الصورة التشبيهية في شعر عبد الله البردوني
تتعدد المسارات الفنية والتقنيات الشعرية، التي استأنس بها الشاعر عبد الله البردوني، في إقامة معمار تجربته الشعرية. ومن تلك التقنيات ما يتعلق بالصياغات الشعرية، القائمة على الصورة الشعرية، منها الصورة التشبيهية. والصورة التشبيهية في شعر البردوني ــ بنوعيها مرسلةً ومؤكدةً ــ نسقٌ من هذا التصوير المنتمي إلى أنساق الصورة البلاغية.
[1]: الصورة التشبيهية المرسلة في شعر البردوني
تقوم الصورة التشبيهية المرسلة، على التشبيه، الذي ذُكرَت فيه أداة التشبيه(1). وهي على نمطين: الصورة التشبيهية المرسلة المفردة. والصورة التشبيهية المرسلة المركبة.
[1ــ1]: الصورة التشبيهية المرسلة المفردة في شعر البردوني
تمثل الصورة التشبيهية المرسلة واحدًا من المسارات التي تجسَّدت فيها القيم الجمالية والفنية في شعر البردوني، الذي زخر بهذا المسار الفني. لا سيما في الدواوين الأولى منه(2). من مثل هذا التجلي الشعري(3):
هاهنا الحزن على عادته *** فلماذا اليوم للحزن غرابة؟
ينزوي كالبوم، يهمي كالدبى *** يرتخي، يمتد، يزدادُ رحابة؟
في الصورة الأولى: (الحزن ينزوي كالبوم)، شبه الحزن بطائر البوم. وطرفا التشبيه هنا، ينتميان إلى حقلين مختلفين: الأول تجريدي (الحزن)، والثاني حسي (البوم). وقد تشابها في صفة الانزواء. ومجيء الانزواء ــ هنا ــ وجه شبهٍ، جسّدَ انسجامًا دلاليًّا مع الحزن. ذلك؛ لأن الانزواء من مرافقات الحزن وملازماته. كما تجلى انسجامٌ دلاليٌّ آخر مع الحزن؛ بمجيء (البوم) مشبّهًا به؛ فلا يمكن إغفال العلاقة الارتباطية الدلالية بين (البوم، التشاؤم، الحزن)، في الذهن الجمعي للمجتمعات الإنسانية(4).
والصورة الثانية: (الحزن يهمي كالدبى)(5). وطرفا التشبيه، أيضًا، من حقلين مختلفين، كالصورة السابقة: الأول تجريدي، والثاني حسي. مع تميز هذه الصورة عن الأولى بحركية وجه الشبه، التي تمظهرت دلاليًّا في مضارعة الفعل (يهمي).
وفي كلتا الصورتين، قام البناء التصويري على تقنية المجاوزة. خاصةً في الصورة الثانية، التي بدت فيها المفارقة على أكثر من وجه: الأولى أن الحزن يسيل، والسيلان كما هو معروف للسوائل. والثانية، إسناد فعل السيلان إلى الحزن. أما ثالث هذه المفارقات، فهو وجه الشبه بين الحزن والدبى في السيلان، الذي ربما يريد الشاعر به الانتشار(6).
[1ــ1ــ1]: خصوصية الصورة عند فاقدي البصر
في كلتا الصورتين السابقتين، لم يكن وجه الشبه بين طرفي التشبيه مصورًا تصويرًا دقيقًا. وهذه هي المفاجأة، التي غالبًا ما يتميز بها شعر العميان؛ “ذلك أن الشاعر الأعمى يذكر المشبه، فينصرف الذهن إلى المشبه به، أو احتمالات عدة لمشبهٍ به، قد يكون لائقًا، فيفاجئنا الشاعر به غريبًا لم يدرج ضمن الاحتمالات، وليس مما يضطره المعنى أو يتداعى إليه ذكر المشبه به(7).
وعلى ذلك، فمثل هذه الصور تكون مقبولة من الشاعر الأعمى؛ لأنها تعبر عن فهمه للأشياء، وربطها بسواها في ذهنه وفكره. فيعبر عنها كما يراها ببصيرته. ولعل في ذلك تفسيرًا لميلهم إلى الإغراب عن طريق التعويض(8). أو لعدم استطاعتهم تقليد الواقع العياني ومحاكاته في كثير من الأحيان. وذلك؛ لسببين: “أولهما خصوصية الإحساس بالأشياء لدى الشاعر الأعمى، وثانيهما، ذلك الضغط النفسي على وجودهم، مما يشكل لديهم تصورات مختلفة في دواخلهم للصورة التي يريدون توليفها”(9).
وأحسب أن الشاعر قد نجح في تشكيل صورةٍ جديدة، جسد فيها الحزن خلافًا للمعهود. علمًا أن ثقافته البلاغية متسعة المدارج، فبلاغة الصورة عنده، ملفتة للنظر حيث تميزه على أقرانه في العاهة(10). لذا؛ اتسمت بأبعادٍ بلاغية غير كلاسيكية، منسجمة مع مذاهب الشعر الحديث. فخلق بذلك، إطارًا حديثًا لبلاغية الصورة، مستندًا إلى الإطار الخارجي، لمفهوم البلاغة عند القدماء(11).
[1ــ2]: الصورة التشبيهية المرسلة المركبة في شعر البردوني
من نماذج الصورة التشبيهية المركبة في شعر عبد الله البردوني، هذه الصورة، التي مثَّلت فاتحةً جماليةً لقصيدة “عينة جديدة من الحزن”(12):
مثلما تعصرُ نهديها السحابةْ *** تمطر الجدرانُ صمتًا وكآبةْ
فالجدران تصب الغيث صمتًا وكآبة. وكأنها تلك السحابة العاصرة ماءها في أفق السماء. والكيفية الحركية بين طرفي التشبيه ــ في هذه الصورة التركيبية ــ هي العلاقة الدلالية المُسَوِّغة هذا التشبيه، الذي تقدم فيه المشبه به على المشبه، حينما قدم الشاعر الشطر الثاني على الأول؛ كون الوضع المفترض للبيت، هو أن يكون:
تمطرُ الجدران صمتًا وكآبة *** مثلما تعصر نهديها السحابةْ
ويتكشف لنا معنىً جديدٌ، من خلال هذا التقديم والتأخير، الذي يمكن عدَّهُ عملية إرهاصية مقصودة من الشاعر، لمعنىً جديدٍ. تمثّل في الدلالة على المساواة بين المتناقضات. وذلك في قوله عن الحزن(13):
وبلا حسٍّ يغني، وبلا *** سببٍ يبكي، ويستبكي الخطابةْ
يكتبُ الأقدار في ثانيةٍ *** ثم في ثانيةٍ يمحو الكتابةْ
وهنا نجد النقيض يحمل نقيضه، فالحزن: (يغني/ يبكي)، (يكتب/ يمحو). إذ ساوى الشاعر بين المتناقضات(14)، مُتّخِذًا من أداة التشبيه (مثل) ــ التي تقدمت هي أيضاً على طرفي التشبيه ــ أداةً رابطةً بين طرفي التشبيه. جسّدت بوظيفتها الدلالية هذه المساواة.
وتتجلى سمات الشعرية في الهيئة الكلية للمشبه من خلال دلالتين بارزتين، “الأولى: اختيار الفعل (تمطر) للتعبير عن كثافة الحزن المقترن بالكآبة. وهذا الفعل يستحضر في الذهن، عملية المطر التي مهد لها الشاعر بالشطر الأول. والدلالة الثانية هي في الجمع بين الحزن والكآبة … [و] الجمع بينه وبين الكآبة يتلاءم تلاؤمًا بنائيًّا ودلاليًّا مع عملية المطر الذي تعصره الكآبة”(15).
[2]: الصورة التشبيهية المؤكدة في شعر البردوني
مفهوم الصورة التشبيهية المؤكدة، هو أنها الصورة التي حُذِفت منها أداة التشبيه(16). وأداة التشبيه في التشبيه (المؤكد) قائمة في النفس، وإن هي غير موجودة على مستوى شكل التشبيه. فالأصل في التشبيه أن تذكر الأداة. ولكن قد تحذف لأغراض دلالية لا علاقة لها بتركيب التشبيه.
ومن هنا، جاءت تسميتهم للتشبيه المحذوف الأداة من دون وجه الشبه تشبيهًا (مؤكدًا). ومحذوف الأداة ووجه الشبه تشبيهًا (بليغًا). وهو أقوى الكل(17). وتكتفي هذه المقاربة النقدية للصورة التشبيهية في شعر البردوني باعتماد مصطلح (التشبيه المؤكد) ــ الصورة التشبيهية المؤكدة ــ بغض النظر عن أن تكون الأداة قد حُذفت من دون وجه الشبه، أو حُذفت الأداة ووجه الشبه معًا.
يخلق حذفُ أداة التشبيه من الصورة التشبيهية صورة فنية، لها دلالاتها وأبعادها الجمالية. بما يترتب عليه من نشأةِ علاقةِ غياب، للوساطة بين المشبه والمشبه به(18). ولا ريب، في أن التشبيه المؤكد “يمد الشاعر بإمكانات التوحد بين المشبه والمشبه به؛ فبذلك تسقط المقارنة والموازنة بين الاثنين، فضلًا عن المتعة التي يمكن أن يشعر بها المتلقي من إسقاط أداة التشبيه”(19).
ومن النماذج الشعرية، التي تجلت فيها الصورة التشبيهية المؤكدة في شعر البردوني، هذه الصورة الشعرية من قصيدته “صديق الرياح”(20):
طيوفُ الحياة على مقلتيه *** عصافيرُ داميةُ الأجنحةْ
فصديق الرياح هو المحارب المرتَزِق، الذي لا يقاتل في سبيل فكرةٍ أو مبدأٍ معين، وإنما يقاتل مقابل أجرٍ ماليٍّ. وبذلك، فلا يعنيه من المنتصر؟ أو المنهزم؟ بقدر ما يعنيه القتال مع الطرف الذي يدفع أكثر.
وما دام كذلك، فإن لذة الأخيلة وأطياف الحياة عنده تشبه حال العصافير. لكنها ليست العصافير البريئة المنطلقة للحياة، وإنما عصافير منزوية إلى ذاتها، تقطر أجنحتها دمًا.
ويقوم وجه الشبه بين طرفي التشبيه، على فكرة تحول كائنات الرقة والجمال من طبيعتها المرحة التواقة للحياة، إلى طبيعةٍ أخرى، جوهرها بترُ حبل الأمل وإرادة الحياة. فأطياف المرْتَزِق لا تنتظر مصيرًا سوى موتها بموته. والعصافير مستمرٌ نزيفها، فلا تنتظر مصيرًا، أيضًا، غير الموت.
- ينظر:
ــ الخطيب القزويني، “الإيضاح في علوم البلاغة”، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، ط4، بيروت، 1975م، ص: (388،387).
ــ عبده عبد العزيز قلقيلة، “البلاغة الاصطلاحية”، دار الفكر العربي، ط3، القاهرة، 1412هـ ـــ 1992م، ص: (42). ↩︎ - ينظر:
ـ وليد مشوح، “الصورة الشعرية عند البردوني”، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق، 1996م، ص: (256،241).
ـ محمد محمود رحومة، “دراسات في الشعر والمسرح اليمني”، دار الكلمة، ط1، صنعاء، 1406هـ ـــ 1985م، ص: (50). ↩︎ - عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ط1، صنعاء، 1423هـ ـ 2002م، جـ1/ ص: (591). ↩︎
- وإن كان هناك من الأدباء من نظر إلى البوم نظرة أخرى مغايرة؛ باعتباره طائرًا جميلًا، بريئًا مما علق به من دلالة، لذلك أحبه هذا الفريق من الأدباء، إلى درجة أن يكون هو المُهدى إليه، في صفحات إهداء بعض كتبهم.
ينظر على سبيل المثال:
ـ غادة السمان، “ع غ تتفرس”، الأعمال غير الكاملة8، منشورات غادة السمان، ط3، بيروت، 1985م، ص: (7، 12ـــ18).
ـ غادة السمان، “الرقص مع البوم”، منشورات غادة السمان، ط1، بيروت، 2003م، ص: (5). ↩︎ - (دبي) الدَّبَى: الجَرادُ قَبل أَن يَطِير وقيل الدَّبى أَصغرُ ما يكون من الجراد والنمل، واحِدَته دباةٌ. ↩︎
- ينظر: أحمد نصيِّف الجنابي، “عزف على أهداب القصيدة اليمنية المعاصرة”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (103). ↩︎
- جهاد رضا، “التصوير الفني في شعر العميان حتى نهاية القرن الخامس الهجري”، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة حلب ـــ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1992م، ص: (46،45). ↩︎
- نفسه، ص: (46). ↩︎
- وليد مشوح، “الصورة الشعرية عند البردوني”، مرجع سابق، ص: (248). ↩︎
- نفسه ، ص: (249). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. مصدر سابق، جـ1/ ص: (590). ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص: (591). ↩︎
- يُنظر: محمد مسعد العودي، “التناص في شعر البردوني”، وزارة الثقافة، إصدارات ثقافية: (1)، صنعاء، 2012م، ص: (43،42). ↩︎
- أحمد الجنابي، “عزف على أهداب القصيدة اليمنية المعاصرة”، مرجع سابق، ص: (90). ↩︎
- .يُنظر: عبده عبد العزيز قلقيلة، “البلاغة الاصطلاحية”، مرجع سابق، ص: (43). ↩︎
- يُنظر: أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي، “مفتاح العلوم”، ضبطه وشرحه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1403هـ ـــ 1983م، ص: (355). ↩︎
- يُنظر: ناصر بركة، “ديوان (منزل الأقنان) لبدر شاكر السياب، دراسة أسلوبية”. رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الحاج لخضر ــ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، باتنة ـ الجزائر، 1428هـ ـ 2007م، ص: (148). ↩︎
- فاطمة عبد الله محمد عبد الحبيب العمري، “أثر التراث في شعر عبد الله البردوني”، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الكوفة ـــ كلية الآداب، 1424هـ ـــ 2003م، ص: (163). ↩︎
- عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. مصدر سابق، جـ1/ ص: (450). ↩︎