المقالح والرؤية الوطنية
وُلِد الشاعرُ والناقدُ اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح، عام 1939. في قريته “المقالح”، في منطقةِ “الشَّعِر”، من محافظة “إب”. وانْتقل إلى مدينة “صنعاء”، وهو في السنة السادسة من عمره؛ إذ التحق ــ حينها ــ بمدرسة “الإرشَاد”. ومنذ طفولته، كان المقالح قد استوعب قِسطًا لا بأسَ به، من معاني الثورة وأبجدياتها. لا سيما في الفترة التي ترك فيها مدينة “صنعاء” إلى مدينة “حجة”، حينما كان في السنة الثانية عشْرة من عمره؛ ليكون قريبًا من أبيه. الذي كان في غياهب السجن، مُتَّهَمًا بالتّعاون مع الثُّوَّار. ولم يكن يعلم ــ حينها ــ أن القدر يخط فيه الرؤية الوطنية، التي ستتفتّق فيه إخلاصًا وطنيًّا، في مهمّات مقدسة، منها اشتراكه في تلك المُهمّة التاريخية، التي كانت إلقاءً لبيان الثورة في اليمن.
تعثرت الثورة اليمنية طيلة سنوات النصف الأول من القرن العشرين. لا سيما في انتكاسها الذي انسحقت به في أبرز محطاتها المتمثلة في: ثورة الدستوريين 1948، وانقلاب 1955، وانتفاضة 1959. حتى حالفها النجاح مع مطالع النصف الثاني من القرن نفسه ــ القرن العشرين الماضي ــ في ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962. التي آزر الشعب قيادتها، واستندت إلى الدعم المُقدّمِ من جُمْهورية مصر العَرَبيّة.
في هذا التحول التاريخي، كان للمقالح دوره، بمعية عددٍ من زملائه الشباب، من مكان عملِهم، الذي كان “إذاعة صنعاء”. فهناك، كان كثيْر من شبابِ إذاعة صنعاء، و”اللاسِلْكي” على اتصالٍ بقيادة هذا التحول من قبل إعلانه، وعلى أهبّة الاستعدادِ لتنفيذ ما يمكنهم القيام به إسهامًا منهم في نجاحه(1).
بيانُ الثّورة: صِياغةً وقِرَاءَة
قبل إعلانِ بيان الثورة اليمنية، مَرَّ بمرَاحِلِ إعدادِه وصياغتِه، المتّسقة مع أهمية مضمونه. ويؤكد المقالح ــ الذي كان ممّن اشترك في إلْقائه ــ أن أهداف الثورة السبتمبريّة، كانتْ مُعَدّة وقيد التنفيذ قبل موعد اندلاعها بشهْرٍ على أقل تقدير. كما أكّد أنه شهد لحظة كتابةِ هذه الأهدافِ. وأنّ النُّسْخة الأصلِيّة منها، التي كتبها الأستاذ محمّد عبد الله الفُسيّل، لا تزال محفوْظةً حتى الآن (2). وإلى ذلك، فقد كان “الفُسيل” ممّن تناوبَ على قراءةِ البيان، مع “المقالح”، و”عبد الوهاب جحاف”(3).
لقد حَمَل صباحُ ثورة “سبتمبر” تحوّلاتٍ جوهرية في الحياةِ اليمنية. وفي سياقه كانت “إذاعة صنعاء” مُواكِبَةً للحَدث، بعد مواجهةٍ شَرِسَةٍ دارت حوْلَها، انتهت بإحكام الثورة السيْطرة عليها. ومنها أذَاعَ الثلاثَة (المقالح، والفُسيل، وجحاف) بيان الثّورة. وكانت الكلمات الثوريّة الأولى في تِلْك اللّحظاتِ: “هُنا صنْعاء .. إِذاعةُ الأحْرار .. إِذاعَةُ الثُّوّار .. إِذاعَةُ الشَّعْب .. إذَاعةُ الجُمْهوريّة ..”. وبعدَ هذه الكَلِمات، أُذِيْعتْ أُنْشوْدةُ “الله أكبرْ فَوْقَ كَيْدِ المُعْتَدي”(4)، التي عثروا عليْها، وهم يبحثون عن أُنشُودةٍ مواكبةٍ للحدث؛ وفْقًا لما أشار إليه مُحمّد عبْد الله الفسيّل.
بعد ذلك تمت إذاعَةُ الجُزْءُ الأوّل من بيان الثّورة. وكان يتضمّنُ: إعْلان الثّورة والجُمْهوريّة، وسُقُوط الملَكِيّة. تلى ذلك، جزؤه الثاني، الذي تضمّن أهدافَ الثورة. تلك الأهداف التِي تبَلْوَرت بها ومن خِلالها مَلامح العَهْد الجديد، كما تبلوَرتْ سياسَةُ النّظام الجُمْهوري: الوَطَنِيّة، والإِقْليْميّة، والدّوْلِيّة.
ثم تَوالَى بثُّ الأُنشوداتِ الحماسيّة، والفقراتِ والكلماتِ المتّسقة مع الحدث المَفْصلي في التاريخ اليمني المعاصر. واشترك المقالح في تقديمها مع عددٍ من المُكَلّفين بقراءةِ البَيَان. بينهم عدَدٌ من الأَصْواتِ الإذاعِيّة وأرباب الفِكْر والكَلِمة(5). وبذلك، كانَ ذاكَ الصَّباحُ صباحًا اسْتِثنائيًّا؛ إذ “أتَى حامِلًا على كَتِفِه اليمن الجُمْهوري البديْل عنِ اليمن المَلَكِي(6)، وأزاحَ الإمَامَ “البَدْر، ووَضعَ مقاليْدِ الحُكْمِ في يَدِ المُشيْر عبد الله السّلال.
الكَلِمةُ رؤيةٌ ثوريّة وريادةُ حداثةٍ وتَنْوِير
إنَّ مفهومَ الثّورةِ ــ في رؤية المقالح الوطنية والشعرية والفكرية ــ ليسَ مقصورًا على إحلال نظامِ حُكمٍ جديدٍ محل نظامِ حكمٍ قائم. بقدر ما هو مَنْظومةٌ مُتكاملةٌ وشاملة، تستهدف إحداث تحولاتٍ مختلفة: تنموية، وثقافية، وفكريّة، وتنويريّة. ذلك، أن الثورة ــ في رؤيةِ المقالح ــ حتميةٌ فاعلة في اقتلاع الفساد واجتثاثه، وفي الوصول بالشعب إلى المدى الذي يمنحه القدرة على التعاطي مع قدَرِه الجدِيْد، وأحلامه في إحداث التحوّل نحو حياة أفضل(7).
وكان المقالح والرؤية الوطنية ــ التي اختط بها حياته الفكرية والإبداعية والنضالية ــ على المحك. بعد أن استشعر ابتعاد الثورة عما رُسم لها من مسارٍ يصل بها إلى هذا المدى. لذلك، تعاطى مع الثورة ــ في رؤيته الشعرية ــ تعاطيًا يتسق مع حالها تلك، في قصيْدته “هوامش يمانيّة على تَغْريبةِ ابن زُرَيق البَغدادي”(8).
تضمّنت هذه القصيدة موقف المقالح، المتذمّر المستاء من تعثّر الثورة في بلوغ غايتها المَنْشودة، التي أحالَ عليها إحالة كنائية في لفظ “الولِيد” المُختَفِي، فتفتّقت تساؤلات الشاعر عن سر اختفائهِ(9):
وَلِيْدُنا القَادِمُ المَحْبُوْبُ، كَمْ ذَهَبتْ *** أَحْلامُنَا تَتَمَلَّاهُ، وتُبْدِعُهُ
كُنَّا رَأيْنَاهُ فِيْ (أَيْلُوْلَ) مُمْتَشِقًا *** حُسَامَهُ، في ضُلوعِ اللّيْلِ يَدْفَعُهُ
فما لَنَا، فِيْ مَنَافِي الشَّمْسِ نَطْلُبُهُ *** كيفَ اخْتَفَى أيْنَ يا صَنْعاءُ مَوْقِعُهُ؟
“سبتمبر” الأسير الضائع
وفي السياق نفسه ــ من تجليات المقالح والرؤية الوطنية في تجربته الشعرية ــ يضفي الشاعر على (سِبْتَمْبَر/ الثَّوْرة) الصِّفَتِيْن: (أَسِيْر/ وضائِع)؛ للتّعْبيرِ عنْ تِلْك الحالِ، التي أُصِيْبَ بها وَليْد الشعبِ إصابةً غائرة(10):
أسْتَوْدِعُ اللَّهَ فيْ (صَنْعاءَ) لِيْ قَمَرًا *** فِيْ الأَسرِ، سِبْتَمْبَرُ المَهْجُورُ مَطْلَعُهُ
رأَيْتُهُ فِيْ ظَلَامِ اللَّيْلِ مُشْتَعِلًا *** وَهَزَّنِيْ فِيْ سُباتِ الكَهْفِ مَدْفَعُهُ
أعادَ وَجَهَ بِلَادِي بَعْدَ غُرْبَتِهِ *** وَكَانَ يَحْلَمُ .. أَنَّا لا نُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُ ضَاعَ فِيْ أبْعَادِ خَيْبَتِنَا *** لا الوَجْهُ بَاقٍ وَلا مَنْ جَاء يُرْجِعُهُ
وبذلك، فإنّ المقالح والرؤية الوطنية نسق من أنساق الفكر الوطني في المشهد الثقافي في اليمن؛ إذ كان المقالح من أبرز المُسْهِميْنَ في حَدَثِ الثورةِ اليمنية، وتصدّر الطّليْعة من ثورة الثقافة والفكر. وشرع في تأسيس حداثة الكتابة الشعرية في اليمن في السبعينيات من القرن الماضي. ومن ثم عمل على إثْراءِ هذا المشروع التنويري برؤىً نقدية، وكتابَةٍ شِعْرِيّة. ثم على خُطى التنوير والحداثة التي اختَطّها، سَارَ جِيْلٌ من الشُّعَراءِ. الذين اهْتَدوا بتَجْرُبَتِه، فَبَلغوا شَأوًا عَالِيًا في كتابة النص الشعري اليمنيّ الحديث. وفي سياق هذا التحديث الشعري، رادَ المقالح ركْبَ الحداثة والتَّنْوِيرِ في المَشْهدِ الثّقافِيّ في اليمن، ضِمْن حَرَكَةِ التَّحْدِيْث والتّنويْرِ العَرَبيّة: كتابةً شعرية، ورؤىً فكري، وحيَويّةً ثقافيةً متجددة.
إضاءة
استكمل المقالح تَعليمَه في “جامعة القاهرة”، ومنها حصل على شهادة الإِجازة في “اللغة العَربية وآدابها”، عام 1970. وفي جامعة “عين شَمس”، نالَ دَرجة “الماجستير” عام 1974م، ثم درجة “الدكتوراه” عام 1977.
عملَ أُستاذًا في “جامعة صنعاء”، كما عمل رئيسًا لها. وعيِّنَ مُسْتشارًا ثَقافيًّا لرَئيسِ الجُمهوريّة، وَرئِيْسًا لِمركزِ الدِّراسات والبُحوثِ اليمنيّ. ورئيسًا للْمَجْمعِ اللُّغوي اليمَنِي. تُوُفِّيَ في: 28 نوفمبر 2022م.
“البدر”: هو آخرُ حُكّامِ المملكةِ المُتَوَكِّليّة اليمنيّة. تمت الإطاحَةُ بهِ على يد الثُّوّار، في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، بعد أُسبوعٍ منْ توَلِّيهِ السُّلطة خَلَفًا لأبيهِ الإمام أحمد يَحيى حميد الدّيْن. اسْتَقرّ بهِ المقامُ، في مدينة “الطائف”، في المملكة العَربيّة السعوديّة، ثمّ في “لندن”، تُوُفِّيَ سنة 1996.
السلال، هو: عبد الله يَحيى السّلال، أوّلُ رئيسٍ للجُمهوريّة العربيّة اليمنية، في الفَتْرةِ (1962 ــ 1967). أطاحَ بهِ انْقلابٌ عسكريٌّ، في الخامس من نوفمبر 1981. أثناءَ زيارَتِه للعِراق. انتقلَ ــ بعدها ــ إلى الإقامةِ في جمهورية مصر العربية، حتّى صدرَ قرارُ الرئيسِ اليمني الأسبق عليْ عبد الله صالِح عام 1981، قضى بدعوتهِ ــ هو والقاضي عبد الرّحمن الإريانِي ــ للعودةِ إلى الوَطن. تُوُفِّيَ في مدينة “صنعاء”، في الخامس من مارس 1994.
- عبد الله جُزيلان، “التاريخ السِّريّ للثّورة اليمنيّة”. منشورات العصرِ الحديث، ط3، بيروت، 1407هـ ــ 1987م، ص: (202). ↩︎
- عبد العزيزِ المقالح، ضمن كِتاب مؤسسةِ الجمهورية، الخاصّ بمناسبةِ العيدِ الـ 50 للثورةِ اليمنية. تعز، ص: (40).
ومحمد عبد الله الفسيّل: منْ أبرز رموزِ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. تُوُفِّيَ بعد عُمرٍ تَجاوَزَ التسعين عامًا، فيْ: 29/ 8/ 2022م. ↩︎ - عبد الوهابِ جحاف: رَمزٌ منْ رموز ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. عمِلَ في الإِذاعةِ والسِّلكِ الدّبْلوماسيّ اليمنيّ. آخرُ مناصِبه كان سفيرًا سابقًا لليمن في رُوسيا. ↩︎
- كان إنتاجُ هذه الأُنشودةِ، وتسْجيلُها أثْناء العِدوانِ الثُّلاثيّ، على جمهورية مصر العربية، سنة 1956. كَتبَ كلماتِها الشاعرُ المَصريُّ: عبد اللّه شمس الدّين. ولحّنها الفنان: محمود شَريف. ↩︎
- يحيى مُصلح مهدي سيرتُه ونضالُه. مركز عُبادي للدراساتِ والنشر، ط2، صنعاء، 2011م، ص: (84). ↩︎
- عبد الله البردّوني، “اليمنُ الجُمهوري”. دار الأندلس، ط5، 1959، ص: (384،383). ↩︎
- عبد العزيزِ المقالح، “من الأنينِ إلى الثورة ــ قراءةٌ في وثائقِ بداياتِ الحركة الوطنيةِ في اليمن”. مركز الدراسات والبحوثِ اليمني، ط2، صنعاء، 2011م، ص: (279). ↩︎
- عبد العزيز المقالِح، “الأعمال الشعريّة الكاملة”. إصداراتُ وزارةِ الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م، جـ3/ ص: (9). ↩︎
- نفسه، ، جـ3/ ص: (14). ↩︎
- نفسه، جـ3/ ص: (16،15). ↩︎