الوداع مقصلة الغفلة الشاردة

الوداع مقصلة الغفلة الشاردة

الوداع مقصلة الغفلة الشاردة

د. عبده منصور المحمودي

في تلك اللحظات المسائية، أقصى سكون المدينة التي تحتضن منزله، كان صفوان في غرفته، التي تمنحه ما يحتاج إليه من استقلالية. كان يقلب أوراق مجلةٍ. يقرأ بعجالة انتقائيةٍ فقراتٍ من مقالاتها.

الرنينُ مفرغُ البشاشة            

  رن هاتفه، أخذه بغير اكتراث. لكنه سرعان ما تهللت أساريره، حينما لاحظ شاشته تومض باسمٍ أثيرٍ عليه. اسم أمل، الموظفة في إدارةٍ فرعية، ضمن المصلحة الحكومية نفسها. التي يعمل صفوان في إدارة فرعيةٍ أخرى، من إداراتها. تلك الإدارات المتعددة، التي تتوزع على مبانٍ متفرقة في المدينة وأطرافها. واحدٌ منها هو المبنى، الذي يضم إدارتي صفوان وأمل.

  ارتسمت ابتسامةُ الحب والسعادة على شفتيه. نظّم من هندام مشاعره وأحاسيسه. استحضر قاموس المودة؛ لينتقي منه ما يليق بها من العبارات الرقيقة.

   ضغط أيقونة الرد، فعطّر قلبَه صوتُها الرقيق ذو النغمات الحانية:

ــ مساء الخير! كيفك يا صفوان؟

ــ الحمد لله. أنتِ كيفك؟

  لم يلمس ما اعتاد عليه ــ في جملة تحيّتها ــ من رقةٍ وهالةِ ابتسامةٍ، تشي بها تفاصيل صوتها. لا بد أن هناك ما أفضى إلى هذا التغير! لم تطل حيرته. فقد أدرك أن وراء ذلك أمرًا مؤسفًا، اختصرتْه نهدةٌ، تهادت إليه من وجدانها الحزين.

   غادر عاطفته، التي كان قد هيّأها، بتفاصيل العشق وامتدادات المودة، منذ غازله اسمُها في ضوء شاشة هاتفه. تجرّد مما هو فيه، بما يكفي لإلقاء سؤالٍ متناسبٍ مع ما استشفّه، من حالها غير المطمْئنة:

ــ خير يا أمل! لفحتْني نارُ نُهدتك، وهي تلامس مسمعي. ماذا هناك؟

ــ لا. لا شيء.           

استشفّ ــ في جملتها المترعة بالحزن ــ أنّ هناك ما تخفيه عنه. كرّر استفساره:

ــ لا شكّ في أنّ هناك أمرًا ما؟

ــ أتذْكُر حديثي معك قبل أيامٍ، عن العمل الجديد، الذي سأنتقل إليه؟! هذا اليوم استكملت المعاملة. ونلت الموافقة. وغدًا ــ إن شاء الله ــ سأبدأ أول يومِ دوامٍ فيه.

مُستهلُّ البَيْن

  فوجئ صفوان بالأمر. فقبل أيّام قلائل، كانت قد حدثتْهُ أمل، عمّا تقوم به من معاملاتٍ خاصة بانتقالها إلى العمل. في مرفقٍ آخر من مرافق المصلحة نفسها. لكنه بعيد عن المكان الذي يجمعهما منذ سنوات. لم يفكر صفوان، أنّ انتقالها يعني فراقهما. وكلما كان يستشعر هذا المعنى، كان يهرب منه. لم يستطع التعقيب على حديثها عن استكمال المعاملة. غاص في بحرٍ من الصمت، الذي كاد أن يغرق فيه، لولا صوتها الذي أنقذه، معيدًا إيّاه إلى واحتها:

ــ ما بك؟! ألّا تبارك لي؟!

ــ هاه! نعم! مبارك لك. لكن …

  كان استدراكه مفتوحًا لا وجهة له. ولا يعي أيّ استدراك يريد أن يقبض عليه. فالذهول سيّد اللحظة وربانها، وسرعان ما امتلأ فراغُ استدراكه بصوتها، وهي تقاطعه فيه بنهدةٍ طويلة. نهدة استوعبتْ كل المعاني، التي يتماهى فيها شعورهما الحزين؛ إذ عاودت النغمةُ الشجيةُ نظْمَ ثنايا حديثها إليه:

ــ أعرف أنني سأفارقك. لذلك؛ رغبت في أن أودعك. أعتذر منك. أطلب منك مسامحتي …

حاوَلَ التداعي معها، بكلماتٍ متّسقةٍ مع العاطفة المكلومة. لكن الذهول لم يعطه أهليةَ استمرار الحديث؛ إذ آلت قيادة الكلام إليها. فواصلت تكسير حائط الصمت:

ما دهاك؟ تحدّثْ. لِمَ الصمت؟!

  انتصر على صمته، بسلسلةٍ من الآهات اللاسعة؛ فتجاذب معها أطراف الحديث. تبادلا عباراتٍ رقيقةٍ، تنساب جداولَ ودٍّ وعاطفة. تورق اخضلالَ حبٍّ، يقطر في مرايا من التأوُّهات الملتهبة.

إطراء واعتذارات

  استطرد كلٌّ منهما في الإطراء على الآخر، وسرْدِ مزاياه. هي تصفه بـالنبل، ودماثة الأخلاق، والطيبة، والطموح المُتَّقِد، وحبّ الخير للآخرين، … ويصفها هو بالأدب، والعفة، والرقة، والعفوية، والبراءة، …

   تتذكر بعضًا من مواقف نبله معها، وتجليات حرصه على مصلحتها. فيتذكر ــ هو ــ لقاءاتهما، التي كانت فيها تشحذ همّته. تشجّعه في الإخلاص لغايته في إحراز النجاح المتجدد. تساعده بأقصى ما تستطيع، في الوصول إلى أهدافه.

   أسرفت في اعتذارها منه عن أي تقصيرٍ بدر منها في حقه. فقاطعها باعتذاره، مؤكدًا أنه هو المقصر في حقها من غير شك. كلٌّ منهما ينكر ذاته. يؤكد فضل الآخر عليه. ينسب التقصير إلى نفسه. يمتنّ للآخر، مُسرفًا في الاعتذار منه.

   استدرجتْهم اللحظة إلى الحديث عن بعض الذكريات واللقاءات التي جمعتْهما؛ فأمطرتْ في حناياهما سحائبُ الذكرى عذوبةَ حبٍّ متدفق. حُبٌّ يهادنان ــ من خلاله رمال الفراق ــ تلك الرمال، التي يُلَوِّحُ بها التصحُّر، على مقربةٍ من صوتيهما.

   تعلو زوبعة الأسى، فتتمثّلُ حشرجاتِ حزنٍ. يتقطّع بها انسيابُ صوت أمل:

ــ سامحني، يا صفوان!

ــ ماذا؟ أسامحك؟! على ماذا؟! لا شيء يستدعي أن أسامحك عليه. سامحيني أنتِ يا أمل! فأنا المحتاج إلى مسامحتك.

  ارتبك الحديث بينهما، وضاعت خيوطه. لكنها استطاعت بعذوبةِ لسانها مُلامسة خطٍّ من خطوطه التائهة، فاستأنفت منه حديثها:

 الفراق مصيرنا الحتميّ، وسُنّةُ الحياة فراقٌ بعد لقاء، ولقاءٌ بعد فراق. لكنه في حالنا فراقٌ بعد لقاء، ثم فراق بعد فراق. قد يجود الزمن بلقاءٍ عابرٍ في القادم من أيامه، لكنه لن يكون لقاءً بمعناه الوجداني الذي اعتدنا عليه. سيكون رسميًّا، بكل ما تعنيه هذه الصفةُ الشاحبة من معنى.

    بدءً من الغد، لن تجدني في انتظاركَ كلّ صباحٍ، لن أستضيء بابتسامتك كل يوم. وعلى ذلك؛ سيبقى هذا الخيط الأثيري حبلَ اتصالٍ بيننا. ليس لنا غيره جامعٌ بين روحينا المتعانقتين في آفاق الوجود.

الوداع مسرح التسامح

  شعرتْ أمل أن اللحظة القاسية قد اقتربت، وأن ليس في اليد حيلة من الاشتباك معها. حاولت محاولة أخيرةً في تأجيلها، نجحت فيها، فامتنّ لنجاحها المتكرر في تأجيل تلك اللحظة المأساوية، نادبًا خيبته، وفشله في مجاراة نجاحها، الذي يبدو أنها قد وصلت إلى آخر جولة فيه. يبدو أنها قد وصلت إلى آخر جولة في نجاح تأجيل اللحظة القاسية، فها هي تُخْبِرُه بموقفِ موادعتِها الحزين لزميلات عملها السابق. زميلاتها اللواتي تمادين في ظلمها، طيلة فترة عملها معهن، في مكتب واحد. لا سيما مديرتهن النزقة متقلبة المزاج، التي كثيرًا ما انسحقت أمل بظلمها الاعتباطي. وكثيرًا ما كان صفوان ملاذها؛ لتنفس عن ألم مشاعرها؛ جراء ظلم زميلاتها ومديرتها:

ـــ اليوم، جعلتُ من المكتبِ مسرحًا حزينًا. خيّمتْ عليه أجواءُ الفراق. ونسجتْ تفاصيلَه لحظاتُ العتابِ الصامت؛ فتمزقت فيه القلوب بشفرات الوداع الأخير.

آه! يا صفوان! كم كانت اللحظات مؤثرة، اختزلت الذكريات كلها، في دموع زميلاتي التي انهمرت بغزارة، مع كل كلمةٍ ازدحمت بها مراسيم التسامح والوداع. لقد سامحتهنّ جميعًا. ولم تبق في قلبي ذرة من الضغينة تجاههن. وكم كنت أتمنى أن تكون معنا؛ ليتكامل مشهد الحزن بتفاصيل وداعٍ استثنائي لن يُنسى.

ـــ هكذا أنتِ كعادتك، كائنٌ معجون بالطيبة، على ما يتلقاه من ظلم وتعسف. تضربين أنبل الأمثلة، وتجسّدين أروع دروس التسامح، مع كل من نالك: بظلمٍ، أو قسوةٍ، أو جرحٍ أُدْمِيَتْ به عاطفتك الملائكية. فاتَنِي مشهدٌ استثنائي ذو واقعية تراجيدية. كم كنتُ أود أن أكون في قلب أمواجه الحزينة. وإن كنت سأحتسي النصيب الأوفر، من مرارة علقمِه وعذابه.

الوداع مقصلة الغفلة الشاردة

     لاحت لهما اللحظة التي يكتنز فيها الوداع مقصلة الغفلة الشاردة والشجن القادم. لاحت لهما اللحظة، التي اجتهدا في التغافل عنها، منذ البداية في هذه المكالمة التي أشرفت على النهاية. هذه المكالمة، التي أشرفت على آخر لحظاتها، منهزمةً بإطلالة الوداع القاسية، التي استلقت على لسان أمل:

 ــ والآن يا صفوان: أشكرك على كل جميلٍ أسدَيْتَه إليَّ. واعذرني، وسامحني عن أيّ تقصير. استمرْ ــ يا صفوان ــ في دربك النبيل. واصل السير والخطى الحثيثة حتى تصل إلى هدفك المأمول. ولا أستطيع أن أقول لك كلمة الوداع ــ مُمازِحةً ــ حتى لا تبكي، فأسمع بكاءك، والرجال لا يحبون أن تسمع النساء بكاءهم.

   لم يقل شيئًا. فقط تعالت تأوُّهاته، التي أوحت إليها بأن البكاء هو ما ينتظره بعد انتهاء المكالمة. توالت اللحظات الأخيرة مضفورةً بما لا بد منه؛ إذ انشطر الوجود بثلاث كلماتٍ، قالتْها أمل، بصوتٍ يغلب عليه الهمس، ويَفْتُكُ به التأوُّه المُخْضَلُّ بالدمع:

ــ مع السلامة يا صفوان! وداعًا، دعواتك!!!

  وبنبرةٍ شاحبةٍ وصوتٍ مغرورقٍ بالدموع، التي أشرفت على استحياء من عينيه الغائرتين، ردّ صفوان:

ــ مع السلامة، وداعًا.

  لم تطاوعه يده على سلخ الهاتف من على خده الأيمن، الذي التصق به. انتظر حتى يسمع أمل هي من تغلق المكالمة أولًا. لكنها لم تفعل. كانت مثله تنتظر أن يفعلها هو. وكأن كلّ واحدٍ منهما لا يريد أن يكون شفرة قطع حبل التواصل. لم تستطع مقاومة نوبة البكاء التي داهمتْها، فلم تجد بدًا من إغلاق المكالمة، لينفرد بها ذاك النحيب، الذي لا مناص من الاستسلام له. سمع صفوان رقة إغلاق أمل للمكالمة، فأغلق طرف الاتصال من جهته. أغلقه بهدوءٍ أفرزتْه اللامبالاة المتناهية، بعد أن أُغلِقَ من جهة أمل. اتّكأ على ظهره، بلّلَ شفتيه، مسَحَ قطراتِ العَرَق، التي تمخّض عنها أَرَقُ الوداع على جبينه. أطلقَ زفرةً في الهواء مُشَيّعةً بالدموع، وبأنين البكاء المثخن بالتأوه. شرَدَ خلف ما خاله طيفَ الآهات المُسترسلة من قلبه، متابعًا في آفاق خياله أجمل الأيّام، وأسمى الذكريات البعيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *