شعرية القيم الجمالية في ديوان "كتاب تعز"

شعرية القيم الجمالية في ديوان “كتاب تعز”

شعرية القيم الجمالية في ديوان “كتاب تعز”

د. عبده منصور المحمودي

بروح المدينة ومحيطها وتفاصيل الحياة فيها، تشكّلت شعريةُ القيم الجمالية في ديوان “كتاب تعز”(1)، للشاعر فخر العزب(2). وفي هذه المقاربة النقدية استكناهٌ لشعرية هذه القيم، في العتبات النصية، والقيم الفنية والإنسانية، وإحالات الأمكنة.

[1]: شعرية العتبات النصية
[1ــ1]: عتبة العنوان

تعدّ العتبات النصية أولى المداخل الاستيعابية للنصوص الإبداعية. وقد كانت العتبة الأولى، في هذا العمل عنوانه الرئيس “كتاب تعز”. الذي يظهر فيه نوعٌ من المواربة في قصدية الصياغة المخاتلة؛ ذلك في احتفاظه بعمومية الدلالة على فضاء الكتابة، واتّكائه على عتبة العنوان الثانوي “شعر”، في توصيف الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه.

وقد حذا الشاعر ـــ في هذه الصياغة ـــ حذو الشاعر عبد العزيز المقالح، الذي اتّخذ منها سبيلًا لنمطٍ جديدٍ في بنائه لعناوين عددٍ من دواوينه الشعرية: “كتاب صنعاء”، “كتاب القرية”، “كتاب الأصدقاء”، “كتاب الأم”، “كتاب المدن”. معلّلًا ذلك ــ المقالح ــ بأن تعبير الكتاب خصب في تحديد محتواه, وأن هذه التسمية منسجمة ومتفاعلة مع المحتوى ومعبرة عنه(3). ومثل ذلك كان لهذه الصياغة حضورها في رؤى أدونيس، الذي اعتمدها في عنونة كتابه الشعري “الكتاب”. كما استعملها (رولان بارت)، في كتابه الأول “درجة الصفر في الكتابة”(4). ومحمد بنيس، في “بيان الكتابة”(5).

[1ــ2]: عتبة الغلاف

تضمّنت ثاني عتبات العمل (الغلاف)، لوحةً تشكيلية، للفنان وليد دلّه. فاتّسقت هذه العتبة ـــ بماهيتها الفنية المنتمية إلى الفن التشكيلي ـــ مع فاعلية هذا الفن في جمالية المدينة؛ بوصفه مكوّنًا محوريًّا في تشكيلها. وقد جسّد العمل هذا الاتّساق، من خلال تعاطيه الشعري مع جمالية الفن التشكيلي في بعضٍ من نصوصه. كذلك من خلال هذه العتبة ـــ الغلاف ـــ التي اصطفّت فيها منازل المدينة، على هيئةٍ، ظهرت فيها ـــ بوضوحٍ ـــ مآذن مدرسة وجامع “الأشرفية” ـــ أبرز معالم المدينة ـــ مع امتداد هذا الاتِّساق إلى متن العمل. في نصٍّ اتّخذ له من هذا المَعْلَم عتبةً نصيَّةً أولى “الأشرفية”(6). كما ورد المَعْلَمُ نفسه، ضمن نصٍّ آخر، عتبته النصية الأولى “بحثٌ عن تعز البهية”، في سياق الاحتفاء بمآثر المدينة. وبوجهٍ خاص ما يتعلق منها بفترة الدولة الرسولية:

“أعبرُ بين عظيم الحضاراتِ

ألقي السلامَ على ملكٍ قيل عنه “المظفر”

في “الأشرفية”

أقرأ عن دولة “ابن رسول””(7).

وكانت العتبة الثالثة “الإهداء”، خاصةً بإهداء العمل إلى: “الدكتور أمين أحمد محمود، الذي نصف دمه بلازما، ونصفه “تعز””(8). بوصفه واحدًا من شخصيات المدينة، وبها استهلّ العمل نسقه الاستدعائي، لعددٍ من شخصيات المدينة، الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة.

[1ــ3]: عتبة الإضاءة

اضطلعت عتبة “الإضاءة”، بتكثيفِ الإحالة على “تعز”، مدينةً استثنائية، وجنةَ الأرض في تقدير الذات الجمعية:

“لأنها في بلاد اللهِ جنّتنا

وفيها للحياة كفاح

أطيرُ لها بدون جناح”(9).

[1ــ4]: عتبات المتن الشعري

بعد هذه الرباعية من العتبات النصية، دلف العمل إلى انقسام محتواه على ثلاث عتباتٍ رئيسة. الأولى: “عُدينة”، اسم المدينة القديم في أدبيات التاريخ، بإحالاته على اتخاذ التجار العدنيين منه منتجعًا سياحيًّا لهم. والثانية: “معالم”، والثالثة “بورتريهات”. وعلى العتبات الثلاث ـــ هذه ـــ توزّعت نصوص الديوان. بما في نسيجها من تشابكٍ لقيم المدينة: الفنية، والإنسانية، والمكانية.

[2]: شعرية القيم الفنية

ظهرت شعرية القيم الفنية، في استلهام أنواعٍ من الفنون الجميلة. يأتي في صدارتها فن “الشعر”. كما في قول الشاعر:

“في الأصابع يشتعلُ الشعرُ

يحمرُّ لونه

يتوهجُ حتى يضيءَ البلادَ وأفياءها

ويصيرُ الضوء نافورة

تسحر الهائمين

بعذب الكلام”(10).

في سياق التغَنِّي بفرادة المكان، أحال فن الشعر ـــ في هذا المقطع ـــ على نوعٍ من التجانس غير المباشر، بين ماهية العمل الجمالية وماهية المدينة المُتَشَكِّلة ــ في بعض تجلياتها ــ من جمالية الفن الشعري. إذ تشتعل به الأصابع، فتشعله حدّ احمرار لونه، الذي يتوَهّجُ ضوءًا، يغمر البلاد كلها. بما في ذلك من إيحاءٍ بدوره التنويري الفاعل. كما يتجلّى هذا الضوء سحرًا عذبًا، دلالةً على ما في هذا الفن من لذةٍ جمالية.

ومثل ذلك، هي شعرية القيم الجمالية في فن “الغناء”، بوصفه مكوّنًا من مكونات القيم الجمالية للمدينة. وقد ظهرت ــ من تجليات هذا الفن فيها ــ الأيقونتان المتلازمتان: (الفضول/ أيوب). وبهما أُثرِيتْ السياقات الشعرية، بإحالاتها على الشاعر “عبد الله عبد الوهاب نعمان” (الفضول) شاعرًا ساحرًا، فيما تدفّقت به عاطفته من قصائد، وإحالاتها ـــ في الآن نفسه ـــ على اشتغال الفنان “أيوب طارش العبسي” على هذه القصائد، مبدعًا ألحانها، التي ثمل بها كلُّ أُفقٍ لامس ترانيمها الغنائية(11).

والأمر نفسه، في استلهام أبرز رموز الفن التشكيلي، الفنان “هاشم علي”؛ إحالةً بذلك على هذا النسق من التكوين الجمالي في المدينة، التي قرأت تفاصيلها في لوحاته المترعة بالحياة:

“بعيونه كنا ننظرُ كلَّ الأشياءِ

نساءَ مدينتنا

ومشاقرهن

الفلاحَ

الراعي

الصيّاد

الدرويشَ

وبائعة الخوخ”(12).

[3]: شعرية القيم الإنسانية

احتفت نصوص العمل، بعددٍ من القيم الفاعلة في تشكيل بُنية القيم الإنسانية في مجتمع المدينة. من مثل الإحالة بـ “المكتبات العتيقة”(13)، على قيمة العلم والثقافة؛ كونها أبرز قيمةٍ إنسانية وُصِفتْ بها “تعز” مُعزَّزةً بصدور القرار الجمهوي رقم (2) لسنة 2013م، الذي قضى باعتماد محافظة تعز عاصمة ثقافية للجمهورية اليمنية.

وأضاء العمل ــ في مساحاتٍ منه ــ جماليةَ قيمِ “الثورة والحرية”(14). وفي السياق نفسه، تجلّت إضاءته لقيمة “السلام”، التي تعد واحدة من أهم خصائص المدينة؛ فهي عادةً ما:

“تفتح بابَها للضوءِ

تلعنُ الظلام

وتدفن الحروب والندوب خلف ظهرها

وتغرس السلام”(15).

كما لامس التدفق الشعري قيمةَ “العمل” الدؤوب والتفاني فيه، فتضمّنَتْهُ سطورٌ وجملٌ شعرية. من مثل: “العمل الشريف”(16). و”طعم السعادة رغم التعب”(17). ومثل ذلك، كانت الإحالة على قيم “التسامح والتعايش” الإنساني في حنايا المدينة، من خلال استلهام الرمزية الدينية في الشخصيتين: الشبزي(18)، وأحمد بن علوان(19).

[4]: شعرية الأمكنة

تجلّت شعرية الأمكنة، فيما تضمّنته نصوصُ العمل، من مساحةٍ أثَّثَتْها بعددٍ من الرموز المكانية، ذات الدلالة التاريخية والحضارية. إذ اجتمعت أبواب المدينة، في دفقة شعرية واحدة:

“كل الممرات العتيقةِ

بالحنين تقودُ قلبك

نحو أبوابِ الجنائنِ

“باب موسى، الكبير، المخلولة، القلعة، الوحدة، المداجر، الشهابية، سائلة عبد الكريم، باب النصر”(20).

مع حظوة ملحوظة لـ “باب موسى”، في أكثر من موضعٍ شعري(21). وفي سياق ذلك، يندرج التعاطي الشعري، مع تفاصيل المدينة وتَنَوُّعِ مظاهر الحياة في أحيائها وأسواقها. من مثل حال “سوق السمك”، في قول الشاعر:

“أرى البحر

لكنه ميتٌ دون ماء،

بأسماكه المتراصة صامتة كالجدار”(22).

لقد قدحت حيوية “سوق السمك”، في الذات الشاعرة المعنى الشعري، القائم على فاعلية بضاعة السوق (الأسماك)، في استحضار بيئتها الأولى (البحر)، ضمن نسيجٍ شعريٍّ، تأرجحَ فيه المكانان (البحر/ السوق) بين التماهي الشعري، والتمايز المُتَجَسِّد في صفة (الموت)، التي وُصِف بها بحر (السوق). إذ أخذت هذه الصفة الانسيابَ الشعري، إلى استئناسه باستدعاء “البحر الميت”. لكنه استدعاء تلاشت خيوطه، بِدِقّةِ التعاطي مع معطيات التجربة الشعرية، وهي تُرَسِّخُ التمايزَ من خلال حال الغياب، التي وُصِفَ بها ماءُ بحر المدينة (سوق السمك).

ومثل ذلك، كان ثراء الإحالات الشعرية، على القيم الجمالية لعددٍ من أمكنة المدينة، من مثل: “قلعة القاهرة”(23). و”جبل صبر(24). و”شجرة الغريب”(25). و”جامع الجند”(26). و”وادي الضباب”(27).

[5]: استلهام جماليات المدينة

لقد قام الاشتغال الشعري ــ في هذا العمل ــ على استلهام القيم الجمالية الكامنة في المدينة: فنًّا، وقيمًا إنسانيةً، وجمالياتٍ مكانية. في محاولةٍ من الذات الشاعرة استنهاض المدينة، من واقعها المُثْقل، بما لا يتَّسِقُ مع سيرتها الجمالية، ولا مع تفاصيلها المكانية ذات الاكتناز التاريخي للمعاني الزاهية. ولم تقتصر هذه المحاولة على الحيّز المكاني وحده، وإنما كان لها امتدادُها في نسيجِ غايةٍ وطنيةٍ شاملة. وبذلك، كان لهذا الامتداد أثره الفني، في إثرائه مساحات العمل، بما يحيل به على هذا الشمول، في خضم الاعتراك مع معطياتٍ واقعيةٍ، شرسةٍ في وجه الإيقاع الجمالي والإنساني، الشعري منه وغير الشعري. لكنها ــ على ذلك ــ معطياتٌ غير مأهولةٍ بإمكانية القضاء على هذا الإيقاع، بقدر ما هي باعثةٌ فيه حيويةً تَتَخَلّقُ جماليًّا، في مثل هذا الإصدار الشعري.

  1. فخر العزب، “كتاب تعز”. ط1، دار عناوين، القاهرة، 2023م. ↩︎
  2. سبق وأن صدر للشاعر ديوانه “فراغات الوحشة”. عن أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2022م. ↩︎
  3. .وجدان الصائغ، “وجهًا لوجه”، (حوار مع الشاعر عبد العزيز المقالح)، مجلة “العربي”، العدد: (57)، الكويت، 2006م. ↩︎
  4. محمد بنيس، “الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها”. ط1، دار توبقال، الدار البيضاء، 1991م، جـ3/ ص: (50). ↩︎
  5. محمد بنيس، “حداثة السؤال”. ط1، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1985م، ص: (9). ↩︎
  6. فخر العزب، “كتاب تعز”. مرجع سابق، ص48. ↩︎
  7. نفسه، ص42. ↩︎
  8. نفسه، ص5. ↩︎
  9. نفسه، ص7. ↩︎
  10. نفسه، ص33. ↩︎
  11. نفسه، ص: (40، 96ــ98، 103ــ 105). ↩︎
  12. نفسه، ص92. ↩︎
  13. نفسه، ص40. ↩︎
  14. نفسه، ص83،23. ↩︎
  15. نفسه، ص19. ↩︎
  16. نفسه، ص23. ↩︎
  17. نفسه، ص67. ↩︎
  18. “أحمد بن علوان”: عالم صوفي، نال شهرة واسعة، امتدت إلى اللحظة الراهنة؛ ولا يزال مقامه في قرية “يفرس”، بالقرب من مدينة “تعز”، عامرًا بالمريدين. و”الشبزي” (سالم بن يوسف الشبزي): حاخام حبر، وشاعر، ومؤرخ وخياط، ولد في قرية “نجد الوليد” في مديرية “شرعب السلام”، بالقرب من مدينة “تعز”. وقضى معظم حياته في تعز ومات فيها. يُعد من أشهر حاخامات يهود اليمن، وقصائده لا تزال تغنى في اليمن وإسرائيل. وغناها مطربون مثل عفراء هزاع وشوشانة ذماري وصهيون جولان، وغيرهم. ↩︎
  19. فخر العزب، “كتاب تعز”. مرجع سابق، ص: (59، 111ـــ113، 119ــ121). ↩︎
  20. نفسه، ص31. ↩︎
  21. نفسه، ص: (41،21)، (67ـــ69). ↩︎
  22. نفسه، ص74. ↩︎
  23. نفسه، ص60،17. ↩︎
  24. نفسه، ص: 62،43،19،17. ↩︎
  25. نفسه، ص71،70،21. ↩︎
  26. نفسه، ص66،65،64. ↩︎
  27. نفسه، ص80،79،70. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *