المنهج الدلالة اللغوية والاصطلاحية

المنهج الدلالة اللغوية والاصطلاحية

المنهج الدلالة اللغوية والاصطلاحية

د. عبده منصور المحمودي

كثيرًا ما يصادفنا مصطلح “المنهج” في حياتنا العلمية والبحثية. بوصفه واحدًا من أهم الأنساق الحضارية، التي وصلت إليها المجتمعات البشرية، في التعاطي مع شتى الظواهر الطبيعية والإنسانية.

من أين أتى مصطلح “المنهج”؟ وما الدلالات التي يحيل عليها؟

هذا هو ما سنتطرق إليه في هذا المقال، الذي سنتحدث فيه عن “المنهج”، من زاوية الدلالتين: اللغوية والاصطلاحية. مع التعريج على تجسير العلاقة بين هاتين الدلالتين، والتمايز بين المنهجية والمنهج.

[1]: الدلالة اللغوية للمنهج
[1ــ1ــ1]: المنهج في المعجم العربي

ارتبط “المنهج” في معجم “لسان العرب” بالدلالة على “النهج”؛ أي “طريقٌ نَهْجٌ بَيِّنٌ واضِحٌ وهو النَّهْجُ… والجمعُ نَهجاتٌ ونُهُجٌ ونُهوجٌ… والمِنهاجُ الطريقُ الواضِحُ، واسْتَنْهَجَ الطريقُ صار نَهْجًا، وفي حديث العباس لم يَمُتْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى تَرَكَكُم على طريقٍ ناهِجةٍ أَي واضحةٍ بَيِّنَةٍ، ونَهَجْتُ الطريقَ أَبَنْتُه وأَوضَحتُه يقال: اعْمَلْ على ما نَهَجْتُه لك، ونَهَجتُ الطريقَ سَلَكتُه، وفلانٌ يَستَنهِجُ سبيلَ فلانٍ أَي يَسلُكُ مَسلَكَه والنَّهْجُ الطريقُ المستقيمُ”(1).

وورد “المنهج” عند الفيروز أبادي، بمعنى “الطريق الواضح كالمنهج والمنهاج، وبالتحريك البهر وتتابع النفس، والفعل: كفرح وضرب، وانتهج؛ وضح وواضح، ونهج الدابة: سار عليها حتى انبهرت، ونهج الثوب أي أخلقه”(2)

[1ــ1ــ2]: تنوع اشتقاقي وامتداد معاصر

تتسم هذه المادة العربية المحيلة على “المنهج” بنسق من التنوع الاشتقاقي. وعلى ذلك، فإن هذا التنوع غالبًا ما يحيل على الطريق وصفة الوضوح فيه؛ فـ”النهج، والمنهج، والمنهاج، الطريق الواضح”(3). وقد ورد “المنهج”، في القرآن الكريم في موضع لا غير(4)، قال تعالى:

(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)(5).

فالشرعة ــ هنا ــ “هي الشريعة؛ أما المنهاج فمؤداه في الأصل الطريق البين الواضح”(6).

وفي العصر الحديث اتّسعت الدلالة اللغوية لـ”المنهج”؛ إذ حمل الدلالة على “الخطة المرسومة، ومنه: منهاج الدراسة، ومنهاج التعليم ونحوهما، ج مناهج”(7).

وبموازنة هذه الدلالة الحديثة بالدلالات المعجمية السابقة، يتضح أن محورية الدلالة اللغوية للمنهج، تقوم على أساس مادي، متمثّل في الطريق الواضح. ذلك؛ لأن “المَنْهَج، والمِنْهَج، والمِنْهَاج: جمع مناهج: الطريق الواضح، ومنه منهج أو منهاج التعليم أو الدرس”(8).

هذه الدلالة اللغوية المادية لهذا المصطلح المتمثّلة في “الطريق”. لا يزال استخدامها قائمًا ــ بالدلالة نفسها ــ في الجمهورية التونسية؛ فهناك “يتوسلون بالمنهج للدلالة على الشارع، كأن يقولوا: نهج ابن خلدون أي شارعه”(9).

[1ــ2]: المنهج في المعجم الأجنبي

 من الألفاظ الأجنبية المحيلة على مصطلح “المنهج”، اللفظ الإنجليزي (Method)، الذي يعني: “أسلوب، نهج، نظام، منهج”(10). واللفظ الفرنسي (Methode)، الذي لا يخرج ونظائره ــ في اللغات الأوروبية ــ عن دلالة التعبير الإنجليزي.

وبالنظر إلى هذا التعبير ونظائره في اللغات الأوروبية الأخرى، يتضح “أنه يعني ما عناه مصطلحنا العربي، وذلك أن الجذر اليوناني أو اللاتيني للكلمة “متود” يدل على معنى الطريق، وعلى السير خلاله، وعلى تخطي العقبات لبلوغ الهدف المنشود”(11).

ذلك؛ لأن هذا الجذر اليوناني ــ الذي يعود إليه اللفظ الفرنسي ونظائره في اللغات الأوروبية الأخرى ــ كان قد استعمله (أفلاطون)(12)، بمعنى “البحث أو المعرفة”(13). كما استعمله (أرسطو)(14) أحيانًا كثيرة بمعنى (بحث). والمعنى الاشتقاقي الأصلي له، يدل على الطريق أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب. بمعنى أن “المنهج” وسيلة محددة، توصل إلى غاية معينة(15).

[1ــ3]: خيط دلالي

الملاحظ على الدلالات اللغوية للمنهج ارتباطها بخيطٍ دلاليّ واحد. سواء في اللغة العربية أو في غيرها من اللغات. وإن اختلفت ألفاظ التعبير عن هذا الخيط  من لغةٍ إلى أخرى. إذ تتأصل ــ أرومة هذا الخيط الدلالي ــ في اللغة اليونانية، بدلالتها المادية على أن المنهج هو الطريق المسلوك للوصول إلى غاية منشودة.

 [2]: الدلالة الاصطلاحية للمنهج
[2ــ]: (بيكون)/ (وديكارت)

تعددت دلالات المنهج الاصطلاحية، التي تُعدُّ ثمرةً لجهودٍ متتالية منذ اليونان. وعلى ذلك، فإن القرن السابع عشر، قد مثّل الحلقة الأخيرة، التي منها انبثق معنى المنهج الاصطلاحي المتعارف عليه اليوم. ذاك المعنى الذي تبلور من رؤى الفيلسوفين (فرنسيس بيكون)(16) و(ديكارت)(17) حول المنهج.

يرى (ديكارت) أن المنهج هو “الطريقة التي يجب على كل إنسان سلوكها لكي يحسن قيادة عقله”(18). ويعرفه ــ أيضًا ــ في “مقال في المنهج1637م”، بأنه “فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين؛ أو البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين”(19). وهناك مأخذٌ على هذا التعريف؛ لتركيزه على الأفكار من دون القوانين. ذلك؛ بسبب الاعتناء بالمنهج الرياضي والاستدلالي، [من] دون المنهج التجريبي أو التاريخي(20).

[2ــ2]: المنهج طريق الحقيقة

يبدو جليًّا احتفاء مصطلح “المنهج” بالدلالة على الطريق المتصل بالحقيقة؛ فهو الطريق الذي يصل به الإنسان إلى حقيقة معينة(21). هذه الحقيقة هي الغاية، التي يبحث عنها الإنسان في حياته. وبذلك؛ فإن المنهج هو “الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة لاكتشاف الحقيقة”(22). أي أنه “الطريق الواضح الذي نسلكه، متسلحين بجملة من المبادئ والتقنيات، وذلك لبلوغ الحقيقة التي نتطلع إلى تبيانها والوصول إليها”(23). كما أنه “الطريقة أو الأسلوب الذي ينتهجه العالم في بحثه أو دراسة مشكلته والوصول إلى حلولٍ لها أو إلى بعض النتائج”(24).

وفي سياق ذلك؛ فإن دلالة “المنهج” الأكثر انتشارًا وتداولًا، هي هذه الدلالة المحيلة على طريق الحقيقة؛ فهو “الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة”(25).

[2ــ3]: بين الذات والمعرفة

هناك من ينظر إلى المنهج نظرة توفيقية بين الذات المبدعة والمعرفة. وهؤلاء يرون أن المنهج هو “التوفيق بين النشاط الذاتي المبدع والمعلومات والأدلة والوسائل”(26). في حين أن هناك من ينظر إلي المنهج نظرة تكاملية، تبدأ برؤية عقلية. مرورًا بالمستلزمات المادية اللازمة للوصول إلى النهاية. تلك النهاية، المتمثلة في إثبات حقيقة ما أو نفيها. وبذلك؛ فإن المنهج “منظومة متكاملة، تبدأ بالوعي والرؤيا المشكلين لروح المنهج وكنهه اللامرئي، وتنتهي بالعناصر اللازمة لتحقيق تلك الرؤيا وذلك الوعي، من خلال الكشف والفحص والدرس والتحليل، والبرهنة للإثبات أو النفي”(27).

من ناحيةٍ أخرى، هناك من يضع للمنهج معنىً عامًّا ومعنىً خاصًّا. فيقول إن “المنهج في معناه العام [هو] الوسيلة التي توصلنا إلى هدف محدد، وهو في معناه الخاص طريقة الباحث في تحصيل المعرفة، كما أنه المعيار لها من حيث حقيقة مطابقتها للقوانين الموضوعية التي تحكم تطور الواقع عامة”(28).

[2ــ4]: اتكاء على الدلالة اللغوية

من الواضح أن هذه الدلالات الاصطلاحية للمنهج، تتكئ ــ بشكلٍ أو بآخر ــ على دلالة المنهج اللغوية. ذلك؛ لأن الدلالة اللغوية تكاد تقف عند وصف الطريق بالواضح لسالكه. وقد اتكأ عليها التعريف الاصطلاحي؛ فزاد المصطلح إيضاحًا وبلورةً لهذا الطريق. بمعنى أن المصطلح قد اكتسب ــ بهذا الاتكاء ــ دلالة معنوية. تجسِّدُ منه مصطلحًا متعارفًا عليه، بدلالته على الطريق الذي يسلكه الباحث عن الحقيقة، أيًّا كان نوع هذه الحقيقة.

[2ــ5]: المنهجية والمنهج

ذهب بعض الدارسين إلى التفريق بين مصطلحي “المنهج”، و”المنهجية”، من حيث الدلالة الاصطلاحية. فعلى سبيل المثال، يرى الباحث أميل يعقوب، أن المنهجية هي العلم الذي يبين كيف يقوم الباحث ببحثه. فهي ــ عنده ــ مجموعة من التقنيات والإرشادات لكتابة البحث، حيث تمثل جملة من القواعد الثابتة عند كل الباحثين. أمّا المنهج، فيرى أنه يُعنى بطرائق البحث وأساليبه ومصطلحاته، وأنه يختلف من علمٍ إلى آخر، وأنه قابل لعملية النقد والتقويم، ومرتبط بالمنطق وطرق الاستدلال والاستنتاج(29).

وهناك في الجانب الآخر، مَنْ يرى أن لا فرق بين المصطلحين. من مثل الدكتور أحمد علبي، الذي يقول في كتابه “المنهجية في البحث الأدبي”: “كلاهما يؤدي معنىً واحدًا. ثم إنهما يشتملان على جانب نظري، وآخر عملي، وهما جانبان مترابطان”(30). إذ يؤدي هذا الترابط والتكامل وظيفة البحث العلمي. ذلك؛ لأن الفصل بين الجانب العملي والمضمون النظري، يجعل “المنهجية جسدًا بلا روح، لأنها تقتصر من أمرها، عندئذٍ على قواعد وشكليات، وهذه القواعد والشكليات ليست بدورها كما يذهب بعضهم، ثابتة؛ لأن الثورة التي أحدثها الكومبيوتر أو الحاسوب، على سبيل المثال الصارخ، قد قلبت رأسًا على عقب تقنيات البحث. وهذه الثورة قربت في نظرنا، بين الباحثين في شتى صنوف المعرفة”(31).

وبذلك؛ فإننا أمام اتجاهين: الأول يرى ضرورة التفريق بين المصطلحين (“المنهج”/ “المنهجية”). بينما يرى الاتجاه الثاني عدم إمكانية هذا التفريق. لأن الاختلاف بين كلا الاتجاهين اختلاف في الدلالة الاصطلاحية لكلٍ منهما. والبحث العلمي في الواقع، لا يقوم إلا على المصطلحين معًا، من حيث الاستعمال ومن حيث الوظيفة. وبذلك، فإن المصطلحين ــ بغض النظر عن تحديد دلالة كلٍّ منهما ــ هما الركيزتان اللتان يقوم عليهما البحث العلمي، في رحلته البحثية عن الحقيقة والمعرفة. وهو ما نميل إليه في التعاطي مع كلا المصطلحين.

  1. ابن منظور، “لسان العرب”. ط1، دار صادر، بيروت،1997م، جـ6/ ص: (264،263). ↩︎
  2. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي، “القاموس المحيط”. إعداد وتقديم: محمد المرعشلي. ط2، دار إحياء التراث العربي، 1420هـ ـ 2000م، جـ1/ ص: (320،319). ↩︎
  3. السيد محمد مرتضى الزبيدي، “تاج العروس”. دار صادر، بيروت، د.ت،  جـ2/ ص: (110،109). ↩︎
  4. محمد فؤاد عبد الباقي، “المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم”. دار الكتب المصرية، القاهرة، 1945م، ص: (719). ↩︎
  5. المائدة، الآية: (48). ↩︎
  6. أبو يحيى محمد بن صمادج الأندلسي، “القرآن الكريم، مختصر تفسير الطبري”. طبعة دار الشروق، القاهرة، 1977م، ص: (127،126). ↩︎
  7. مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”. المكتبة الإسلامية، استانبول ـ تركيا، د.ت، جـ2/ ص: (957). ↩︎
  8. لويس معلوف، “المنجد في اللغة والأعلام”. ط34،  دار المشرق، بيروت، 1994م، ص، (841). ↩︎
  9. أحمد علبي، “المنهجية في البحث الأدبي”. ط1، دار الفارابي،  بيروت، 1999م، ص: (20). ↩︎
  10. ي.ع. العزبي، أ. هورنبي، إي سي بارنويل، “قاموس أكسفورد”. دار جامعة أكسفورد،  لندن، د.ت، ص: (429). ↩︎
  11. أحمد علبي، “المنهجية في البحث الأدبي”. مرجع سابق، ص: (23،22). ↩︎
  12. أفلاطون platon (427 ـ 347 ق.م): من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم أرسطو. درس في بستان أكاذيمس في أثينا. أساس فلسفته “نظرية الأفكار”، مثالها الأسمى “فكرة الخير”. من مؤلفاته: “الجمهورية”، “السياسي”، “المحاورات”. ↩︎
  13. عبد الرحمن بدوي، “مناهج البحث العلمي”، ط3، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977م، ص: (3). ↩︎
  14. أرسطو Aristotle (384 ـ 322ق.م): فيلسوف يوناني, يعد واحدًا من أعظم الفلاسفة في جميع العصور. ↩︎
  15. مجمع اللغة العربية، “المعجم الفلسفي”. القاهرة، 1983م، ص: (195). ↩︎
  16. فرنسيس بيكون Francis Bacon (1561 ـ 1626)، سياسي وفيلسوف إنجليزي. يعد أحد رواد العلم التجريبي الحديث. ↩︎
  17. رينيه ديكارت Rene Descartes (1596 ـ1650م): فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي. يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة. ↩︎
  18. أحمد علبي، “المنهجية في البحث الأدبي”. مرجع سابق، ص: (23). ↩︎
  19. عبد الرحمن بدوي، “مناهج البحث العلمي”. مرجع سابق، ص: (4). ↩︎
  20. نفسه، ص: (5). ↩︎
  21. علي جواد الطاهر، “منهج البحث الأدبي”. ط3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979م، ص: (19). ↩︎
  22. أحمد بدر، “أصول البحث العلمي ومناهجه”. ط6، وكالة المطبوعات، الكويت، 1982م، ص: (35). ↩︎
  23. أحمد علبي، “المنهجية في البحث الأدبي”. مرجع سابق، ص: (21). ↩︎
  24. عبد الفتاح محمد العيسوي، وعبد الرحمن محمد العيسوي، “مناهج البحث العلمي في الفكر الإسلامي والفكر الحديث”. دار الراتب الجامعية، د.مكان نشر، 1996ـ1997م، ص: (13). ↩︎
  25. عبد الرحمن بدوي، “مناهج البحث العلمي”. مرجع سابق، ص: (5). ↩︎
  26. ثريا عبد الفتاح ملحس، “منهج البحوث العلمية”. ط2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973م، ص: (25). ↩︎
  27. عباس الجراري، “خطاب المنهج”. ط2، منشورات النادي الجراري، الرباط، 1995م، ص: (25). ↩︎
  28. عبد السلام الشاذلي، “الأسس النظرية في مناهج البحث الأدبي العربي الحديث”. ط1، دار الحداثة، بيروت، 1989م، ص: (9). ↩︎
  29. أحمد علبي، “المنهجية في البحث الأدبي”. مرجع سابق، ص: (21). ↩︎
  30. نفسه. ↩︎
  31. نفسه، ص: (23). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *