، والرأس، والعين).
وفي تجميد (القلب) تجميد لوظيفته البيولوجية؛ فالقلب من حيثُ هو عضوٌ بوظيفةٍ بيولوجية في حياة الكائن الإنساني. وذلك؛ لأنه مركزُ توزيع الدم توزيعًا دوريًّا مستمرًّا إلى أجزاء الجسم كلها، لتستمر حياته البيولوجية، فالقلب عضلة “مركزية تخدم الأعضاء كلها وتمدها بالدم والغذاء والهواء ومختلف مقومات الحياة”(6).
وكذلك هو القلب محصلة الدلالات والمعاني المرتبطة بالعاطفة والمشاعر، لتستمر في الكائن الإنساني حياة مشاعره وأحاسيسه. من حيث اعتبار القلب معنى مجرد، كفيض من المشاعر والأحاسيس(7).
وفيما يتعلق بتجميد (العين)؛ فمن المتعارف عليه أن العين حاسة ذات أهمية واضحة، في وظيفتها المتمثلة في ارتباط الكائن الإنساني بالحياة. وتجميدها تجميدٌ لهذه القدرة الإنسانية، وتجميدٌ لإمكانية استيعاب مظاهر الحياة على حقيقتها المادية بهيئاتها البصرية المحسوسة.
لقد وظّف الشاعر اليمني المعاصر تقنية التجميد الجزئي، في سياقات شعريةٍ متعددة من الصورة البلاغية. وأقام هذ المنحى التصويري على تجميد أعضاء الجسد البشري، لا سيما منها أعضاء: (القلب/ والعين). وبذلك، استطاع أن يخصّب هذ التجميد بدلالات ورؤى، يغلب عليها أن تكون نابعة من معاناته وأحزانه تجاه نفسه، وتجاه أمته، وتجاه واقعه.
[2ــ4ــ3]: شعرية التجميد
تمثّل تقنية التجميد التصويري، في القصيدة اليمنية المعاصرة فضاءً فنيًّا لاستيعاب التجارب الشعرية. إذ جُمِّدَ فيها الكائن الإنساني والذات البشرية تجميدًا كليًّا وجزئيًّا، في محاولةٍ من الشعراء لتجاوز ثمن وجوديتهم المتحوصلة في خاصية الحياة والروح. هذا الثمن، الذي يدفعه الشاعر أحزانًا ومعاناةً متفاقمة باستمرار وجوده.
ويغلب على هذا التجميد أن يكون تجميدًا إلى وجودٍ مادي، لا حياة فيه. وهو ما سبقت الإشارة إلى أن أبرز هيئاته متمثّلة في مادية (الخشَب). وتحيل غلبة التجميد إلى هذه الهيئة تحديدًا، على محاولة الانسلاخ من الجسد المُعَرَّض للفناء. مع إمكانية دلالية أخرى، تكتنزها خاصية الاحتراق ــ إحدى خصائص الهيئة الخشبية ــ فتؤهل هذه الدلالة الكينونةَ الإنسانية المجمَّدة إلى قابلية الفناء احتراقًا. وفي ذلك، يأس مطلق للكائن الإنساني، تتبلور من خلاله رغبته اللاوعية بالفناء.
- الصورة البلاغية الكنائية قليلة في الشعر اليمني المعاصر، ومن التعاطي النقدي معها، ما ورد من تناول للصورة الكنائية في شعر البردوني، في دراسةٍ أنجزها الباحث عبد الله حمود الفقيه. ↩︎
- خليل عودة، “المستوى الدلالي للأداة في التشبيه”. مجلة جامعة النجاح للأبحاث، نابلس، العدد: (10)، 1996م، ص: (71). ↩︎
- يُنظر: أحمد قاسم أسحم، “الصورة في الشعر العربي المعاصر في اليمن 1980ـــ1995”. رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة آل البيت ـــ كلية الآداب والعلوم، عمّان، 1999م، ص: (68). ↩︎
- يُنظر: أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص: (279). ↩︎
- نفسه، ص: (282). ↩︎
- محمد بهائي السكري، “بين الضلوع معجزة .. اسمها عضلة القلب”. مجلة طبيبك الخاص، القاهرة، العدد: (529)، يناير2013م، ص: (19). ↩︎
- يُنظر: عبد الكريم قحطان، “الصورة في شعر لطفي جعفر أمان”. ط1، دار الثقافة العربية، الشارقة، 2002م، ص: (122). ↩︎