الصورة التشبيهية المفهوم والرؤية النقدية
قبل الحديث عن الصورة التشبيهية، لا بد من التعريج على الصّورة البَلاغيّة. التي تنتمي إلى دائرتها تقنية الصورة التشبيهية، ومعها تقنيتا الصورتين: الاستعارية والكنائية. على ما بين هذه المسارات الثلاثة (التشبيه، الاستعارة، الكناية)، من تمايز في مستوى الحضور والفاعلية الفنية في تشكيل التجربة الشعرية. وتمايُز في الاضطلاع باستيعابها للمعاني في سياقات شعرية. وفقًا للمدى الذي تتمايز به كل ذات شاعرة عن غيرها.
الصُّورة البلاغيّة
االصورة البلاغية في سياقها النقدي، هي تلك الصّورة التي ــ من خلالها ــ يتجلّى نوعٌ من العلائق الفنية، بين تقنية التصوير الشعري والبَلاغة(1)؛ إذ نالت الجَوانبُ البلاغيّة اهتمامًا بارزًا من النقاد العرب القدامى، ومثّلت مرجعيةً مهمةً، في تعاطيهم النقدي مع المنجز الشعري القديم والحكم عليه. كما أنّ اهتمامهم هذا بالصورة البلاغية، قد بلغ بهم مبلغًا بعيدًا. حدّ أن يرى “أبو هلال العسْكري” أن تعريف البلاغة أكثر ارتباطًا بالصورة، إن لم يكن مقصورًا عليها. إذ أشار في تعريفه للبلاغة، إلى أنّها كل ما يمكن أن تبلغَ بِه قلوب السامعين، فيتمكن في نفوسهم، مع تصوير مقبولٍ وعرض حَسَن(2).
أهمية الصورة البلاغيّة
أفضى الاهتمامُ المتقادِمُ بالتصوير البلاغي، إلى أن يحظى هذا النوع من التصوير بأهمية فنيّة. لذلك؛ لم يعُد مجرّد حُلىً وزخارف زائدة. بل صار من الوسائل الفاعلة في توصيل المعاني إلى أذهان السامعين(3). كما صار له أثره المهم، في تعميق الدلالة الشعرية، والبلوغ بها إلى أهدافها المنشودة. ذلك؛ لأن الصورة البلاغية، تعمل على تحويل التجربة الحياتية بمختلف أشكالها إلى كيَانٍ متخَيَّل. لما تقوم عليه من تركيز للتركيب اللغوي من جهة، وما تسعى إليه من العمل على التوسيع الدلالي من جهة أخرى(4).
مفهوم التشبيه والصورة التشبيهية
يعدُّ التشبيه نسقًا فنيًّا جوهريًّا، تتشكل به الصورة التشبيهية. ويتضمن مفهومه اللغوي الدلالة على “التمثِيْل”(5). أمّا مفهومه الاصطلاحي، فقد تعددت أقوال النقاد فيه. وعلى ما في هذا التعدد، من ثراء في تناول التشبيه من أكثر من زاوية. إلّا أنه لا يجسّد اختلافًا جوْهريًّا، بقدر ما يجسّد اختلافًا إثْرائيًّا، لأبعاد هذا المصطَلح البَلاغي، وإحالاته في النقدِ العربيّ القديْم.
يتعاطى “ابن رشيق القيرواني”، مع التشبيه، باعتباره “صفَةَ الشّيءِ بِما قارَبَه وشَاكَلَهُ مِن جِهةٍ واحدَة، أوْ جِهاتٍ كَثيْرة، لا مِن جَميْع جِهاتِه؛ لَأنّه لَو ناسَبَه مُناسبةً كُليَّةً، لكَانَ إِيَّاه”(6). أمّا “عبد القاهر الجرجاني”، فَيَرى “أنْ يثْبت لِهذا معْنىً مِن معانِي ذَاكَ أوْ حُكْمًا مِن أحْكامهِ كَإِثباتِكَ للرّجلِ شَجاعةَ الأَسَد”(7).
وتأسيسًا على هذا الاتّفاقِ الجَوهري ــ في مضامِينِ الأَقوالِ التي تعددت، فتعددت الزوايا التي تعاطت من خلالها مع تقنية التشبيه ــ يمكن الوصول إلى ما يتمخض عنه هذا الاتفاق، من رؤية نقدية في التشبيه. بوصفه “عَلاقةَ مُقارَنَةٍ تَجْمعُ بيْنَ طَرَفَيْن، لاتِّحادِهما أوْ اشْتراكِهما في صِفةٍ أو حَالٍ أوْ مَجْموعةٍ مِن الصِّفاتِ والأحْوالِ. وقَد تسْتَند إلَى مُشابَهةٍ حِسِّيّة. وَقدْ تسْتَند إلَى مُشابَهةٍ فِي الحُكْم أو المُقتضَى الذِّهْنِي الذِي يَرِبطُ بَيْن الطَّرَفَيْن المُقارَنيْن. [مِن] دُونِ أنْ يكونَ مِن الضَّروْري أنْ يَشتركَ الطَّرَفانِ فِي الهَيئةِ المَادِيَّةِ، أوْ فِي كَثِيْرٍ مِن الصِّفاتِ المَحْسُوسَة”(8).
التشبيه في النقد الأدبي: القديم والحديث
بتأمل التناول النقدي العربي القديم لتقنية التشبيه، يتجلى افتتان العربِ به منذُ القِدم. وذلك؛ بوصفه واحدةً من أقْدم صِور البَيَان العربي. فقد ساد اعتماده عمودًا للصورةِ في النَّظريّة الشعريّةِ العربيّة القدَيْمةِ كُلِّها(9) وهو ما يشير إليه الدكتور شوْقي ضيْف، مؤكّدًا مكانة هذه الصورة البيانيّة وتقادُمها في هذه النظرية العربية. بما في تأكيده ــ هذا ــ إشارته إلى أنّ الذي استلهم الشّاعر العربيّ منه فكْرة التشبيه، هو الشاعر امرؤ القيس(10).
وعلى هذه المكانة المتقدمة، التي يحظى بها التشبيه، في النظرية الشعريّة العربيّة التقليديّة. فإنّ العصر الحديث قد نال منها؛ إذ يرى نقّاد هذا العصر أنّ التشبيْهَ يَأتي في أدْنى درجةٍ من درجاتِ الاسْتخدام المجازي لإمكانات اللغة الشعرية. لأنّه ــ في عمومه ــ يقومُ على نوعٍ من الوصفِ البَسِيْط، والمُعَادلاتِ المَنْطقيّة(11). وبذلك؛ فالنقاد المحدثون لا يميْلون إلى هذا النوعِ من المجاز. بقدر ما يميلون إلى المجاز المنطوي على طاقةٍ أكبرِ من فاعلية التوَحُّد والجَمْع. لذلك، فإن المجاز القائم على “الاستعارة”، أكثر حظوة لديهم من المجاز القائم على “التشبيه”(12). وهو ما أفضى إلى أن تتقدم الصّورةُ الاسْتِعاريِّة، على الصُّورةِ التّشبيْهيّة في العصرِ الحديث.
ماهية الاختلافِ بين الرؤيتين: القديمة والحديثة
يتجلّى جوهرُ الاختلاف بين هاتين الرؤيتين النقدِيّتينِ (القديمة، والحديثة)، في تعاطيهما مع “التشبيه”، في تجسيد هذا الاختلاف لاختلافٍ قائمٍ بين طبيعة الصورةِ التشْبيْهيّة: (التقليْديّة، والحَديْثة).
ويمْكن الوقوف على التمايُز بين الصُّورتين التشبيهيّتين (القديمة والحديثة)، من خلال عددٍ من الفروق. منها أن الرؤية النقدية القديمة، تحرص على أن تلمس نسقًا من الشّبَهِ الحِسِّي الجامع بيْن طَرَفي التّشبيْه، في محيطهما الخَارجي. كمَا أنّها ــ من ناحيةٍ أخرى ــ تُلحُّ على توافر نسقٍ من التَّطابُقِ والتَّجانُسِ بَيْن المُمَاثِلات. أمّا الرؤية النقدية المعاصرة للتشبيه، فإنها تستهدف إقامةَ التّمَاثُلِ وفْقًا للإدراكِ الدَّاخلي لِحركة الأشْياء، وانْفعَال الشّاعر بِها(13).
ويبدو أن المُجدي للتجربة الشعرية، أن يحرص الشاعر في صياغته لصوره التشبيهية، على أن يقيمها بالمعنى الذي تتجسّد فيه قدرته على التأليف بين المتباعدات. وقد تنبّه النقاد العرب إلى ذلك منذ القدم(14). كما أنّ التعاطي مع الصورة التشبيهية؛ وفقًا لهذه الرؤية(15)، هو الأكثر جدوى. لا التعاطي معها؛ وفقًا للرؤية التقليديّة، التي تحاولُ أنْ تتمسّكَ بضرورةِ توافر المُقاربة بيْن طرفي التشبيه (المُشبّه والمُشبّه به). إذ رسّخت توافر هذه المقاربة مقياسًا وحيدًا لجمالية الصورة الشعرية. لا سيما في حرص هذه الرؤية، على أنْ يتجلّى وجهُ الشبه بين طرفي التشبيه بوضوح(16).
أهميّة التّشبيه وفاعليّتُه
لقد تمايَز النقدان القديم والحديث، في رؤية كُل منهما للتشبيه. وعلى ذلك، فإنّ ما يمكنُ ملاحظته، وعدم إغفاله، هو الحضور الفاعل والمؤثر لهذه التقنية التصويرية في سياقات الشعرية الحديثة. إذ يتجلى هذا الحضور والتأثير فيما اضطلع به التشبيه من وظائفَ جديدة. فلم تعد وظائفه مقصورة على: الشّرْح، أو الوَصْف، أو التَّوْصيل. وإنما اضطلع بوظائف جديدة، منها: التّأثيْر، والخَلْق، والتّعْبير(17).
كما أنّ للتشبيه أهميته الكامنة في قدْرته علَى لَفتِ انتباهِنا، إلى ما يزخر به الوجود من مخلوقات ومعطياتٍ جمالية. وذلكَ؛ من خلال سعيه إلى التعاطي معها محاكاةً، وإبرازًا لمحاسنها التي تظهر في المُشبّه. من خِلال إلْحاقِها أوْ مُقابلتِها بجماليات العناصر المُشبّه بها(18). وإلى ذلك، فالتشبيه من الوسائل المهمة، الفاعلة في تحرير النصوص من مساراتِ رَتابَةِ القُولِ المُسَطّحِ والعَادِي(19).
لقد احتفظ التشبيه بمكانته في الشعريّة العربيّة، القديمَة والحديثة. على التمايُز في النظرة إليه بين النقدين القديم والحديث. ولعلّ من أهم العوامل المساعدة على احتفاظه بهذه المكانة، أن ماهيته الجماليّة، تكمنُ في قدرات الشّاعر وأدواته الإبداعية، التي تتشكل منها مهارته في صياغة تجربته الشعرية. فمن خلال هذه القدرات، يتمكّن من التعاطي الشعري القائم على الجمع بين معطيات متعددة، ومتغيّرات مختلفة. تتماهى في أنساق من التصوير الشعري، الذي يحيل على نسقٍ من البُنى التي تؤالف بين المعطيات غير المتجانسة.
- يُنظر: صبحي البستاني، “الصورة الشعرية في الكتابة الفنية, الأصول والفروع”, دار الفكر، ط1, بيروت, 1986م, ص: (20). ↩︎
- أبو هلال العسكري, “كتاب الصناعتين الكتابة والشعر”, تحـقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم, وعلي البجاوي, المكتبة العصرية, بيروت, 1986م، ص: (10). ↩︎
- يُنظر: جان كوهين, “بنية اللغة الشعرية”، ترجمة: محمد الولي, ومحمد العمري, دار توبقال, الدار البيضاء, 1986م, ص: (46). ↩︎
- جبار عباس اللامي, “شعر المرأة في العصر الجاهلي, موضوعاته وخصائصه الفنية”, مركز عبادي, ط1, صنعاء, 1998م, ص: (160). ↩︎
- يُنظر: ابن منظور (محمد بن مكرم)، (630ـــ 711هـ)، “لسان العرب”، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، د.ت، مادة (ش.ب.ه). ↩︎
- الحسن ابن رشيق القيرواني (390ــ 456هـ)، “العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده”، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، بيروت، 1401هـ ـــ 1981م، جـ1/ ص: (286). ↩︎
- عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة”. قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـــ القاهرة، دار المدني ـــ جدة، 1412هـ ـــ 1991م، ص: (87). ↩︎
- جابر عصفور، “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب”، المركز الثقافي العربي، ط3، بيروت، 1992م، ص: (172). ↩︎
- يُنظر: عبد القادر الرباعي، “الصورة الفنية في النقد الشعري”، دار العلوم، الرياض، 1984م، ص: (52). ↩︎
- شوقي ضيف، “تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي”، دار المعارف، ط24، القاهرة، 2003م، ص: (263). ↩︎
- ريتا عوض، “خليل حاوي”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1983م، ص: (12). ↩︎
- نفسه، ص: (9). ↩︎
- يُنظر: بشرى موسى صالح، “الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث”، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1994م، ص: (126). ↩︎
- يُنظر: الحسن ابن رشيق القيرواني (390ــ 456هـ)، “العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده”، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، بيروت، 1401هـ ـــ 1981م، جـ1/ ص: (286). ↩︎
- يُنظر: أحمد قاسم أسحم، “الصورة في الشعر العربي المعاصر في اليمن 1980ـــ1995”. رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة آل البيت ـــ كلية الآداب والعلوم، عمّان، 1999م، ص: (59). ↩︎
- يُنظر: مصطفى الصاوي الجويني، “البيان فن الصورة”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1993، ص: (171). ↩︎
- محمد مسعد العودي، “الصورة في شعر المقالح، الأبعاد الرمزية والسيكولوجية”، مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، صنعاء، 1425هـ ـ 2004م، ص: (32). ↩︎
- محمد رفعت أحمد زنجير، “التشبيه في “مختارات البارودي” دراسة تحليلية”، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة أم القرى ـ كلية اللغة العربية، مكة المكرمة، 1415هـ ـ 1995م، ص: (316). ↩︎
- يُنظر: ناصر بركة، “ديوان (منزل الأقنان) لبدر شاكر السياب، دراسة أسلوبية”، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة الحاج لخضر ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، باتنة ـ الجزائر، 1428هـ ـ 2007م، ص: (140). ↩︎