دمعةُ “خالد” ذات عشائين
الليلة معجونةٌ بالحزن، شرسةٌ، فاتكةٌ بـ “خالد”. بدأت بالانقضاض عليه منذ عصر هذا اليوم، بعدما تلقّى مكالمةً، صعقَتْه بما حملتْ إليه من خبرٍ مأساوي، خبر وفاة صديقه الحميم “ميمون”؛ إثر تعرُّضِهِ لحادثٍ مرروي في أطراف المدينة.
الليلة ثقيلةٌ على كاهل “خالد”. أفرغتْها المأساةُ من خصوصيتها، بصفتِها أولى ليالي الشهر المبارك. خصوصيتها في بزوغها من ساعاتِ آخر يومٍ من أيام شهر شعبان. وعلى ذلك، فقد تشبّثتْ بفرادتها تشبُّثًا مُتناغمًا مع طارئ الأسى الذي يمزق “خالد”. لقد استدعت إلى ذهنه كُلَّ ما استطاعت استدعاءه من إرشيف أحزانه. لتتماهى في ذكرى ليلةٍ شبيهةٍ بها، ليلةٍ قديمة أطلّتْ مثلها من شرفة آخر يوم في شهر شعبان. تفرّدت مثلها بصفتها ليلةً رمضانيةً أولى. اتَّشَحَتْ مثلها بمظاهر الاحتفاء الاجتماعي سعادةً بقدوم شهر الصيام. ذاك الاحتفاء المتدفق في ترانيم التواشيح الدينية، وإيقاعات الضوء التي تعزفها فرحةُ المحتفلين في إطلاقهم الألعاب النارية.
ليلتانِ نازفتان
هذه الليلة، هي تلك الليلة القديمة في شتى تفاصيلها. لا تختلف عنها سوى في حال “خالد”، التي قطع فيها عُمْرُهُ شوطًا من بعدها، شوطًا تجاوز فيه العام السابع عشر، من عُمْرِ المسافة الزمنية الفاصلة بين تلك الليلة ــ المستقرة في ذاكرة المدينة التي كان يستقي فيها تعليمه العالي ــ وبين هذه الليلة في أحضان قريته النبيلة. قريته التي نمى حُبها فيه منذ الطفولة، وأينع في حياته منذ استقراره الأخير فيها، قبل بِضْع سنين من ليلة وفاة صديقه “ميمون”.
شرعت هذه الليلة الاستثنائية، في استحضار شبيهتها القديمة ــ تلك ــ التي عاشها “خالد”، وعاش التفاصيل الاستعدادية السابقة لها طيلة أسبوع المدينة الأخير من شهر شعبان. أسبوع كثافةِ الاستعدادات لاستقبال شهر رمضان: حيويةٌ مُطَّرِدةٌ في أسواق المدينة. حركةٌ مستمرة في جلب البضائع. سياراتُ تُجّار التجزئة وهي تغادر المدينة ــ بوتيرةٍ متسارعة ــ إلى قراهم وعلى متنها موادٌّ غذائية. وما في سياق ذلك من مواد خاصة باحتياجات شهر الصيام. ترانيم وموشحات دينية ترحيبية بخير الشهور، تتردد في أحياء المدينة وشوارعها: الاستريوهات، الحافلات، السيارات، بعض المنازل.
قرارُ البقاء
تلك الطقوس الاستعدادية المُكَثَّفة، التي عايشها “خالد” في المدينة، لم تنل من قرار البقاء فيها، الذي سبق أن اتخذه، بعد زوبعةٍ من حيرةٍ عصفت به بين قرارين: قرار البقاء، وقرار السفر إلى قريته.
