رواية “شبابة السبع” والعالقون في هامش الحياة
تفضي مستجدات الحياة في اليمن، إلى منظومة من التداعيات، التي تتفاوت في مستويات إنهاكها للحياة المعيشة. كما تتفاوت في مستويات آثارها الفاتكة بإمكانات النجاة من سعيرها المتقد. وذلك؛ تبعًا لتفاوت المستويات الاجتماعية في متْنِ الحياة. ذلك المتن، الذي استحوذت عليه تلك المستجدات المتناسلة. لكنها في مسارٍ مناقضٍ لم تنلْ هذا الاستحواذ. إذ لا تزيد على أن تكون هامشيةً، عند فئةٍ محدودةٍ من اليمنيين. تلك، هي فئةُ العالقين في هامش الحياة.
عالقٌ في هامش الحياة
إلى هذه الفئة الاجتماعية ــ فئة العالقين في هامش الحياة ــ انتمت الشخصية الرئيسة في روايةِ، “شبابة السبع”(1). فصاحِبُها منهكٌ ومضطربٌ نفسيًّا ووجدانيًّا. له حكايته الخاصة، بتفاصيلها، وتشابكات خيوطها. لم تؤثرْ تلك المستجدات والمتغيرات المعاصرة في صيغة حياته. تلك الحياة، التي كان محسودًا عليها من بعض المسحوقين بتداعيات اللحظة القاسية. منهم سائق السيارة، التي اسْتقلّها مسافرًا إلى صنعاء، والذي شرَع يخاطبُه: “والله إنّك مرتاحْ، تسير، وتجي، وما عليكَ هَمُّ!! … أنتَ عايش، عايش!! … والله، صدِّقني، والله!! … ولا عليك شيء”(2).
حضرتْ تلك المستجدات وتداعياتها، في هذه الرواية. من خلال إشاراتٍ إلى صورٍ من مأساويتها. واستوعبت أيّامٌ سبعةٌ منها سرديةَ هذا العمل. كما كانت أسماء هذه الأيامِ المؤرّخةِ عتباتِ عنونةٍ تَوَزَّعتْ على فصوله السبعة.
واستثمر التدوينُ السردي تقنيةَ الاسترجاعِ لكثيرٍ من التفاصيلِ في حياةِ الشخصية الرئيسة، تخللتْها استرجاعاتٌ لأحداثٍ مهمةٍ في الحياة السياسيةِ اليمنية، كأحداث الحادي عشر من فبراير2011م، والتي قام استدعاؤها على كلتا الرؤيتين المتناقضتين حولها: رؤية الثورة، ورؤية الأزمة، وما ترتب على ذلك من تداعياتٍ وأحداثٍ توالتْ حتى راهن اللحظة المشتعلة.
لم يظهر اسمُ شخصيةِ العمل الرئيسة، وحلَّت محلَّه كُنيتان: الأولى “ابنُ المتوفى”، والثانية “ذو المحبة”. وفي ذلك يمكن استكناه بُعْدٍ من أبعاد الشخصية، متعلقٍ بالتباسٍ في حقيقةِ النسبِ، الذي تلُوحُ إمكانيةٌ تأويليةٌ له بانتماءٍ إلى طبقة دنيا في هرمية الطبقات الاجتماعية. وهو ما ورد تلميحًا، في سياقاتٍ محيلةٍ على هذا البعد الاجتماعي. كما يلوحُ تأويلٌ موازٍ بمعطياته المحيلة ــ تلميحًا أيضًا ــ على إشكاليةٍ في الكيفية، التي انتظمت فيها حيثياتُ إنجابِ “ابن المتوفى”. تلك الإشكالية، التي تتجلّى أكثر انسيابًا نحو فاعلية الحب فيها بين الأبوين، لا سلطة السياقات الاجتماعية الأيديولوجية السائدة.
حبٌّ مغدور
يقدمُ هذا العمل حكاية “ابن المتوَفّى”. فيسردُ مساحةً من طفولته في القرية. لا سيما علاقته الوجدانية مع ابنة خاله “مي”. كما يسرد مساحةً تاليةً، من حياته مع أسرته في مدينة صنعاء. لا سيما المتضَمِّن منها تجربةَ الحب، التي عاشها مع أستاذته “غيماء”.
لقد تنامت موضوعةُ الحب ــ هذه ــ بقطبيها: “مي” و”غيماء”. حتى وصل بها هذا التنامي إلى أن تكون ذات محوريةٍ فاعلةٍ في السياقات السردية. فبعد سنواتٍ من انتقال أسرة “ابن المتوفى” إلى صنعاء، زارهم خاله. كانت غايته الحصول على تنازلٍ من أب الشاب عما وهبه له جده. ولتمويه غايته ــ هذه ــ اصطحب ابنته “مي”. وادّعى أنه ذاهبٌ لمداواتها في المدينة. تركها ــ فورَ وصوله ــ في منزل أحد أصدقائه. واتجه إلى منزل صهره. لم يفهم الشاب ما سمعه من مشادةٍ بين خاله وأبيه. تركهما. واتجه إلى المنزل، الذي تتواجد فيه “مي”. خرجت معه، وتجوّلا في المدينة. وعادا قبل أن يعود الأب إلى منزل صديقه.
في اليوم التالي، تأخرت عودتهما. فكان الأب في انتظارهما مستعر الغضب. استقبلهما بالضرب الوحشي. أفرط في عقاب الشاب. حاولت الدفاع عنه. فتحوّل العقاب المفرط إليها. وبدوره حاول الشاب الدفاع عنها، فطعن خاله طعنةً لم تكن خطرة. بينما كان العقاب قاضيًا على حبيبته، التي فارقت الحياة في المشفى.
وبذلك، كان الموقف ــ بتفاصيله ــ صدمةً نفسيةً عنيفةً عصفت بحياته. دخل بعدها في نوبةِ اضطرابٍ نفسيٍّ وعقلي. لم يبرأ منها. ولم تغب عنه حبيبته. التي عايش طيفها، غير واعٍ حقيقة مغادرتها الحياة. تُوفِّيَ أبوه، ونُفذِّت وصيتُه بدفنه في قريته. عاد الابنُ مع جنازة أبيه إلى القرية. وفيها استقرت إقامتهُ في منزلهم القديم.
شبابة السبع
عاش الشاب حياته الجديدة في القرية منبوذًا من أهلها. اكتفوا بالكناية عنه بـ “ابن المتوفى”. عاملوه كمجنونٍ؛ فتفاقمت حاله. دارت حوله كثيرٌ من الإشاعات والنميمة. لا سيما في مجالس النساء. من تلك الإشاعات القولُ بأنه يستقبل الباحثات عن المتعة. وإنّه بعد قضاءِ حاجتهنّ ينساهنّ، وينسى ما حدث.
شجّعتْ تلك الإشاعة “شبّابة” ــ ذات التاريخ العاطفي المغدور ــ على خوض المغامرة؛ انتقامًا من زوجها، الذي لا يعاملها إلا بقسوةٍ واحتقارٍ وخيانة. زارتْ “ابن المتوفّى”، فوجئت بحقيقته المغايرة لما يقال عنه. لم تنلْ منه ما جاءت لأجله. فنشأت بينهما صداقةٌ حميمةٌ، منذ تلك الليلة التي زارتْه فيها، ومنها بدأت سرديةُ الحكايةِ وتفاصيلها. بما في ذلك، مساحتها الاسترجاعية الشاسعة. إذ سُرِدت الأحداثُ تارةً على لسان “شبابة” مخاطِبَةً ابن المتوفى. وتارةً على لسانه هو مخاطبًا “شبابة”، أو مخاطبًا أمه، أو أباه اللذين سكنت روحاهما السماء منذ سنوات.
حدَّثَتْه “شبابة” ــ بين الحين والآخر ــ عن بعضٍ من مشاهد الصراع. فلم يتعاطَ مع حديثها إلا من زاويةٍ شخصيةٍ، متعلقةٍ بتجربةِ الحب، التي عاشها مع “غيماء” المقيمة في صنعاء. فكان يُهَمْهِمُ متسائلًا عن أحوالها، وعمّا صنعتْه بها مشاهد الصراع. حدثته “شبابة” ــ أيضًا ــ عن موت “مي”، لم يصدقْها. لكنه انصعق وهو يستوعب تلك الحقيقة من الكائن غير البشري، الذي اعتاد على الحديث معه.
الصراع ليس متنًا
بعدها قرر السفر إلى صنعاء للاطمئنان على “غيماء”. وفي طريق سفره، انتابه الخوف والفزع وهو يقترب من نقطةٍ كان ــ قبل أيامٍ قلائل ــ قد أُهين بقسوةٍ على يد المسؤول فيها. توقفت السيارة فيها للتفتيش، فانقضّ هو على واحدٍ من أفرادها، واعترك مع زملائه، الذين لم يتمكنوا من القضاء عليه. أفلت منهم، مواصلًا سفره على قدميه.
لقد فرضت الصراعات بعضَ طقوسها على العالقين في هامش الحياة، فأقحمت المجنونَ فيها مهاجِمًا أفراد النقطة؛ رهابًا منهم، لا اصطفافًا مع أحد. لكنها مع ذلك لم تَحُلْ دون غايته في مواصلة رحلته نحو حبيبته “غيماء”. رحلته تلك، التي لم تظهرْ لها نهايةٌ في العمل. إذ توقفتْ سرديةُ الحكايةِ عند محطةِ النجاةِ، التي وصلت إليها الشخصيةُ، ومنها استأنفت سفرها.
كما أن الصراعات ــ من جهةٍ أخرى ــ لم ترقَ من هامشيتها عند “المجنون” إلى متن حياته حتى وقد أقحمتْه فيها. والحال نفسها مع غيره من العالقين في هامش الحياة، بما تمَثِّله حيواتهم وتفاصيلها من خصوبةٍ للكتابة الأدبية، والسردية منها بوجه خاص. في سياقٍ متجدِّدٍ من سردية الحرب في اليمن.