سرديات المعرفة والثقافة الشعبية في رواية “طفل الثامنة والتسعين نصراني”
في سياق آليات “ما بعد الحداثة” السردية، وما يتعلق بها من نسق رواية السرديات المتعددة، يأتي انفتاح السياقات السردية على أجناس معرفيةٍ وفنية متنوعة؛ إذ تتلاشى فكرة النقاء، ويشترك في بناء النص عددٌ من الإحالات والاقتباسات من أدبيات معرفية وفنية مختلفة. وبذلك؛ فقد تداخلت في بُنية هذا العمل أشكالٌ من الأبعاد الأدبية والثقافية. لا سيما انفتاح سياقاته السردية، على الثقافة والمعرفة الأدبية والأسطورية، ومثلهما الثقافة الشعبية.
[1]: ثقافة ومعرفة أدبية
من تجليّات الثقافة المعرفية والأدبية، ما ظهر من معرفة بمضامين أدبية، عائدة إلى مصنفات وإصدارات أدبية: سردية وشعرية.
[1ــ1]: ثقافة ومعرفة سردية
من هذا النسق، ما تضمنه العمل من إحالاتٍ على مضامين وأفكار عددٍ من الروايات؛ إذ يقول “وليد حنبلة”، عن آلية تحقيقه للرواية: “أسعدتْني إذ نظرتُ في مهرج باسم لأكون صادقًا! رؤية زوربا بطل كازتنزاكي وعجوز أرنست همنغواي ــ العجوز والبحر يوبخان محجوب عبد الدائم بطل القاهرة30 ــ نجيب محفوظ على وصوليته وتسلقه وتجرده من القيم الإنسانية… شدني استمتاع شخصية من مخلوقات الماركيز دوساد بالهدوء والسلام النفسي بعدما قضتْ في العنف كل ماضيها وحاضرها! حصول بطلة “مازوخ” الغالبة على راحة البال بدل السياط والإكراه والظلم..!”(1).
ومثل ذلك، هو ما ورد في حديث “حنبلة”، عن “عمر عيسى طربوش”، لحظة اتصاله به: “لو أني أرى وجهه وأنا أحادثه! لو.. أتذكر “بيغي” ــ بيغي ثانية؟! في رواية السنوات رواية فرجينيا وولف The Years المنشورة 1937م، بيغي إذ تقول بعد استيقاظها من نومها في الصفحات المتبقية من الرواية: أتظنين أنه سيتسنى لكِ في يوم من الأيام أن تري أشياء على الطرف الآخر من الهاتف؟!”(2).
[1ــ2]: ثقافة ومعرفة شعرية
من السياقات السردية، التي تضمنت إحالاتٍ على ثقافة ومعرفة شعرية، تضمين قصيدة “باخوس”، التي منها قوله:
“كان الحزن إلهًا قديمًا ويُدْعَى الفَرح…
اعتاد أن يبعث بابنيه البهجة والضحك
في الليالي المدلهمة إلى البرية ليزرعا أشجار الظل
والزينة علها تؤنس المسافرين في وحشتهم
….”(3).
كذلك، هي الإشارات السردية، التي تضمنت معرفة بالشاعر “عبد الفتاح إسماعيل”، وديوانه “نجمة تقود الفجر”(4). ومثلها الإشارة إلى الشاعر الفرنسي (رامبو)، وإقامته في مدينة “عدن”(5).
وفي السياق نفسه، تأتي الاقتباسات الواردة من التجربة الشعرية للكاتب نفسه (هاني الصلوي). من ديوانيه “ما لا ينبغي أن يقال”، و”غريزة البيجامة”. فمن الديوان الأول اقتباسُ هذه السطور الشعرية، التي مثّلت تصديرًا للعمل، وذُيّلت بالإحالة على ذاك الديون:
“ذلك المخرج
العجوز
نسي أن يضمّن
الحلقة الأخيرة
وجهه”(6).
ومن ديوانه الثاني “غريزة البيجامة”، أورد عددًا من الاقتباسات، مع تذييلها بالإحالة على الديوان، من مثل:
“يا له من فتى يطعن الجمجمة في الخاصرة ولا يبالي…!”(7).
و”اجعل كل سرَّةٍ لا موطئ فيها للساني جمرةً”(8).
و” اجعل كل وطنٍ يسد الباب في وجهِ
أحصنتي بعكازتي فخذيه، غارًا
تعشعشُ فيه البوم وتعبث العناكب!”(9).
ولأن تجربة الكاتب يغلب عليها الإبداع الشعري، فقد انعكس ذلك على لغته السردية في هذا العمل؛ إذ اتسمت كثيرٌ من الجمل السردية بلغة شعرية. من مثل:
“يمتشق الفرح قامات المحتفلين”(10).
وكذلك، هي هذه السطور السرد شعرية:
“رفعنا غرقى من القعر!… منحنا الصاعدين أكفّنا!
لم نلتفتْ إلى تَسَارعِ الوَطَرِ…
تَفسُّخِ عقارب السَّحرِ..!
تسرُّبِ الأمس من حرْصنا”(11).
[2]: ثقافة ومعرفة أسطورية
تضمّنت السياقات السردية ــ في رواية “طفل الثامنة والتسعين نصراني” ــ عددًا كبيرًا من الإشارات السردية ذات الطبيعة والثقافة الأسطورية. منها ما ينتمي إلى الأساطير اليمنية. ومنها ما ينتمي إلى الفكر الإغريقي أو الفينيقي. ومنها ما ينتمي إلى أبعاد متعددة، من الفكر الأسطوري العالمي.
لقد حضر إله الخمر الإغريقي(12). ومثله حضرت شخصية الأسطورة الإسكندنافية “لوكي”(13). وحضرت أساطير: “فابيتوس”(14). و”مورفيوس”(15). و”عولييس”(16). و”برمثيوس“(17).
كما اجتمع عددٌ من الآلهة والأساطير في فقرة سردية واحدة، يقول السياق السردي فيها ــ عن لحظة فارقة في الوقوف على آثار حضارات بائدة ــ إنها “قلعٌ وهضابٌ ودمنٌ وأطلالٌ وخرائب طاعنة في التاريخ والجغرافيا والشعر… تلبسها زيوس وأوزيريوس وإيزيس وحورس وجوبيتر وديونيسوس وأثينا وهيرا… سكن جسدها أخيل وأجاممنون وهيلين ومردوخ.. مجلس الأوناكي كله وكائنات الأولمب وحورس”(18).
[3]: تسريد الثقافة الشعبية
من مسارات “ما بعد الحداثة” في السرد الروائي ــ والأدب بوجه عام ــ إثراؤه وتخصيبه بالثقافة الشعبية والجماهرية السائدة. وقد وردت في رواية “طفل الثامنة والتسعين نصراني” تجليات كثيرةٌ من الثقافة الشعبية اليمنية. منها: الأمثال الشعبية، والحكايات الشعبية، والأغاني، والمقولات والألفاظ والتعبيرات الشعبية المتداولة.
ومن الأمثال الشعبية ــ التي تضمّنها العمل ــ هذان المثلان، اللذان أُشير في الهامش إلى الدلالة فيهما(19):
“خَلُوْفة السَّوْدْ رماد”: “مثل يضرب للفاسد يأتي بعد الصالح أو الجميل أو الناشط. وكلمة خلوفة تعني الخلفة أو الذرية والسَّوْد أي الجمر”.
و”دولة العقبة ثمان”: “مثل شعبي يقال للتعبير عن سرعة زوال الشيء. والعقبة هي أنثى العقاب”.
كذلك، هي الأمثال التي وردت في كثير من السياقات السردية، منها:
“من أوقع الحصيفَ في المقلاة يا غراب؟!! قال: رائحة الشواء…”(20).
و”يا ويلي من البدوي لو تمدن”(21).
و”اطرق الحديد وهو ساخن”(22).
و”لو همينا العصافير ما زرعنا الدخن”(23).
كذلك، هي الحكايات، التي جسدت نسقًا من أنساق الثقافة الشعبية اليمنية. من ذلك حكايات الجن. كحكاية “الجرجوف”، ذاك “الوحش القاتل في الحكاية اليمنية الشعبية، [الذي] عادة ما يأكل الصبايا الجميلات، إن لم يتزوجهن، وهو بشع المنظر. كريه الرائحة، غليظ الصوت، متحجر القلب”(24).
ومثل ذلك حكايات الجن، المتمثلة في حكايات: “صياد”(25). و”أم الصّعاصِع… “أم الجن”…”شَلَحْ”(26). وشيخ الجن “عجنون”(27). و”لعينة الجن”(28).
ومن ثقافة الأغاني الشعبية، ما ورد من مقاطع بعض الأغاني اليمنية. من مثل هذا المقطع، من أغنية “محلى السمر والدان”، للفنان “محمد سعد عبد الله”:
“محلى السمر جنْبك
بين الوتر والدان
ألا محلى السمر”(29).
ومثله هذا المقطع من أغنية “يا ذي تبون الحسيني”:
“يا ذي تبون الحسيني
عزمت بااسري معاكم
بالي قدا قرة العين
ياسين. يا زين. ياسين”(30).
ومن هذا النسق ــ أيضًا ــ ما ورد من إشاراتٍ سردية، تتضمن جملةً من أغنية ما، أو إحالة عليها. من ذلك هذه الإشارة السردية، التي تضمنت إحالة على أغنيةٍ للفنان “أبو بكر سالم بلفقيه”: “الأصل والفصل والروح والفن ــ رعاك الله يا بلفقيه!…”(31). ومثلها هذه الجملة، المقتبسة من إحدى الأغاني اليمنية الشعبية: “لَمُوْ لَمُوْ وامُنَعْنَعْ واطووويل.!”(32).
كما مثّلت اللغة اليمنية المحكية، نسقًا مهمًّا من أنساق “ما بعد الحداثة” في هذا العمل، إذ ورد عدد كبير جدًّا من الألفاظ والتعابير والمقولات الشعبية المتداولة، معززًا بهامش توضيحي لمعانيه.
من ذلك، ورود لفظ “المقرمة”، و”الزنة”، في هذه الفقرة السردية: “سيرى الفتاة بالداخل تتغنجُ بمقرمتها الحمراء، والزنة الجبلي وسروال السهرة”(33). و”المقرمة”: قطعة من القماش توضع على الرأس كالإيشارب. أمّا “الزنة”: “بتشديد النون والزاي هي الفستان الجبلي”(34).
ومثل ذلك، هو هذا التركيب المحكي: “موتخشفطوا”، وما يعنيه الفعل “يخشفط” من الدلالة على: خلط العبارات والمعاني.. بمعنى أنه يقول كلامًا مشوشًا، يشبه الهذيان”(35).
كذلك، هو الأمر، في استحضار إحالة المحكية على الرغبة في التركيز. من خلال التركيب: “أُجَمِّع دومان”، الذي ورد على لسان “علوم”، متحدثة مع “أحمد النصراني”، حينما طلب منها أن تختصر قصتها التي كانت ترويها له. إذ ردت عليه: “ذاني أختصر! شتخليني أجمِّع دومان”؟!، ومعنى ذلك: “ها أنا أختصر.. دعني أجمع تركيزي!”(36).
ومثل ذلك، هو استلهام طريقة المحكية اليمنية ــ العدنية خاصة ــ في التأكيد بصيغة “ياته” أي “عينه”. ورد ذلك، في هذه الجملة السردية: “دائمًا ما يعيد علينا قصة الثلاثة ياتهم”. بمعنى “الثلاثة عينهم، ويات ضمير من ضمائر لهجة عدن فيقال قلم ياتي أي قلمي… ولا نعرف من أين دخل هذا الضمير المميز موسيقيًّا إلى هذه اللهجة”(37).
وإلى ذلك، عدد كبير جدًا من صيغ التعبير المحكي في اللهجة اليمنية، من مثل: “عيني عينك”(38). و”هاتْ يا با هاتْ”(39). و”حسك عينك”(40).
ختامًا
لقد تجلّت ــ في رواية “طفل الثامنة والتسعين نصراني” ــ صورٌ متعددة، من الاستئناس بآليات الكتابة السردية، المنتمية إلى فضاءات التجريب والحداثة، و”ما بعد الحداثة”.
وبذلك؛ اتسم تسريد الحكاية، بعدد من خصائص “ما بعد الحداثة”، التي تشكلت بها عددٌ من بُناه السردية: شخصيات الرواية، وحيزها الزماني والمكاني. واستلهام الثقافة الشعبية اليمنية بتفاصيل متعددة: أمثالًا، وأغانيَ وحكاياتٍ شعبية، وصياغات تعبيرية محكية.
كما تجلّت هذه الخصائص، في سرديات الروايات المتعددة، التي تشكلت بها بنية العمل الكلية. بما في ذلك نسق التعدد في شخصيات الرواية، وشخصيات الرواة والساردين. واضطلاع شخصية (الناقد/ السارد) بإضفاء هذه الخصائص الفنية، على هذا العمل، حد الاستشراف فيه الفضاء التحديثي الـ وبذلك، يمكن القول إن هذا العمل السردي، قد تميّز باشتغاله المكثف، على أقصى المستطاع من إمكانيات التجريب السردي. كما تجسّدت فيه حيويةُ الرغبة في المغايرة، وتداعيات هاجس الحداثة المطرد في تجربة الكاتب، على اختلاف مساراتها الأدبية والمعرفية والفكرية.
- هاني الصلوي، “طفل الثامنة والتسعين نصراني”. ط1، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2023م، جـ1/ ص22،21. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص71. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص246. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص286. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص72. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص12. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص29. وجـ2/ ص80. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص77. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص80. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص100. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص203. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص213. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص240. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص217. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص19. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص21. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص29. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص66. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص181. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص33. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص9. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص39. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص105. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص228. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص217،85. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص85. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص139. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص235. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص302. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص254. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص18. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص130. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص92. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص132. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص220. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص83. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص104. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص113. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص106. ↩︎