في خضم تلك الحيرة، كان يميل “خالد” إلى مغادرة المدينة. على أن يعود إليها بعد أن يستهل الأيام الأولى من شهر الصوم مع عائلته. لكنه تخلّى عن هذه الرغبة، بعدما فكّر فيما يترتب على الانجرار وراء تحقيقها من مخاطر؛ إذ سيتزامن أول يوم رمضانيٍّ مع موعد محاضرة الدكتور “حاتم”، بتعقيداتها التي لا يمكن استيعابُها إلّا بالحضور. فضلًا عن أن صرامة أستاذها ــ البروفيسور ــ لا تتهاون مع غياب أحد من طلابه. فيقسو غيابُهم في النيل من علامات تقييمه لهم. وليس من السهل على “خالد” أن يجازف؛ فينال غيابُه من مستواه المتقدم، الذي لم يفرط فيه طيلة الأعوام الفائتة، منذ أن وطأت قدماه أروقة كلية “الهندسة والاتصالات”.
المقيمون مع “خالد” ــ في مبنى السكن المشترك ــ مثله طلبةٌ جامعيون، كلهم منتمون إمَّا إلى قريته وإمّا إلى محيطها. وحدَهُ ــ مِنْ بينهم ــ مَنْ كان حظُّه سيئًا؛ إذ لم تتوافر لدى أيٍّ منهم دواعي البقاء. مثلما تضافرت للحيلولة دون سفر “خالد”. لقد اتخذوا قرارًا جماعيًّا بالسفر. “خالد” وَحْدَهُ، مَنْ سيبقى حتى عودتهم من قضائهم أيامَ الصيام الأولى مع أهاليهم.
الزوجُ العازبُ مُجدّدًا
لو كانت موجبات البقاء ــ هذه ــ قد اجمتعت على “خالد”، في الأعوام الثلاثة الفائتة، لكان الأمر أهون عليه. لكنها تكالبتْ عليه في هذا التوقيت الحَرِج. غير مكترثةٍ باختلاف حاله عازبًا في الماضي، عن حاله زوجًا هذا العام.
في العاشر من شوال من العام الفائت، احتفى “خالد” بليلة العمر، زُفّتْ فيها إليه عروسُهُ “ندى”. لم يقضِ معها سوى النصف الأول من شهر العسل. سافر بعده إلى المدينة، مستأنفًا تحصيله العالي. لكنه ــ على ذلك ــ لم يفرط في العودة إلى القرية أيّام الخميس، ليقضي معها إجازته الأسبوعية، التي عادة ما كانت تنتهي بسفره مساء يوم الجمعة.
سافر مَنْ قرروا مغادرة المدينة. وبقيَ “خالد” أسيرًا لوحدته. وعلى ذلك، لم تنل حاله هذه من مشاعره؛ إذ تمكن من السيطرة عليها منذ سافر المقيمون معه قبل أيّامٍ ثلاثة. كان اليوم الثالث منها آخر أيام شهر شعبان. قضاه في غرفته محافظًا على عادته، في استثمار الوقت مثابرةً واجتهادًا.
مسرحُ العشاء
مع حلول مساء ذاك اليوم، خرج ــ كعادته كل ليلةٍ ــ لتناول وجبة العشاء، في المطعم الشعبي المشتهر بتقديم وجبتي: “العشاء”، و”الإفطار”. والمشتهر ــ أيضًا ــ باقتصار هاتين الوجبتين فيه على أقراص “التميس”، و”الفول”.
لم يسأل النادل “خالد” عن طلبه؛ إذ صار من زبائن المطعم، الذين يعرف عاملوه خصائص وجباتهم ومقدارها. لذلك؛ وضع ــ بعد لحظاتٍ من وصول خالد ــ على طاولته عشاءه المعتاد: حبة “تميس” ونصف حبةٍ أخرى. نصف نفر “فول قِلَابَة”. واحد شاي أحمر. قليلٌ من الفلفل الأخضر المسحوق.
ناوشت تلك اللحظات عاطفة “خالد” بحزنٍ حاد. حزن مشحوذ بما تعالى في سماء المدينة، من أضواء الألعاب النارية وأصوات انفجارها؛ احتفالًا بقدوم الشهر الكريم، الذي أعلنت “دار الإفتاء الشرعية”، عن رؤية هلاله. فتزامن الاحتفاء به مع استهلال “خالد” وجبة عشائه.
على يمين المطعم، استريو لبيع أشرطة الكاسيت المتنوعة. مكبرات الصوت فيها مستمرةٌ في احتفائها بقدوم شهر الطقوس الروحية. لكن تداعيها مع تفاصيل لحظة إطلاق المفرقعات النارية زاد من حيوية الاحتفاء، التي تمثّلت في ارتفاع حجم الصوت وهو يصدح ــ تلك اللحظة ــ بموشحة: “رمضان يا صائمينا.. شهر رب العالمينَ…”.
مع أول لقمةٍ وضعها “خالد” في فمه، توقف صوت الفنان “أيوب طارش العبسي”. الذي كان يترنم بذاك التوشيح الترحيبيِّ، الذي يبشر فيه الصائمين بقدوم ضيفهم الكريم. ليحلّ محلَّهُ صوتُ أنشودةٍ دينيةٍ أخرى، في تقاسيمها الموسيقية طاقة روحيةٌ عاليةٌ وفاعلةٌ في إثارة أحزان القلب الكليم. بدأت موسيقى تلك الأنشودة بطيئةً، ثم تسارعت، فانتضم انسيابُها متدفقًا بتوشيح: “يا رسول سلام عليك….”. اقشَعَرَّ جسد “خالد”، نشف ريقه، وانفجرت أحاسيسه بحزن عارم. سحقتْهُ وطأةُ الشعورِ بالغربة والوحشة والبعد عن الأهل والحبيبة، في الوقت الذي يستهل فيه الناس شهر الصيام مع أهاليهم. سقطت مع الموسيقى دمعاتٌ، جاهد في مواربتها، مُبتلِعًا غُصّتَهُ مع لقيماتٍ محدودة.
“ندى” واتصالٌ مواربُ الشجن
عاد “خالد” ــ من مسرح العشاء والدمع ــ إلى غرفته نازفَ الوجدان. اتّكأ في زاويتها التي اعتاد على التَّكَدُّسِ فيها. تخطّفه الشرود، فانتشله منه صوتُ رنين هاتفه. كان المتصل “ندى”. رد عليها بصوتٍ حاول ألّا يحمل أي معنىً من معاني حقيقته وحاله المُعَذّبة. هنَّأتْه بحلول الشهر الكريم.
تكلّفت “ندى” التماسك في صوتها حتى لا تثير مشاعره، إذ سبق أن اتفقت معه على قراره حينما اتّخذه وأبلغها به. كررت تشجيعها وتحفيزها له، مؤكدةً أنه مصيبٌ في قراره، وأن عليه ألا يتهاون مع أي شيءٍ يمكن أن يؤثر على سعيه إلى غايته. لم تُشِرْ ــ لا من قريب ولا من بعيد ــ إلى ما يتركُهُ غيابُه في حياتها، من وحشةٍ وحزنٍ. لا سيما في هذه الليلة الفريدة. لم تسأله عن المقيمين معه؛ فهي على علمٍ بعودتهم إلى القرية، ولا تريد أن يصدر منها ما يمكن أن يُؤوِّله عتابًا غير مباشر. تصنّع التماسك مثلها، حتى ودّع كلٌّ منهما الآخر. وكلٌّ منهما يعي حاليهما هاتين، اللتين واربا فيهما انتصارًا متَصَنَّعًا، على الشعور بوحشةِ الوحدة وأشجان الغياب.
لم يستقبل “خالد” أيّة مكالمة أخرى، بعد مكالمة “ندى”. إذ فعّل “خدمة التحويل” في هاتفه. كان يرد على رسائل أصدقائه الرتيبة ــ التي تحمل إليه تهنئاتهم له بحلول شهر الصوم ــ برسالة واحدةٍ ، مُكرِّرًا نسخها والرد بها على كل رسالة. لا تزيد كلماتها عن: “علينا وعليكم، كل عامٍ وأنتم بألف خير!..”. أما رسائل شركة الاتصال، التي توافيه بالاتصالات المفقودة، فقد اكتفى منها بمعرفة هوية مَنْ كان يريد الاتصال به.
ظلامٌ متواطئ
بدأ “خالد”، تسامره مع ذاته، وحيدًا في فضاءٍ مُبَلَّلٍ بشروده وصمته. انطفأت الكهرباءُ في التاسعة والنصف من ذاك المساء ــ ستعود بعد ساعات ثلاث؛ وفقًا لأنظمة انطفائها المعتاد ــ لاحظ من النافذة أنها لم تنطفئ في الشارع المقابل ــ لا يجهل أن انطفاءات الكهرباء في مدينته موزعة على مربعات المدينة بالتناوب. لذلك؛ فقد كان انطفاء تلك الليلة من حِصّة المربع الذي يقيم فيه ــ لمس في انطفاء الكهرباء تضامُنًا ضِمنيًّا مع حاله البائسة. وَجَدَ فيه تزيكةً لتكاسلة ونيّته في التداعي مع فتورِ حماسه لمراجعة محاضراته ككل ليلة. بَرَّرَ به رغبتَه في أن يجعل ليلته تلك خالصة لصمته وأحزانه.
لذلك، لن يتدبر أمره ــ كعادته حينما تنطفئ الكهرباء ــ بإشعال الشموع الثلاث المثبتة على الشمعدان، التي تبدو ــ تلك اللحظة ــ متفاوتة في مقدار الجزء المتبقي منها. إذ يتجاوز ذاك الجزء النصف في اثنتين، ويقل عن الثلث في الثالثة. لا حاجة لخالد إلى ضوء شموعٍ تلك الليلة، بقدر ما هو بحاجةٍ إلى مزيد من الظلام الحالك، الذي يكفي لاحتفائه بطقوس أحزانه القاتمة.
كأنها تلك الليلة
بعد أكثر من عقدٍ ونصف، داهمت “خالد” تلك الليلة القديمة. قَدِمتْ إليه في ثوبِ ليلةٍ حديثةٍ. ليلة نُسِجَتْ أحزانُها بتلك المأساة التي أزهقتْ روح أحد أصدقائه. دخلت إليه “ندى” بمائدة العشاء، التي حرصت على أن تكون لائقةً بأول ليلةٍ رمضانية. مع استهلالهما تناول هذه الوجبة الاستثنائية ــ التي ظهر على “خالد” فتورٌ في مد يده إليها ــ تعالت أصوات الضجيج الاحتفالي بقدوم الشهر الكريم، بعد الإعلان الرسمي عن رؤية هلاله. فاكتظ ذهن “خالد” بتفاصيل تلك الليلة القديمة.
أما “ندى”، فلم تكترث بصخب الفرحة؛ إذ اختزلت في “خالد” معاني الاحتفاء كلها، وهي تمسح دمعتَه التي سقطتْ من عينه ساخنةً سخِيّة. قام من على المائدة، فلم تُلِح عليه؛ فهي تعرف ما تعني له وفاة أعز أصدقائه. تسَمّرت عيناها فيه مُشْفِقَةً عليه، وهو يتجه إلى النافذة، ويطلّ منها على مشهد الاحتفاء الاجتماعي بحلول شهر رمضان. لا يعنيها تخمينُ ما يدور في ذهنه، كون ذلك ــ في جوهره العام ــ متعلِّقًا بمعاناته مأساة فقدان صديقه، لا علْمَ لها بأن لها مكانًا فيما يدور في ذهنه تلك اللحظة.
كان “خالد” ــ في إطلالته من نافذة الشرود على الفرحة بقدوم ضيف الصائمين ــ يتحدّث إلى نفسه بحزنٍ كثيف: ما أشبه هذه الليلة بتلك الليلة القديمة! كأنها هي: احتفال الناس بقدوم رمضان. الألعاب والمفرقعات النارية تُزَيِّنُ سماء القرية فرحًا وسعادةً به. لحظة العشاء. التواشيح تتداعى من كل منزلٍ مُتْرَعَةً بِطَعْمِ حزني الطازج، وبطَعْمِ فرحتهم الاحتفالية … ما أشبه الليلة بتلك الليلة العتيقة، التي لم يكن معي فيها أحدٌ على مائدة العشاء، لم يمسحْ فيها أحدٌ دمعتي، مثلما فعلت “ندى”، في هذه الليلة العصيبة!