الصورة الحسية المتراسلة

الصورة الحسية المتراسلة

الصورة الحسية المتراسلة

د. عبده منصور المحمودي

الصورة الحسيّة المتراسلة: لغةً، واصطلاحًا

يأتي (التراسل) في دلالته المعجمية، من قولهم: “(تَرَاسلَ) القومُ: أَرسلَ بعضُهم إلى بعضٍ رسولًا أو رسالة”(1). ومن القول: تَرَاسَلَ الصديقان، أي تبادلا الرسائل. والتراسلُ بالألحاظ، يعني تبادل النظرات(2). أما (الحسِّيّ) فمن (الحواس): جمعُ حاسّة. تحملُ مادتُه المعجمية (الحِسّ) ــ ومثلها اشتقاقاتُها ــ الدلالةَ على الإدراك والوعي والمعرفة. و(حسّ/ أحسّ) فلانٌ الشيءَ وبه: عَلِم به وأدرَكَهُ بإحدى حواسِّه(3).

و(التراسل الحسيّ) في الدلالة الاصطلاحية، نظريةٌ أدبية حديثة. تقوم في جوهرها على إلغاء الفروق الوظيفيّة بين الحواس الإنسانية. عن طريق تكوين علائق حوارٍ بين حاستين منفصلتين أو أكثر(4). حيث تتبادل الحواس أدوارها الإدراكية لدى الشعراء. فينفتح بعضها على بعضها الآخر، ويكتسب منه بعض معطياته(5).

وعلى ذلك، يأتي وصفُ مدركات حاسةٍ من الحواس بصفاتِ مدركاتِ حاسة أخرى. فتصير المسموعاتُ ألوانًا. وتصبح المرئياتُ عطورًا، والمشمومات ألحانًا… وبذلك تُقامُ صلاتٌ متداخلةٌ، بين معطيات الحواس. حيث تتشابك ــ في نسيجٍ من العلائق ــ المَشاهدُ والألوانُ والأصواتُ. ويمتزج بعضها ببعضها الآخر. فتحمل الألحانُ صفةَ الرحابة. ويحمل القمرُ صفة الشراسة. وتُوْصَفُ الشمسُ بمرارة المذاق(6).

الصورة الحسية المتراسلة والمدرسة الرمزية

نشأت الصورة الحسية المتراسلة ــ مذهبيًّا ــ في أحضان المدرسة الرمزية. فهي واحدةٌ من أهم التقنيات، التي جاءت بها هذه المدرسة، التي نشأت في أوروبا، وَلَمَسَ شعراؤها “تشابه الموقع النفسي للحواس. إذ يترك اللونُ أثرًا يشبه أثرَ برودة المطر، أو وَقْعه، أو الزرع وخضرته، أو الصوت وصداه(7). وبذلك؛ فهي “صورة رمزية ذاتية لا موضوعية، كما هي عند البرناسيين، وهي تجريدية تنتقل من المحسوس إلى عالم العقل والوعي الباطني، ثم هي مثالية، لأنها تتعلق بعواطف دقيقة عميقة، تقصر اللغة عن جلائها”(8). وكان (بودلير)ــ أبرز شعراء هذه المدرسة ــ قد أعلن مقولتَه: “إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب”(9). وعلى هذه المقولة اتكأت تقنية التراسل الحسيّ في الشعر الحديث.

لم تقف تجربة الرمزيين الشعرية عند استثمار هذه التقنية، فيما يتعلق بمدركات الحواس الخمس. وإنما اتّسعوا بها؛ لتشمل المعاني الذهنية. إذ حاول بعضهم “الامتداد بها إلى مجالاتٍ أُخر حسية ووجدانية، فلم تَعد الأصوات والعطور والألوان وحدها التي تتجاوب، بل أصبحت المعاني كذلك تتجاوب مع المحسوسات، كما أصبحت جزيئات الواقع ــ ذات القيمة الإيحائية بالنسبة للشاعر ــ تتبادل مع الإنسان وتستعير منه صفاته البشرية، فقرأنا لرامبو. أمثال هذه الصور: “السكوت المقمر” “الضوء الباكي” …”(10).

مرجعية فلسفة الوجود

تمثل وحدة الوجود مرجعية فكرية وفلسفية للصورة الشعرية المتراسلة “فالتراسل الحسي ــ في مفهومه المذهبي ــ ليس إلا انعكاسًا لمبدأ رمزي أكثر شمولًا، هو النظر إلى الوجود باعتباره وحدة تتنوع مظاهرها وأشكالها”(11). إذ يتحول العالم الخارجي إلى مفهومات نفسية فكرية. ويصير التراسل الحسي وسيلةً لنقل الحال النفسية، بمستوىً أكثر دقةً وأشد رهافة(12).

إن الأصل في تحول العالم الخارجي إلى مفهومات نفسيه وفكرية، كامنٌ في المصدر الواحد، النابع من وحدة الوجود. الذي يعتد بالجوهر مهما اختلفت المادة وتعددت مظاهرها “فجميع الألوان تحويل من النور، وكل عطر مزيج من الهواء والضياء والتعابير الأربعة التي تربط المادة والإنسانية أي الصوت، واللون، والعطر، والشكل، ترجع كلها إلى أصلٍ واحد”(13).

ولعل تلك المشابهة والاتصال الوثيق ــ بين تلك العناصر ــ راجعٌ إلى أنّ كل ما في الأرض مرتبط بأسبابه السماوية. لذلك؛ لا غرو في أن تتشابه الحالات النفسية، التي تبلغنا عن طريق الحواس المختلفة، ما دامت ترجع في أصلها إلى مصدر واحد. بل إن تجاوبها بهذا الشكل، يجعلها قادرة على استيعاب الحالات النفسية المعقدة للشاعر. كما يجعلها قادرة على الإفصاح عن مضمونها الحيوي الغامض في صورة الإحساس به(14).

بمعنى أن الذي يحكم هذه العملية التصويرية هو الإحساس النفسي. إذ يحاول الشاعر أن يجعل القارئ يحس نفس الإحساس الذي وصل إليه. ولن يتم ذلك، إلّا بوسيلة التراسل والتبادل بين صور الحواس. فالشاعر يفقدها تماسكها البنائي في الواقع، ليخلقها خلقًا آخر بفضل خياله(15). وهو أمرٌ يجعلنا “نحس قوة التعبير ونجاحه من الناحية النفسية، إذ نراه ينقل إلى نفوسنا إحساس الشاعر الحقيقي، ووقع ما رأى في نفسه”(16).

غرائبية الصورة الشعرية المتراسلة

إذا كان هذا التراسل الحواسي ــ بمعناه العام ــ وسيلة ينأى بها الشاعر، عن السياق المألوف للمفردة المعبرة عن حاسة ما، فينقل إليها مفردات حاسة أخرى. فإن هذا يدل بشكل أو بآخر، على اقتراب الصورة المتراسلة من الصورة الغرائبية. تلك، التي تغادر فيها الألفاظ مدلولات الأشياء ومنطقها. فالغريب “هو ما يأتي من منطقة خارج منطقة الألفة ويسترعي النظر بوجوده خارج مقره”(17).

وخصائص الغرابة ــ هذه ــ هي ما نجده في الصورة الحسية المتراسلة. لأنها لا تقوم على العلاقة التعادلية المنطقية بين الحاسة ومدركاتها، وبين الدال ومجال مدلوليته. وإنما تقوم على التداعي والانثيال التلقائي، للإدراك الداخلي المنبثق من اللاوعي. لتتحول الصورة إلى عالم من المدركات الحسية، التي لم يألف المتلقي إدراكها الحسي بهذه الطريقة من قبل. ذلك، لأن هدف الشاعر، وهو ينسج مثل تلك الصور الغريبة، “هو استخدام أية وسيلة تمكنه من النفاذ إلى محتويات اللاشعور المكبوتة، ثم يخرج هذه العناصر حسبما يتراءى له بالصور الأقرب للوعي”(18).

لذلك، لا بد أن يسلك الناقد سلوكًا جديدًا مع هذه الصورة، فيقرأها بمشاعره وبإحساساته، حتى يصل إلى الإحساس الذي أحسه الشاعر وعبر عنه. فالشاعر “لا يقوى على التعبير من خلال الحاسة الرمزية إلّا في الحالة العليا التي يوفى إليها حين يسقط عالم المادة عنه”(19).

الصورة الحسية المتراسلة في الأدب العربي

ظهر مصطلح (التراسل الحسي)، في الطفرة الأدبية والنقدية الغربية الحديثة. وعلى ما في ذلك من رسوخٍ لهويته الانتمائية إلى الأدب الغربي الحديث، فإنّ هناك ما يمكن توصيفُه بحضورٍ عفويٍّ له في الأدب العربي. يمتد من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث. إذ أشارت عددٌ من الدراسات النقدية(20)، إلى وجود هذه التقنية في كثيرٍ من النصوص الأدبية، التي ظهرت فيها كإبداعٍ فنّيٍّ يلجأ إليه الشاعرُ، في تعاطيه المتفاعل مع مكونات تجربته الشعرية. يساعدُه على ذلك فطرته النقية، وخياله المبدع. ورغبته المُلِّحة في تكوين صور جديدة، يضفي عليها تبادلُ الحواس نوعًا من الثراء الإيحائي والجمالي(21).

وقدّمت الكتب الأدبية والنقدية، التي تضمّنت تجلياتٍ من هذه التقنية، في ثناياها عددًا من الشواهد. منها أبياتٌ شعرية، تظهر فيها جليًّا شعريةُ الصورة الحسية المتراسلة(22)، حيث كان عبد القاهر الجرجاني (ت:471هـ)، من أوائل مَنْ تنبّهوا إلى ذلك. أثناء تحليله بعض الشواهد، مُبَينًا بلاغة التشبيه فيها. إذ يقول: “وتحسب معها السمع بصرًا تثبيتًا للتشبيه كما هو تصوّرًا”(23).

تحيلُ مثلُ هذه الشواهد، على وجود الصورة الحسية المتراسلة في الأدب العربي القديم. لكن هذا الوجود ــ على ذلك ــ لا يخرجُ عن ذاك الحضور. الذي نتفق مع مَنْ يتعاطى معه تعاطيًا، يؤكد فيه عدم ظهور هذه التقنية، في رؤيةٍ مستقلةٍ من اهتمامات البلاغيين والنقّاد العرب. وأن جلّ ما في الأمر أنّهم قاربوا مفهومَ التراسل. من غير أن يسعوا إلى تأطيره وتسميته باسم خاص، أو تَتَبُّع تأثيراته البلاغية(24).

إضاءة

يعتبر الشاعر الفرنسي (شارل بودلير Charles Baudelaire ) (1821 ــ 1867) واحدًا من أبرز الدعاة إلى الأخذ بنظرية الفن للفن art for art’s sake. وقد عدَّه كثيرٌ من النقاد “شاعر الحضارة الحديثة”. وكان لنظرياته الجمالية أبعد الأثر في نشوء المدرسة الرمزية. اشتهر بديوانه “أزهار الشعر”، (عام 1857)(25).

أمّا (رامبو: رينبو، (جان نقولا) أرتور Arthur Rimbaud) (1854 ــ 1891) (26)، فهو شاعر فرنسي. نظم وهو فتىً “المَرْكَب الثَّمل”، عام 1871. و”فصل في الجحيم” عام1873. ثم هجر الشعر، وعاش عيشَ المغامرين. جمعته بالشاعر الفرنسي (بول فيرلين) صداقةٌ حميمة. انتهت بإطلاق (فيرلين) النار عليه وإصابته بجراح. تأثر به شعراء المدرسة الرمزية.

  1. مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”. ط4، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 1425هـ ـ 2004م، ص374. ↩︎
  2. أحمد مختار عمر، “معجم اللغة العربية المعاصرة”. ط1، عالم الكتب، القاهرة، 2008م، ج2، ص887. ↩︎
  3. يُنظر: “المعجم الوسيط”. مرجع سابق، ص202. ↩︎
  4. يُنظر: أمجد حميد عبد الله، “نظرية تراسل الحواس، الأصول ــ الأنماط ــ الإجراءات”. ط1، دار ومكتبة البصائر، بيروت، 2010م، ص15. ↩︎
  5. يُنظر: حاتم الصكر، “الأصابع في موقد الشعر، مقدمة مقترحة لقراءة القصيدة”. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986م، ص87،86. ↩︎
  6. ينظر:
    ــ نعيم اليافي، “تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث”. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، د.ت، ص195.
    ـــ عبد الله، محمد حسن، “الصورة والبناء الشعري”. دار المعارف، القاهرة، 1981م، ص109. ↩︎
  7. يوسف حسن نوفل، “الصورة الشعرية والرمز اللوني”. دار المعارف، القاهرة، 1995م، ص168،167. ↩︎
  8. محمد غنيمي هلال، “النقد الأدبي الحديث”. دار نهضة مصر، القاهرة، 1997م، ص: (395). ↩︎
  9. نعيم اليافي، “تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث”. مرجع سابق، ص198. ↩︎
  10. محمد فتوح أحمد، “الرمز والرمزية في الشعر المعاصر”. ط3، دار المعارف، القاهرة، 1984م، ص135. ↩︎
  11. نفسه، ص337. ↩︎
  12. أحمد عبد المقصود هيكل، “تطور الأدب الحديث في مصر”. دار المعارف، القاهرة، 1995م، ص332. ↩︎
  13. أنطون غطاس، “الرمزية والأدب العربي الحديث”. دار الكشاف، بيروت، د.ت، ص: 93. ↩︎
  14. ينظر: مصطفى السعدني، “التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل”. منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977م، ص94. ↩︎
  15. ينظر: سعد أبو الرضا، “الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي”. ط1، مكتبة المعارف، الرياض، 1981م، ص29. ↩︎
  16. محمد مندور، “النقد والنقاد المعاصرون”. دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص67. ↩︎
  17. عبد الفتاح كيليطو، “الأدب والغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي”. ط3، دار الطليعة،  بيروت، 1997م، ص60. ↩︎
  18. شاكر عبد الحميد، “الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة”. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م، ص85. ↩︎
  19. ايليا الحاوي، “الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي”. دار الثقافة، بيروت، 1980م، ص105. ↩︎
  20.  ينظر:
    ـــ نظمي الشلبي، “تراسل الحواس في الشعر العربي القديم حتى العصر الأموي”. المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، مج5، عدد3، 2009م، ص19.
    ـــ نشوى صبري المتولي السيد، “تراسل الحواس في البلاغة العربية، نماذج من القرآن الكريم والسنة النبوية والشعر العربي القديم”. حولية كلية اللغة العربية بإيتاي البارود، جامعة الأزهر، مج4، عدد32، 2019م، ص3932. ↩︎
  21. ينظر: عبد الرحمن محمد وصفي، “تراسل الحواس في الشعر العربي القديم”. ط1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2003م، ص17. ↩︎
  22. أحمد بن محمد الخفاجي، “ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا”. تحقيق: عبد الفتاح الحلو. ط1، مطبعة عيسى الحلبي وشركائه، القاهرة، 1967م، ص176. ↩︎
  23. عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة في علم البيان”. تحقيق: عبد الحميد هنداوي. ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م، ص156. ↩︎
  24. يُنظر: حميد عباس زادة، ومحمد خاقاني أصفهاني، “تراسل الحواس في ضوء القرآن الكريم، وظائف وجماليات”. مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، السنة السادسة، عدد21، ربيع وصيف 1439هـ ـ 2015م، ص54. ↩︎
  25. منير البعلبكي، “معجم أعلام المورد، موسوعة تراجم لأشهر الأعلام العرب والأجانب القدامى والمحدثين”. ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1992م، ص115. ↩︎
  26. نفسه، ص217. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *