سعاد وما حملت يداه

سعاد وما حملت يداه

سعاد وما حملت يداه

د. عبده منصور المحمودي

    هطل الليلُ، فغرق الكونُ في ظلامهِ الدامس. تناسلت لحظات المساء الأولى، اتّحادًا روحيًّا، ولذةً بنسائم المودةِ وألحانِ السكون. لذّة تنأى عن حليلة محمود، عن فضاء سعاد وما حملت يداه، الفارغتان من أغاريد المساء الحانية.

صقيع المساء والشرود

   تناسلت ــ تلك اللحظات المسائية الأولى ــ تدفُّقًا لسعادةٍ معزوفةٍ بين قلْبِيْ حبيبين. انتهت بهما تجربةُ التماهي والوله، إلى أحضان المودة الزوجية المتجددة.

  تناسلت ــ تلك اللحظات المسائية الأولى ــ معانيَ حالمةً. نسجتْها تأملاتُ سعاد، بخيوطٍ من حاجتها إلى الارتواء بها. بعد أن احتسى الظمأُ ــ في وجدانها ــ مرارةَ النقيض من معانيها النائية.

   سعاد ــ في مرارة النأي وارتجاج رغبتها في طقوس النجوى الشاعرية ــ تعصرها اللحظاتُ عزلةً شاحبة، بين أربعةِ جدرانٍ، سيّجت غرفتها، المفعمةَ بالضوءِ، الباذخةَ بالرتابة والمشاعر الخافتة.

    إحساس سعاد، يوحي إليها بشماتةِ باب غرفتها الموصد. بل قُلْ بشماتة أبواب منزلها. ذاك المنزل، الذي تراءى تاجَ تَلّةٍ، فأضفى عليه تموضعه الفريد تعاليًا وزهوًا. إذ ابتعد مسافةً محسوبةً عن قريته. تلك القرية، التي تتناثر منازلُها، في سفوحٍ غير منتظمة.

    صَمْتُ سعاد، يُلَقِّنُها معنى سخريةِ الستائر، التي تلتحف بها نوافذ غرفتها، ويتشح بها سريرها المحظوظُ باستلقائها عليه، وهو سادرٌ في تهكُّمه، المُتكَلِّس في جمود فُرُشِه الوثيرة الخرساء.

   الصقيع يرشح ــ في قضبان نوافذ غرفة سعاد، ومن ألواحها الزجاجية ــ ندىً وأسىً جامدًا أخرس. كل شيء في غرفتها يلجمه الخرس. حتى تلفازها المكتظ بكلِّ فضائياتِ العالم، ملّتْه منذ أيّامٍ، حدّ انطفاء حماسها، للسمر مع شخصيات المسلسلات والأفلام المتشابهة. فلم يعد يغريها شيءٌ بلمس زر تشغيله ــ عن بعد ــ بجهاز كنترول التحكم (الرِّيموت)، وهي مستقرة في حضن سريرها.

   لم يمضِ سوى شهرينِ، على زواجها من صاحب الوجاهة والمال والثروة محمود. قبلتْ به على فارقِ السِّن بينهما. وعلى علمها أنّ لديه زوجة. وأنّ له منها أولادًا يقتربون من سنها.

   زُفّتْ سعاد إلى محمود. قضى معها أسبوعًا. ثم عاد إلى أعمالِهِ التي لا تنتهي. يخرجُ في الصباحِ الباكرِ، ولا يعودُ إلَّا في الساعاتِ المتأخرةِ منَ الليل. يشرف بنفسه على تفاصيل العمل والري في مزارعه، التي تتقاسَمُها عددٌ من الأودية المحيطة بقريته وقُرَىً مجاورة.

ذاكرة الزهو

   تحت رُكامِ الضوءِ في أعماقِ ذاك الليل ــ الذي كان يلفُّ غرفة سعاد ــ أخذتْها الذاكرةُ، على حينِ شرودٍ منها، إلى تلك الأيامِ، التي تنزوي على مقربةٍ من تداعي سعاد إليها. تلك الأيام، التي تقدَّمَ فيها ابنُ عمها كمال لخطبتها. قَبِلَتْ به أسرتُها قبولًا مبدئيًّا. بينما كان الرفض يتدفق من لسانها، بأفصح ما تجيده من تعبيرٍ وتجَهُّم. وعلى ذلك، فلم يأخذ أهلها موقفها بعين الاعتبار. فالعادة الاجتماعية القائمة، أن الفتاة ليس لديها إلّا اتّباع أسرتها، وأن مثل هذا الموقف الرافض، ليس سوى صورةٍ من صور التعاطي الآني، المفرغ من غايته ومعانيه، لا سيما وأن الشاب ابن عمها.

     بعد أيّامٍ قلائل، استشعر أهل سعاد تلكؤ عمها، في تقديم مبلغٍ من المال، الذي يَبُتُّ في ربط سعاد بابنه كمال. ومن ثم انتظار لحظة زفافهما، التي لا ضير في أن تقترب أو تبتعد. ما دام ونقود الربط قد عقدت صلة الحياة المستقبلية بينهما.

    وجدوا في التلكُّؤ حجّةً، ليتجاوزوا استحقاق كمال لابنتهم. ذاك الاستحقاق، الكامن في صلة القرابة بينهما ــ أبناء عمومة ــ تعاطى أب الشاب بلامبالاةٍ وبرود مع استبطائهم، وتلميحهم إلى إمكانية إلغاء ما تم الاتفاق عليه مبدئيًّا. لم يكترث بما يترتب على ذلك، من قطْعِ لطريق كمال إلى سعاد، وإتاحة الفرصة لغيره. تسارعت تداعياتُ المواقف الصاخبة، فخسفت بمبدئية الاتفاق خسفًا فاتكًا به.

   انفرجت أسارير سعاد. إذ انتصرت، وانتصر رفضها السابق. استمتعت بتفاصيل الرفض التي تناقلَتْها الألسُنُ وزادتْ عليها. استمتعت بالشماتة الاجتماعية التي قَدَحَتْها فيه. وتداعت الصبايا إلى المشاركة في الاستمتاع بما التذت به سعاد. فصار كمال فاكهة ألسنتهنّ، وضحكاتهنّ الساخرة.

لا يليق بك يا سعاد

    كمالٌ شابٌ مراهقٌ فقيرٌ. لا يملك مالًا، حتى تطمع سعاد فيه، وترضى به فارس حياتها. لا سيما وأن سماتٍ أخرى، لا تمنحه أسبقية استحقاق سعاد؛ فهو هزيلٌ، ضعيف الشخصية، متذبذب القرار. وعلى ذلك كله، ففي قلبه عالمٌ من الحب الصادق لهذه المتعالية عليه. عالمٌ من الإجلال، الذي يُنصِّبُها أميرةً عليه، ويجعل منه عبدًا طيعًا، أطوع لها من بنانها.

   سعاد لا ترى في كمال ما يستحقُّ حبها. ولا ما يستحق أن تكون له. ولا ما يمكن أن يستدرج نظرة إعجابٍ فيهِ. لذلك؛ لم تأبْه بما يُكِّنّهُ لها مِنْ محبةٍ وعاطفة مؤثثةٍ بعشقه. سحقتْ مشاعره. داستْ على قلبهِ الشغوف بها. فَضَّلَتْ عليهِ صاحبَ المالِ والجاه والثراء محمود. أبدت موافقتها عليه فور قبول والديها به. لم تَظْهَرْ عليها أيّةُ ردّةِ فعلٍ رافضٍ، لا في سياقه الشكلي، ولا في سياقِ قصديةٍ جادّةٍ، مثلما كانت عليه الحال، في موقفها من كمال، تلك الليلة المشؤومة التي تقدم فيها لخطبتها.

   قَبِلَتْ بالثريّ محمود، حالمةً بالسعادةِ، التي لم يخالجها شكٌّ في أنًّها كامنةٌ في المالِ. لا في الحبِّ الذي يتعَذَّبُ بهِ ابن عمها “كمال”، عاشقها المغدور الذي لا تبالي بمعاناته، ولا بصيرورة رفضها منبتًا لمآسيه وانكساراته المعشوشبة في شخصيته. سعاد، لا يعنيها سوى أن تكون مخلصة، لما سيمنحها السعادة، التي تاقت إليها في الزواج من محمود.

   لم يمر سوى شهرين، على زفافها إلى محمود، حتى بدأت في استشعار أن تلك السعادة سعادة منقوصة، إن لم تكن ــ في بعض لحظات النزق ــ قد استحالت تعاسةً، تُحاصرها كلما سكنَ الليل، واحتفت بها غرفتها الخرساء.  

الحيرة الناعسة

  مثل كل ليلة، في تلك الساعات المسائية الأولى، احتفت بها غرفتها. تقدمت بشرود الغواني وتكاسلِ الأميرات، إلى مرآة “التسريحة” على غيرِ قصدٍ منها. فلمحتْ كبرياء الحسنِ مُتأَلقًا في عينيها الناعستين، وفي طراوةِ وجنتيها. خالتْه يهمس فيها: كمال ــ يا سعاد ــ غيرُ لائقٍ بي، غير جدير بما ترينْه فيك. كمال ليس في مقدورهِ أن يُغدقَ عليَّ مُستلزماتِي، حاجاتي. غير قادر على توفير البيئة، التي تتناسب مع ماهيتي. أنسيتِ أنه على مقربة من تجاوزه لأولى عتبات التعليم المدرسي، والدخول في فصول العتبة الأخيرة. وأنه لا يزال عالةً على أسرته الفقيرة، المسحوقة بالبؤس والشقاء؟!

استدارتْ سعاد نصفَ استدارة. حدّقتْ فيما تزهو بهِ غرفتُها، من مقتنياتٍ صمَّاء وأثاثٍ أبله. احتارت في أن تكون السعادةُ فيما تزهو بهِ غرفتها تلك؟! أو في وداعةِ كمال وفقره، على جنةِ حُبّهِ الثاوي بينَ ضُلوعه؟!  

    كانت الأفكارُ مضطربةً في ذهنها. بينما كان صَمتُها يَسْتلذُّ محطاتِ الذِّكرى وتناهيدَ الشَّجن. وفي اللحظة نفسها، كان فؤادُها ينصهرُ عاطفةً متقدةً، شاءتْ تجميدها إلى أجلٍ غيرِ مسمىً.

لا تدري. . أكانَ الصَّوابُ فيما آلتْ إليه ؟! أمْ فيما حادتْ عنه؟!   

    تمادت حيرتها في استعارها. لفحت قلبها. وتناوبتْها التساؤلات المفتوحة. أدمتْها الإجاباتُ المتناقضة، المحتدمة في قلبها، المُحَصَّن بالأُمنيات العصرية. كانت تتأرجحُ ــ بجنونٍ ــ بين العقلِ والقلبِ. بين الماضي والحاضر. كريشةٍ معلقةٍ، في مهبِّ رياحٍ انعكاسيةٍ متناقضةِ المسار.  

سعاد وما حملت يداه

   رنَّ جرس الباب، معلنًا عن وصول محمود في موعده المعتاد عليه، وتهادى صوته الأجش في رنين الوصول؛ انغلقتْ الأبوابُ كلها، بعد أن كانت قد بدأت في الانفتاح الموارب لسعاد. خطفها الجرسُ من إنسانيتها السِّريَّة، التي كانت تتحوصلُ في أعماقها؛ فأحستْ بتفاصيلِ غرفتها ثانيةً، وتقَّمَّصَها الجمودُ الذي ارتضتْهُ لنفسها منذُ البداية. اتجهتْ نحو البابِ بأنوثةٍ آلية. فتحتْه. دخلَ محمود ــ بقامته القصيرة، وجسمه الممتلئ ــ متكلِّفًا تقطيبَ جبينه، ويداهُ مُستثقلتانِ عددًا من الأكياس، التي حبلت بالنقودِ، مُحصِّلة استثماراته الفصلية.  

   أغلقتْ سعاد الباب. وقبل أن يتجه محمود إلى غرفتها، اتّجه إلى غرفته الخاصة. سارت سعاد خلفه، وعيناها متزوجةٌ بأكياسِ حبالى، وفؤادُها مُصَفَّدٌ، تُعيدُ صياغته بثراء محمود، تبارك اعتناقه ما حَمَلتْ يداه.

***

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *