الصورة الحسية في الشعر اليمني المعاصر

الصورة الحسية في الشعر اليمني المعاصر

الصورة الحسية في الشعر اليمني المعاصر

د. عبده منصور المحمودي

تمثّل الصورة الحسية واحدة من تقنيات الصورة الشعرية، في الشعر اليمني المعاصر. لا سيما ما يتجلّى من جماليّاتها، في أنواع الصورة: السمعيّة، والشميّة، والذوقيّة، واللمسيّة. إذ حاول الشعراء اليمنيون المعاصرون، أن يستفيدوا من هذا النمط التصويري، في تجسيد رؤاهم وأفكارهم. بعد أن أحدثوا فيه التجديد، الذي يجعل منه نمطًا قادرًا على استيعاب تجاربهم الشعرية(1).

[1]: الصورة السمعية Auditory image

من أهم أنواع الصورة الحسية في الشعر اليمني المعاصر الصورة السمعية(2). التي أسهم الاستئناس بها وتجديد آلياتها، في تحديث القصيدة اليمنية المعاصرة.

[1ــ1]: شعرية البكاء

تأتي حال “البكاء” في الصدارة، من تجليّات الصورة السمعية، في الشعر اليمني المعاصر. من خلال صيغةٍ محوريةٍ، أكثر مركزيةً وحضورًا، في دلالات “البكاء” بلفظه. أو من خلال توازٍ دلالي، متقارب في صيغته التي تتمحور في “النوح” تارة. و”النحيب” تارةً أخرى.

ويحيل الحضور البارز لحال “البكاء” ــ في نسق الصورة السمعية من الشعر اليمني المعاصر ــ على نوعٍ من التناغم والانسجام التكويني، بين الواقع ــ بديمومة أحزانه وكثافة أساه ــ والإبداع الشعري، الذي يتخذ من البكاء ـــ بطبيعته المتجسدة في كونه أوضح تعبير حسيٍّ عن هذا الواقع من جهة، وبكثرة ورود نماذجه وتعدد سياقاته في القصيدة اليمنية المعاصرة، من جهةٍ أخرى ـــ تجسيدًا لما في هذا الواقع، من كثافةِ حزنٍ وديمومة أسى.

كما يأتي ــ في سياق ذلك ــ حضور “الأنين”؛ بوصفه تجليًّا آخر من تجليّات الصورة السمعية، في الشعر اليمني المعاصر، وتجسيدًا موازيًا لقتامة الواقع، وأحزانه. بما في صوت الأنين من طاقةٍ إيحائية، مكتنزة بدلالات الشعور الحاد بالآلام، التي تتبلور في صورٍ سمعيةٍ، بالغة التعبير والإيحاء.

[1ــ2]: العنوان صورة سمعية

من أبرز تجليّات الصورة السمعية حلولها عتباتٍ أولى (عناوين) في الشعر اليمني المعاصر. إذ كانت العنونة بصورٍ سمعية ــ لبعضٍ من دواوين الشعراء اليمنيين المعاصرين وقصائدهم ــ سمةً من سمات القصيدة اليمنية المعاصرة(3).

ومن عناوين الدواوين الشعرية، التي قامت صياغتها على جماليات الصورة السمعية: ديوان عبد العزيز المقالح “مأرب يتكلم”. وديوان لطفي جعفر أمان “بقايا نغم”. وديوان شوقي شفيق “مكاشفات”. وديوانا محمد الشرفي: “ولها أغني”، و”أغنيات على الطريق الطويل”.

أمّا عناوين القصائد، التي تمت صياغتها بنسق التصوير السمعي، فمنها: قصيدة عبد الله البردوني “أغنيات بانتظار المغنِّي”(4). وقصيدة محمد محمود الزبيري “صرخة إلى النائمين”(5). وقصيدة شوقي شفيق “أصوات احتباس الرمل”(6).

ويبدو أن بناء عنوان القصيدة بتقنية الصورة السمعية له حضورٌ بارزٌ ومكثفٌ في شعر المقالح. من ذلك، عناوين قصائده: “أغنيات صغيرة للحزن”(7). و”البكاء بين يدي صنعاء”(8). و”الطفل والمغني الغريب”(9). و”تقاسيم على قيثارة مالك بن الريب”(10). و”أغنيات للرماد”(11).

[1ــ3]: فضاءات التجديد

يُلاحَظ نوعٌ من التجديد ــ الفنيّ والفكريّ ــ في بناء الصورة السمعية في القصيدة اليمنية المعاصرة. من خلال ارتقاء الوظيفة الفنيّة في هذه الصورة، إلى الاضطلاع بتجسيد رؤية الشاعر، وبنائها. وفي ذلك، امتدادٌ إلى التطور العام في هذا النوع من التصوير الحسيّ في التجربة الشعرية اليمنية المعاصرة، الذي تطور ــ كثيرًا ــ عمّا كان عليه. فاضطلع بوظيفة مهمة، في بناء الرؤية والفكرة وتجسيدهما(12).

[2]: الصورة الشميَّة Olfactoryimage

وظّف الشاعر اليمني المعاصر الصورة الحسيّة الشميّة ــ بنسقيها الحسّيّ والذهنيّ ــ في التعبير عن بعضٍ من معانيه، ومواقفه، ورؤاه الشعرية.

[2ــ1]: الصورة الشمية الحسيّة والذهنيّة

تقترن الصورة الحسية الشمية، بمحسوسات ذوات وجودٍ مادي. وبذلك؛ فقد كانت العطور ومصادرها النباتية أحد المرتكزات المهمّة، التي قامت عليها الصورة الشمية، في الشعر اليمني المعاصر. كالورد، والزهر، و”الكاذي”، و”القرنفل”.

أمّا الصورة الشميّة الذهنيّة، التي تقترن بروائح المشمومات الذهنية. فقد ارتبطت ــ في الشعر اليمني المعاصر ــ بالتعبير عن الأفكار والمعاني والمفاهيم الذهنية، التي تتصل دلالاتها ــ في الغالب منها ــ بدلالات المعاناة والحزن والأسى.

[2ــ2]: فضاءات التجديد

تتسم الصورة الشميّة في الشعر اليمني المعاصر، بنسق من التجديد والتحديث. منه تجسيدها لرؤية الشاعر؛ تكاملًا مع أنساق حضور هذه السمة التجديدية التصويرية، في الشعر اليمني الحديث. ذلك؛ لأن “الشاعر المعاصر في اليمن، لم يتخذ الصورة الشمية للتزيين، أو الشرح، أو غير ذلك مما يجعلها زائدة، وإنما كان هدفه منها بناء الصورة الكلية، وتجسيد رؤيته”(13).

كما يُلاحظُ مستوىً تجديديّ آخر، مثَّلَهُ الانتقال بالعطور ومصادرها النباتية من وظيفتها المتصلة بأحاسيس السعادة، إلى وظيفةٍ مناقضةٍ، جوهرها إثارة مشاعر الشجن ودلالاته. وفي ذلك، تصوير لطغيان معطيات المعاناة، على شتى مظاهر الحياة اليمنية. بما في ذلك، مُكوّنات السعادة والمسرة. كما يمكن التماس مساربَ دلالية موْصِلَة إلى ما يشبه نزعةً إنسانية ــ لا واعية ــ إلى عالمٍ جماليٍّ. في محاولةٍ من الذات، لمواجهة المعاناة، بأدواتٍ مشاكسة لطبيعتها. وإن لم تكن هذه المحاولة مجدية.

[3]: الصورة الذوقية  Gustatory Image

استخدم الشاعر اليمني المعاصر الصورة الذوقيّة في قصائده، للإيحاء برؤيته(14). لذلك؛ كانت أداة لتجسيد رؤيته الشعرية، بلغة شعرية رفيعة متميزة(15). لاسيما في ما ورد منها متضمّنًا صورًا حسية ذوقية، بكيفياتها الخالصة والممتزجة.

[3ــ1]: الطّعوم الخالصة

من تجليّات هذا البعد من الصورة الذوقية في الشعرية اليمنية المعاصرة، الاعتماد في بناء هذه الصورة على صفتي: “الحلاوة”، و”المرارة”. فقد كان لطعم المرارة حضوره في صور شعرية متعددة، من القصيدة اليمنية المعاصرة. بما هو عليه ــ هذا الحضور ــ من استناد إلى مفاهيم ذهنيّة. من مثل السؤال المتصف بطعم المرارة عند عبد الله البردوني:

“أعاني مرَّ السؤال”(16).

وكذلك هو الأمر، في ما اتّسم به القهر من طعم المرارة، التي فتكت بآمال الشاعر محمد الشرفي:

“مرارة القهر كم شنّتْ على أملي”(17).

ومثل ذلك، طعم المرارة في العذاب، عند الشاعر نفسه:

“مَنْ أحبُّ بعدهُ مرارةَ العذاب”(18).

ويمكن القول إن في مثل هذه الصورة الشعرية ــ التي تشكلت جماليّاتها من صفة طعم المرارة ــ تكتنز المفاهيم الذهنيّة فيها دلالاتِ عذابٍ، وألم، ومعاناة. وفي ذلك تجسيدٌ للأثر النفسيّ، الذي تتركه تلك المفاهيم، في الذات الشاعرة؛ انسجامًا مع ما يتركه طعم المرارة، في حاسة الفرد الذوقية.

كما أن في ذلك إحالةً دلالية، على المضمون المشحون به مذاقُ المرارة، وديمومته القاضية على حياة المرء. وذلك؛ اتكاءً على ما رسخ في الذهنية الإنسانية، من سيادةٍ للمذاق المرّ في السموم الخطرة. فإن كانت السموم تجهز على حياة الفرد، فإن المفاهيم المُرّة يمكن أن تجهز على حياته العقلية والفكرية.

[3ــ2]: الطعوم الممتزجة

من الصور الذوقية، ما يتشكّل في بنيةٍ، تتمازج فيها الطعوم الخالصة، مكونةً طعمًا خاصًا، فيه من كل كيفيةٍ ذوقيةٍ نصيبٌ ما. ويتجلّى في المأكولات شيءٌ من هذا التمازج، الذي تصل إليه حاسة الذوق، من خلال عمليات الأكل ومراحله. كما هي الحال في عملية (المضغ)، التي تصل بالممضوغ، إلى أقصى مدىً ممكنٍ، من التمازج للطعوم فيه.

كذلك هو الأمر في الأشربة؛ إذ تتنوع مذاقاتها، وتختلف باختلاف أنواعها. وبذلك؛ تتنوع الإحساسات بطعومها، بتنوع واختلاف مكوناتها وتنوع آثارها المختلفة، في حاسة الفرد الذوقية. كما أن رغبة الشارب في المشروب من عدمها، هي التي تحدد الطريقة التي سيتذوق بها إيّاه.

كثافة “المرارة” وندرة “الحلاوة”

يبدو في الشعر اليمني المعاصر نوعٌ من الندرة في الصور الذوقية، القائمة على كيفية “الحلاوة”. وذلك؛ لانتماء هذه الكيفية، إلى حقلٍ لا يتسق مع واقعية الحياة اليمنية، المنهكة بالمعاناة والألم. باستثناء ما ورد من هذه الكيفية صورًا شعرية، مُفرغةً من دلالاتِ هذه الكيفية الذوقية.

وفي المقابل تحظى كيفية “المرارة” بحضورٍ كبير في الصورة الذوقية، في الشعر اليمني المعاصر. وذلك؛ لما تُمثّله هذه الكيفية ــ من خلال اختمار وتراكم تاريخها الدلالي ــ من إحالةٍ على أقسى ما تتعذب به النفس البشرية، من المعاناة والتألم. وبذلك؛ كانت هذه الكيفية هي الأكثر اتساقًا مع نسق محورية المعاناة والألم، في الحياة اليمنية.

[4]: الصورة اللمسية  Haptic Image

يغلب على الصورة اللمسية في الشعر اليمني المعاصر أن تأتي نسقًا تتمازج فيه أنواع الإحساسات اللمسية. في معاضدةٍ ذات بُعدٍ ثانويٍّ للإحساس المحوري، الذي تقوم عليه الصورة. وفي ذلك تكثيفٌ ذو إثراءٍ لحضور ماهية الإحساس اللمسيّ، من خلال حشد أنواعه، التي تتمازج في الصورة اللمسيّة الواحدة.

كما يغلب على ــ هذه الصورة ــ الإحساسُ بالسخونة، والتلازم فيها بين هذا الإحساس والدموع. وفي ذلك تجسيدٌ لآلام البكاء. كما أن هذا التلازم يمثل أبلغَ تصويرٍ لسطوة الحزن المطلقة. وأقسى تغلغل له في الذات الشاعرة، وتفنُّنه في تعذيبها. لذلك؛ تجسّد الدموع ــ بسمتها الاحتراقية الساخنة ــ سطوة الحزن وقسوة تعذيبه وعذابه. ويقوم هذا التجسيد التصويري، على نوعٍ من التجانُس بين أثر الإحساس بالسخونة وأثر الحزن في إضرام العاطفة وتأجيج نارها.

وقد وظّف الشاعر اليمني المعاصر التصوير اللمسيّ، في استيعاب رؤيته الشعرية. وكذلك، وظفّ ــ هذا النوع من الصورة الحسيّة ــ في التعبير عن موقفه من معطيات واقعه المعاصر، وأبعاد المعاناة فيه، ومضامين بؤسه وأحزانه. وبذلك؛ كان لهذا النسق الفنيّ ثراؤه الإيحائيّ والدلاليّ، في بنية التصوير الملموس. بكيفياته، وتنَوُّعِ هيئاته، وتجلياته المختلفة.

إضاءة

“القرنفل”: أحد نباتات العائلة الآسية. موطنه الأصلي “جزر مولوكا”، في إندونيسيا وجنوب الفيليبين. وتتم زراعته ــ حاليًا ــ على نطاق واسع، في عدة بلدان. من مثل: “تنزانيا”، و”مدغشقر”، و”جبال الإنديز”، و”البرازيل”. وبعض الدول العربية، كاليمن، والسعودية، والبحرين.

وهو نبات عطريّ. له ورق كورق الرَّند، وعقد كعقد الريحان. وله منافع طبية عديدة. ويعد من أحب وأجمل النباتات، التي تزرع في الحدائق لجمال أزهاره وطول موسمها. كما أنه من الأعشاب المعمرة. إلّا أنه يفضل تجديد زراعته سنويًّا؛ ليعطي أزهارًا كثيرة وقوية ذات ألوان جذابة. وأزهار “القرنفل” مهمة تجاريًّا؛ لصلاحيتها للقطف، وتزيين أواني الأزهار، وتنسيق السلال والباقات(19).

  1. ينظر: أحمد قاسم أسحم، “الصورة في الشعر العربي المعاصر في اليمن 1980ـــ1995”. رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة آل البيت ـــ كلية الآداب والعلوم، عمّان، 1999م، ص: (68). ↩︎
  2. نفسه، ص: (69). ↩︎
  3. نفسه. ↩︎
  4. عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”. إصدارات الهيئة العامة للكتاب، ط1، صنعاء، 1423هـ ـ 2002م، جـ2/ ص: (840). ↩︎
  5. محمد محمود الزبيري، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (225). ↩︎
  6. شوقي شفيق، “مكاشفات”. دار الهمداني، عدن. د.ت، ص: (51). ↩︎
  7. عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، جـ3/ ص: (226). ↩︎
  8. نفسه، جـ3/ ص: (38). ↩︎
  9. نفسه، جـ2/ ص: (707). ↩︎
  10. نفسه، جـ2/ ص: (718). ↩︎
  11. نفسه، جـ2/ ص: (447). ↩︎
  12. أحمد قاسم أسحم، “الصورة في الشعر العربي المعاصر في اليمن”، مرجع سابق، ص: (72). ↩︎
  13. .نفسه، ص: (74). ↩︎
  14. نفسه، ص: (75). ↩︎
  15. نفسه، ص: (76). ↩︎
  16. عبد الله البردوني، “الأعمال الشعرية”، مصدر سابق، جـ1/ ص: (250). ↩︎
  17. محمد الشرفي، “والوصية العاشرة أن تحب”. دار المسيرة، بيروت، د.ت، ص: (97). ↩︎
  18. محمد الشرفي، “الحب دموع والحب ثورة”. مطبعة عكرمة، ط2، دمشق، 1984م، ص: (131). ↩︎
  19. ينظر: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، “الموسوعة العربية العالمية”. ط2، الرياض، 1419هـ ـــ 1999م، جـ18/ ص: (171،170). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *