المرأة بين الأمومة والرمزية الشعرية في ديوان على ضفة في خيال المغني

المرأة بين الأمومة والرمزية الشعرية في ديوان “على ضفة في خيال المغني”

المرأة بين الأمومة والرمزية الشعرية في ديوان “على ضفة في خيال المغني”

د. عبده منصور المحمودي

يتجلّى حضور المرأة في ديوان الشاعر هاني الصلوي “على ضفة في خيال المغني””(1)، في سياقات شعرية متعددة. منها ما قام الاشتغال الشعري فيه على التعاطي مع وجودها الفاعل في حياة الفرد. لا سيما فيما تحيطه به من أمومة ورعاية وحنان. ومنها ما يرتقي بالمرأة من صفة الأمومة إلى فضاء دلالي أوسع. في نسق من الرمزية المحيلة على أبعاد مختلفة، تأتي في صدارتها الإحالة على مفهوم الوطن.

[1ــ1]: أمومةٌ وشعرية        

لا أحد يجهل المكانة السامية للأم في حياة أي مولود. كما لا يمكن أن يتجاهل أحدٌ ما تضطلع به من دور كبير وعظيم في توجيه الطفل، ورسم ملامح مستقبله؛ فهي المربية والمعلمة. بل هي المدرسة الأولى في قول الشاعر حافظ إبراهيم(2):

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها ** أعددتَ شعبًا طيِّبَ الأعراقِ

وتأسيسًا على حتمية أثر الأم وعظمته في حياة الإنسانية جمعاء، والمبدعين منهم على وجه خاص، كان لها الأثر العظيم في حياة الشاعر هاني الصلوي، كما كان لها الأثر البالغ في إبداعه الشعري. فناهيك عن أنها أمُّه، فإنها في الوقت نفسه، كانت من ذوات الإبداع الشعري؛ إذ يشير إلى ذلك، بالقول: “كانت تقول الشعر بالفصحى وبشاعرية فذّة، مؤمنة أشدّ الإيمان بتأثير الكلمة”(3). كما كانت “ناقدة”(4)؛ وبذائقتها النقدية، كانت هي أول من اكتشف موهبة الشاعر، وإرهاصات تجربته الأولى.

[1ــ2]: السرّ في تكهرُب قصائده

لم يبلغ الشاعر العقد الأول من عمره، إلّا على فجيعته بوفاة أمه. وعلى ذلك؛ ظل أثرها ودفقها الشعري ــ بحرارته وحنانه ــ غزيرًا منسابًا في وجدانه، وإشعاع تجربته الشعرية. وهو ما يشير إليه بالقول: “إنّه سرّ تكهرب قصائدي وارتفاع درجة حرارتها، فأنا لا أستفتح القصيدة إلّا بإطلالة أمّي ومقام الورد في عينيها”(5).

وبذلك؛ لا غرابة في أن يهدي إلى نبع الحنان باكورة أعماله الشعرية، ديوانه هذا “على ضفةٍ في خيال المغنّي”. بما فيه من شاعريةٍ وعاطفةٍ صادقةٍ، تجاه أمٍّ رحلت عن طفلها، بعد أن رسمت له ملامح طريقه، وتقاسيم مستقبل أيّامه:

“إلى التي أهدتني العالم ذات نظرة

باركت أحرفي ومساري

ثم تدفقت في شراييني

قصيدةً لم تكتمل بعد

وشلال حنانٍ لا ينضب

أمي رحمها الله “(6).

[1ــ3]: المسافة أمّ وموجة من حنان

ظلّت روح أم الشاعر بعد وفاتها مُحلّقة في الآفاق، تهدهده، ترعاه، تفيض عليه حنانًا ودفئًا؛ فيمنحها لهفته. كلما أطل طيفها، استلذ أفياء النشوة والأمان:

“في الرصيف المعبّد حتى اللقاء الأخير

بسطَ البحرُ زرقتَه

موْعدًا

ضاربًا

في الذهولْ

مضينا،

تهدهدني موجة من

حنانٍ

وأمنحها

لهفتي

شاعرًا

يتبتّل

في

مهجتي

كلما صدحت

عاد

منتشيًا

يترنّح

في

مهرجانِ

الأمان”(7).

وبلغةٍ صوفيّة ثرية الإيحاء والجمال، يشبّه الشاعر المسافة الفاصلة بينه ونجوم الحقيقة، بأمه؛ إذ تصير المسافة أمًّا، تلهم حيرته القصيدة:

“كانت نجومُ الحقيقةِ ساطعةً

فتحت جناحيّ شوقًا

أتتني المسافةُ أمًّا

تظلّلني بالحنان

تلقّنني بعضَ ما حَفظتْ من ورود”(8).

[1ــ4]: اليُتْم مرارةٌ في حنايا القصيدة

على ما احتفظ به الشاعر من أثر أمه في حياته، وفي إيناع موهبته، واشتعال قصائده. إلّا أن ذلك، لم يستطع تعويضه عن غيابها الأبديّ. كما لم يكن كافيًا لأن ينسى به مرارة حزنه وعذابه، منذ أن غادرتْه غضًّا للفحات الأيّام وهجير الحياة. إذ عاش بعدها يتجرّع مرارة اليُتم، عاطشًا لعطف الأم، ودفء الرعاية والحنان. لذلك، ضمّن نصه “شفر الموت” رثاءه لها، مستعرضًا بعضًا من تجليّات ومسارات عذابه، الذي التصق به مذ حال الموت بينهما. من ذلك، قوله(9):

كيف أمضي مفردًا أمضغُ حزني ** أشرب الدمع بأكواب الجراءةْ

دُفن النور فمن أين لقلبي ** من دليلٍ بعدما شهد انطفاءةْ

صبغتْ جدران عمري حينَ ولّتْ ** بطلاء الحزنِ من بعد الوضاءةْ

[1ــ5]: اليُتم والبحر ومقامات العشق

لقد لازمت الشاعرَ حالُ اليُتم، صفةً لم تبرحه. وكثيرًا ما مزّقته، إذ تمضغه، وتُقطّع وجدانه ومشاعره. فيحاور البحر المُتَوَّج بحظوظ السعادة. لكن سرعان، ما يداهمه انكسار اليُتم، فيهمس لنفسه بلوعةٍ ومرارة:

“تصطفيك الليالي الملاح/ تبادلك النفحات/ التحايا

هو البحرُ يمتد في راحة العيدروس الملاك

وأنا الوارث اليُتمَ عن نحلةٍ في الطفولة”(10).

وفي سياق تجرّعه مرارة اليُتم، وتداعياتها في وجدانه، تأتي صورته الشعرية المنسوجة، بتفاصيل اليُتم، ومرارة عذابه ومعاناته:

“رئةٌ للصلاة

ومئذنةٌ من عذاب اليتيم”(11).

كما ظلت صفة اليُتم مُلازمة له، في مقامات العشق ولقاءات الغرام، فيستشف من لحظات انتظار اللقاء نسقًا من ألحاظ اليتيم وانكساره:

“بيني وبينك في المدى

هرم انتظارٍ لا يشيخ

إمّا نظرتُ تكسّر اللحظ اليتيم(12).

لقد كان للمرأة الأم حضورها الفاعل في حياة الشاعر، وسياقات تجربته الشعرية؛ إذ لامست جوهره الإبداعي، بذائقتها النقدية، التي هيأته لمستقبله الشعري. وبعد رحيلها إلى عالم الخلود، لم تتخل عنه روحها، فظلت حارسه، وراعي خطواته وارتباكه. كما ظلت معين إلهامٍ منسابًا في شاعريته المتجددة بها.

ومن ناحيةٍ أخرى، كان لمصابه في رحيلها، فاعليته في تشكيل نسقٍ من أنساق الحزن والألم في تجربته الشعرية. لا سيما ما تجلّى منها في هذا الديوان؛ إذ تغلغل حزنه عليها في مشاعره، وتعاظم شعوره باليُتم، الذي لازمه، فانعكس بتفاصيله حرارةً شعرية باذخة الجمال المنسوج بآهات الحسرة والشجن.

[2]: بين الأمومة والوطن

مع ولادة القصيدة الحديثة، وُلِد الرمز الشعري؛ فعمل على إثراء النص الأدبي بدلالاتٍ تعمّق من أبعاده وأفكاره. فاللغة ليست سوى رموز، والعمل الأدبي ــ في جوهره ــ خطابٌ رمزيّ؛ بوصفه جهدًا تعبيريًّا. يحتشدُ بعددٍ من الدلالات الرمزية، التي تتفاوت في حيويتها وفرادتها من شاعر إلى آخر(13). بمعنى أن الشاعر الحداثي قد ذهبَ يمتاح رموزه من حقول متعددة. وبذلك، تعددت الرموز في تجربته الشعرية. منها الرمز الطبيعي، الذي يتضمن رمزية (المرأة/ الأم) للوطن. وهو ما تجلّى في مساحاتٍ متعددةٍ من هذا العمل.

[2ــ1]: “الوطن الأم”، و”الأم الوطن”

يُعد الوطن واحدًا من أهم السياقات، التي أحالت عليها رمزية المرأة، في الشعرية العربية المعاصرة. ومنها تجربة الشاعر اليمني المعاصر. التي كان ــ من مسارات هذه الرمزية فيها ــ اتخاذ المرأة رمزًا للوطن، وما يتعلق به من متغيّرات كالثورة والحرية. من ذلك، ما نجده من رمزية للمرأة في تجربة الشاعر عبد العزيز المقالح. الذي اتخذ منها رمزًا للثورة، كما في نصه “قراءة في كتاب غمدان .. البحر والمطر”(14).

وبذلك؛ فإن من مسارات توظيف المرأة رمزًا في هذا الديوان، ما يتعلق برمزية المرأة إلى الوطن الأم والأم الوطن. لا سيما حينما يمزج الشاعر بينهما، فيتبادلان الأدوار. لذلك؛ أهدى إليهما نصه “شمعتان القصيدة”:

إليهما: وطني الأم، وأمي الوطن”(15).

ثم تنساب سياقات النص، في تدفقها الذي جسّد رمزية المرأة فيه:

“مثل حلم تحطّم

ذاب

ولكنه ما انكسر

شرعتُ أفتش عن وطني

وعن بؤبؤٍ ضل مني

وعن زمنٍ (أبيضٍ)

(أخضرٍ)

كلما لاح في أفقي غاب عنّي

دمعتان المسافة بيني وبيني

تعال (أطارحكَ) الوجعَ السبئي

حنيني لأمي”(16).

ففي هذا التوظيف الرمزي للمرأة، يتجلى نوعٌ من الخصوصية، التي قامت عليه التجربة الشعرية في هذا الديوان. ذلك، في اتخاذ (المرأة/ الأم) ــ على وجه التحديد ــ رمزًا للوطن. على غير الصيغة الرمزية الغالبة في الإحالة على الوطن، برمزية (المرأة/ الحبيبة).

  1. هاني الصلوي، “على ضفة في خيال المغني”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص5. ↩︎
  2. حافظ إبراهيم، “ديوان حافظ إبراهيم”. ضبطه وصححه وشرحه ورتبه: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الإيباري. ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص282. ↩︎
  3. عبد الرحمن الحميدي، “مقابلة مع الشاعر هاني الصلوي”. صحيفة الثقافية، تعز، العدد (160)، 19 سبتمبر 2002م، ص27. ↩︎
  4. نفسه. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. هاني الصلوي، “على ضفة في خيال المغني”. مصدر سابق، ص5. ↩︎
  7. نفسه، ص10. ↩︎
  8. نفسه، ص56. ↩︎
  9. نفسه، ص89. ↩︎
  10. نفسه، ص12. ↩︎
  11. نفسه، ص47. ↩︎
  12. نفسه، ص61. ↩︎
  13. علي جعفر العلاق، “في حداثة النص الشعري”. ط1، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990، ص56،55. ↩︎
  14. يُنظر: عبد العزيز المقالح، “الأعمال الشعرية الكاملة”. إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، جـ2/ ص618. ↩︎
  15. هاني الصلوي، “على ضفة في خيال المغني”. مصدر سابق، ص108. ↩︎
  16. نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *