ثنائية السجن والورق في رواية “رماد أنثى”
تتجلّى في رواية ندى شعلان “رماد أنثى”(1)، ثنائية السجن الورق، إذ استوعبت السياقات السردية فيها أحداثًا متناسلة متعددة، في مضامينها وإحالاتها، وفضاءاتها.
مصير البوح والتدوين
اقترفت شخصية العمل الرئيسة “حنين” خطأً فادحًا في حق صديقتها “شذى”، المنبوذة اجتماعيًّا، بسبب سيرة أسرتها. ولم تُقْدِم “حنين”، على ذلك، سوى تداعيًا منها مع الرؤية الاجتماعية، التي تقوم عليها بُنية العمل. تلك البُنية، التي تجلّت ــ من خلالها ــ الصلات السردية بين الرواية وأزمة المرأة اليمنية.
تناسلت الأحداث من الحدث الأول الذي أقدمت عليه “حنين”، حتى انتهت بها المسارات السردية، إلى أن تكون ثنائية السجن والورق مصيرها وملاذها الكتابي(2). الذي استوعب تفاصيل الحكاية، واستمرارية المأساة وعنفوان الألم: “أسلمت شكواي أخيرًا لهذه الأوراق لمّا لم ألق غيرها متنفسًا لرغبتي الملحة في البوح والشكوى لتخفف من تلك الأعباء والرزايا”(3).
لم تتوقف تدفقات بوح “حنين” على أوراقها، إلّا حينما أقدم زوجها “سلطان”، على تأديبها. لقد اكتشف عند عودته من سفره ما آلت إليه حالها، وما أقدمت عليه من جُرمٍ وخيانة. كما اكتشف أن حملها الذي عَلِمَ به ــ أيضًا ــ عند عودته، ما هو إلّا ثمرة لخيانتها إيّاه. فهو مدركٌ حقيقة عجزه، ولا يمكن أن تكون تلك ابنته. لذلك، اشتاط غضبًا وسخطًا على “حنين”، وضربها على رأسها بقوة، ولم تستطع بعدها مواصلة بوحها في ملاذها الإبداعي الكتابي: “هذا المساء الذي يبدو بأني فيه سأكتب آخر صفحات مأساتي … ليس لأن مأساتي انتهت، فمأساتي طافحة لا تغور أو تنضب، ولكن لأني لم أعد أقدر على كتابة المزيد، فها هي ضربة (سلطان) التي هوى بها على رأسي بواسطة قطعة خشب قد بدأت آثارها تتبدى وتتجلى”(4).
الرغبة في إحراق ورق المأساة
استمرت حيوية الحدث وفاعليته، في شعور “حنين” بخطأ تدوينها لرحلة عذابها. تلك الرحلة، التي صارت كائنًا من الحروف على الورق. انتابها هذا الشعور، لحظة إفاقتها من إغمائها، ومعرفتها بإنجابها طفلتها، ثمرة علاقتها غير الشرعية مع “أيهم” عامل بستان زوجها. ضمت الطفلة إليها، والشعور بالندم يجتاح كيانها؛ لِما سيترتب على ذلك من تدميرٍ لحياة طفلتها ومستقبلها. لذلك، تمنت أن تطال يدها تلك الأوراق، لتحرقها كلها، وتنثر رمادها في مجاهل النسيان. وشعرتْ برأسها، تزداد ثقلًا على ثقلها. ودخلتْ في حالٍ من الإغماء وفقدان الوعي، لم تخل من هذيانٍ محمومٍ متقطعٍ، ذهبتْ تُردّدُ فيه من دون أن تشعر: “الأوراق … الأوراق…”(5).
ماتت “حنين” مثخنةً بالندم، غير مدركةٍ أن أمنيتها المتوثبة ــ تلك ــ لن تموت معها. ولا مدركة أن أخاها سوف يحقق لها آخر أمانيها؛ فالأوراق لم يطّلع عليها أحدٌ سواه، إذ وضعتْها السجانة “عبير” بعد وفاة “حنين” في مظروفٍ، وسلّمَتْه إلى أخيها. قرأ ما فيهِ فصعقتْه المفاجأة: “فجّر جام سخطه وغضبه ذلك ــ ولم تعد (حنين) متاحة الآن ليفجره عليها ــ على تلك الأوراق ممزقًا إياها ثم محرقها حتى آخر مزقة منها في نيرانٍ ضارية ولم ينصرف حتى تأكد من استحالتها تمامًا إلى الرماد”(6).
رماد العنقاء/ الأنثى
لقد أضفت ثنائية السجن والورق حيويةً وقوةً على فاعلية الحدث؛ ففي السجن اتّسق البناء الفني في ارتباط أنساق الرواية، من خلال فعل الكتابة الذي تخلل محطاتها، وتبلور في نهايتها تبلورًا ذا استثمارٍ رمزيٍّ لأسطورة طائر (العنقاء/ الفينيق). ذاك الطائر، الذي احتفتْ به الأساطير القديمةُ فينيقيةً ويونانيةً وعربيةً. وتكمن أسطوريته في دورة حياته الطويلة، ومصيره الاحتراقي، ثم انبعاثه من الرماد المكتنز إمكانية حياته وعودته. وفي هذه الرواية، نجد احتراق الأنثى، وصيرورتها رمادًا، يكتنز إمكانيةً لحياة الأنثى وحضورها. وقد كانت عنقاء الأنوثة منبعثةً ــ بجوهرها وطبيعتها البيولوجية ــ في لقاء “حنين” بـ “أيهم”(7).
كما تجلّى انبعاث (العنقاء/ الأنثى) المتحوصلة في شخصية “حنين”. ذلك، في تشَكُّلِ حياتها وسريان تفاصيلها، في عالمٍ إبداعي مادته الكتابة، التي كانت الرواية ميدان انتفاضته وتجلياته. لذلك، كَثُر اقترانُ حضور الأنثى بالرماد. وكان العنوان بؤرةً محوريةً في ذلك؛ بامتداده النسيجي المتكرر، في مواضع متعددةٍ من الرواية.
كما كان اختيارُ اللفظ المقترن بالرماد متجسّدًا في لفظ “أنثى” وليس “امرأة”؛ وذلك لما يتضمنه لفظ “الأنثى”، من دلالةٍ على خصوصيةِ هذا الكائن الإنساني. بما فيه، من أبعاد الغريزة. وفي ذلك، اتساق مع مضمون الرواية؛ فهي تدور حول الأنوثة، وما يرتبط بها. والرماد سكونٌ، يعقب احتراقًا وتوهجًا، وقد احترقت أنوثة “حنين”؛ وما تفاصيل هذه الرواية إلّا رماد احتراقها وتوهجها.
“فلاش باك”
كما مثّلت ثنائية السجن والورق بيئةً مواتيةً لفاعلية الحدث، في شكلٍ إبداعي، جسّدَتْه الكتابة الروائية لتداعياته ومحطات تناميه. فإنها مَثّلَت ـــ من ناحيةٍ أخرى ـــ استثمارًا فنيًّا لواحدةٍ من أهم سمات الرواية الحديثة. تلك، هي تقنية “الفلاش باك”، التي تنتمي إلى مجال السينما، بماهيتها المتضمنة انقطاع التسلسل الزمني أو المكاني للقصة أو المسرحية أو الفيلم. والسبب في ذلك، هو الرغبة في استحضار مشهدٍ أو مشاهد ماضية، تلقي الضوء على موقفٍ من المواقف، أو تعلق عليه.
وبعد أن كانت هذه التقنية مقصورةً على السينما، وجدت طريقها إلى الأدب. لذلك، وظَّفها الكُتّاب في الأدب المسرحي، والشعر، والأعمال الروائية. لا سيما الرواية البوليسية، التي كثيرًا ما تبدأ بنهايةِ الأحداث، ثم تسترجع وقائع الجريمة شيئًا فشيئًا. وبهذا التوظيف، استثمر الأدباءُ ماهيتها “القائمة على التقطيع والتداخل والاسترجاع، حيث يتقدم الأخير من الكلام على ما قبله، وذلك لإيقاظ وعي القارئ، وكسر سياق الزمن الروائي وتخليصه من الرتابة”(8).
وتجلّى هذا الاستثمار في هذا العمل، في توظيف هذه التقنية الفنية. من خلال ورود إشارة إلى السجن، في بداية الرواية. حينما كانت “حنين” تتحدث عن اتجاهها إلى الكتابة ملاذًا، بعدما ضاقت بها الحياة فيه(9). ثم توارى السجن، مُتيحًا مجال الكتابة لتفاصيل حياة “حنين”. ليطل مرةً أخرى، في إشارتها بأنها تتحدث مع “عبير”، التي أشفقت عليها، وهي منهمكة في الكتابة(10). كما عادت إليه، وهي تتحدّث ــ أيضًا ــ إلى السجانة “عبير”، عن فحوى وجودها فيه، بسبب ما اقترفتْه من جُرمٍ في حق حياة “شذى”، فتَخَلِّي الجميع عنها(11). وبعد هذا الحضور المقتضب، لهذا المتغير المكاني (السجن)، تأتي نهاية العمل زاخرة بالتفاصيل المختلفة التي يتضمنها.
الرجلُ متنٌ، والهامشُ امرأة
جاءت فاعليةُ الحدث في هذا العمل، انسيابيةً سرديةً لقهر المرأة اليمنية في مجتمعها الذكوري، الذي يجوِّز للرجل الكبائر كلها. ويحاسب المرأة على خطيئة(12)، ويعاقبها بالقضاء على حياتها(13). فهي ــ وحدها ــ مَنْ يتحمل مسؤولية الخطيئة، ولا يساويها الرجل في ذلك(14).
وقد غذت ديناميةَ الحدث هذه الرؤيةُ الاجتماعية الجائرة الموسومة بالذكورية، المتسقة مع الرؤية العربية. تلك الرؤية، التي تتضمّن تجريمًا لخطيئة المرأة في المجتمع العربي، من دون أن يشمل ذلك الرجل(15). في سياقٍ من التهميش والدونية، الذي تعانيه المرأة العربية، في واقعها الاجتماعي. فمهما حاولت تجاوزه ببلوغها مستوى متقدمًا من الثقافة والمعرفة، فإنها لن “تستطيع التخلّي عن المخزون النفسي القابع في زوايا عقلها، والذي تحسّ به يشدّها إلى الظلّ، وأن شعورًا خفيًّا يدفعها للاستسلام للمصير المرسوم، وأن مثل هذا الاستسلام مطلوب منها”(16).
نسيج الحدث وهيمنته
يمكن القول إن الحدث في رواية “رماد أنثى”، قد اتسم بالحيوية واستمرارية الفاعلية والتنامي. فمنه تناسلت أحداث الرواية، وإليه عادت تفاصيل حزنها وأساها، ومن خلاله تجسدت رؤية التهميش والدونية التي تسحق كينونة المرأة اليمنية. كما كانت سطوة الحدث وسلطته محتويةً الشخصيةَ الرئيسة في الرواية، فكانت أحداثُ حياةِ الشخصية متوالدةً من الحدث، لا من ذات الشخصية.
ومن التجليات الحداثية في هذا العمل، هذه الهيمنة التي سيطر بها الحدث على التفاصيل السردية. كما سيطر بفاعليتها، في بناء مشاهده المترابطة بحيويةٍ وتجانسٍ ملحوظ بين مضامينه المنسوجة بتداعياتٍ وجدانية. تلك المضامين والتداعيات، التي تتحوصل ــ جميعها ــ في دائرةٍ عاطفيةٍ واحدة. تتماهى فيها مشاعر الندم، والعذاب بسياطِ جلدِ الذات، الممزقة بشفرات الشعور بالذنب. المنهكة بتكامل درامية المأساة، وتداعياتها، التي فتح البابَ لها خطأٌ تم اقترافه من دون تفكيرٍ بعواقبه.
أفقٌ تجديديٌّ واعد
تتواشج هيمنةُ الحدث ــ هذه ــ مع جوهر التجديد في أساليب السردية المعاصرة. وهو ما جَسَّدهُ ــ من جهةٍ أخرى ــ الاستئناس بتقنيات الحداثة السردية، التي كان أبرز تمظهر لها في الفنية الاسترجاعية، التي اضطلعت بها تقنية (الفلاش باك). في الفضاء الزمني، الذي استوعب سردية الأحداث في هذا العمل. تلك الأحداث، التي تجلّى فيها نسقٌ من الجدوى السردية لأزمة المرأة اليمنية. كما تجلت في هذه الأحداث ــ ومن خلالها ــ سياقات التسريد، في مصيرٍ اضطلعت باستيعابه ثنائية السجن والورق.
إن حضور تقنياتٍ فنية حديثة ــ على محدوديتها ــ في سردية هذا العمل، يحيل على جهدٍ نسبيٍّ من الاشتغال الواعي، على الحداثة السردية وتقنياتها. وفي ذلك، إحالةٌ على أن الكاتبة مأهولةٌ بممكناتِ التجديد، التي ستمثل إضافةً فنيةً، لما سيأتي من اشتغالاتها السردية. فيما لو تشبّثت، بإخلاصها لموهبتها الروائية. واشتغلت على إثراء بنيتها المعرفية والثقافية، بمزيدٍ من الاستلهام، لما وصل إليه الفكر النقدي الحديث، من حصيلةٍ معرفيةٍ مطردة.
لا سيما أنها في مستهل الطريق، وفي مقتبل العمر، على غرار غيرها من الكتاب الشباب، المسكونين بالرغبة الإبداعية. أولئك، الذين يخلصون لفنّهم: ممارسةً، وبحثًا، واستلهامًا حيويًّا للزاد الثقافي والإبداعي والفكري؛ على اعتبار “أن التجديد الأدبي بحثٌ دائبٌ عن أدواتٍ تُمَكِّنُ الأديب وتزيد من قدراته على التعبير عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير المستجد، وبهذا المعنى فإن التجديد في الأدب هو ــ في التحليل الأخير ــ حيازة جمالية للعالم أو بحث عن عالم أفضل”(17). كما أن في متغيرات العصر المتسارعة، وثورة الاتصالات، والطفرة المعلوماتية الهائلة، ما يصل بالأديب الدؤوب، إلى غايته من أقصر الطرق، وأيسر السبل.
- .ندى شعلان، “رماد أنثى”، مكتبة مدبولي، ط1، القاهرة، 2010م. ↩︎
- نفسه، ص: (5). ↩︎
- .نفسه، ص: (317). ↩︎
- نفسه، ص: (331). ↩︎
- نفسه، ص: (340). ↩︎
- نفسه، ص: (341). ↩︎
- نفسه، ص: (199). ↩︎
- عبد العزيز المقالح، “معجب الزهراني روائيًّا”. ملحق صحيفة الثورة الثقافي، صنعاء، العدد: (16874)، 24/1/2011م، ص: (16). ↩︎
- ندى شعلان، “رماد أنثى”. مرجع سابق، ص: (5). ↩︎
- نفسه، ص: (53). ↩︎
- نفسه، ص: (163). ↩︎
- نفسه، ص: (64). ↩︎
- نفسه، ص: (172). ↩︎
- نفسه، ص: (227). ↩︎
- أدونيس، “الثابت والمتحول”. ط3، دار الساقي، بيروت، جـ1/ ص: (218). ↩︎
- سمر روحي الفيصل، “بناء الرواية السورية”. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995م، ص: (98). ↩︎
- شكري عزيز الماضي، “أنماط الرواية العربية الجديدة، مجلة عالم المعرفة، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد: (366)، الكويت، سبتمبر، 2008م، ص: (11). ↩︎