عائلة العيد الفقير

عائلة العيد الفقير

عائلة العيد الفقير

د. عبده منصور المحمودي

عائلة العيد الفقير هي كل عائلة في الوطن المكلوم، عائلة أعياد الفقر القادمة من خاصرة الزمن كل عام. تلك الأعياد التي تفقد معاني السعادة في حياة الأُسر اليمنية المسحوقة بالفقر والمرض(1). في واقع الحياة المرّ الذي أنهك البسطاء، واشتركت في صياغته منظومة من المتغيرات المتباينة. تلك المعطيات، التي تنامت حدّتُها بالتداعيات المتناسلة من مستجدات الوطن الجريح، وحينما استعرت الصراعات فيه كانت سنواتها أكثر فاعلية في تشكيل واقعه المثخن بالبؤس والمعاناة. لقد أفرغت المأساة كثيرًا من المناسبات المجبولة على السعادة من معانيها، وأحَلّتْ محلّها كل نقيضٍ لإيجابية الإحالات المعهودة فيها. وما العيد إلّا واحدةٌ من هذه المناسبات، التي سلبتْ سطوة الحياة معانيها، حتى وإن جاءت بصورٍ من المغايرة المجتمعية بتقاربات تطبيع الحياة، من مثل اتفاقات فتح المسالك وما في سياقها من تفاصيل الحياة العامة، التي هي بحاجة إلى مزيدٍ من التوافقات الفاعلة في تجاوز واقعها المزري.

صار العيد بهيمنة الواقع البائس مُتْخمًا بإحالات البؤس والشقاء في حياة الفقراء، التي تحتسي مرارتها أسرة المرحوم محمد عبيد. تلك الأسرة التي انسحقت بالذروة من وحشية المأساة، بعدما اختطف الموت عائلها الوحيد قبل أشهرٍ من قارعة الزمن ــ هذه ــ التي تقترب من عيد الأضحى بعجالةٍ ونزق.

قبل ثلاثة عقودٍ، استهلَّ محمد عبيد حياتَه الأسرية، بيوم عُرسه المتواضع، الذي جمعه بفتاةٍ من قريةٍ، لا تختلف في مستوى سكانها ــ الاجتماعي والاقتصادي ــ عن قريته.

سارت حياتُه ــ على بساطتها ــ  باستقرارٍ نسبي ملحوظ. كان مصدرُ التمويلِ لاحتياجات أسرته عائدًا ماليًّا بسيطًا، من محصولِ مزرعته الصغيرة، التي أستأجرها من مالكها أيام شبابه. وإلى هذا المصدر، مصدرٌ آخر متمثِّلٌ في مجموعة أغنامٍ، لا يتجاوز عددها الشاةَ الخامسة. كانت نواتَه تلك الشاة، التي أعطتْها الحماةُ لابنتها، بعد أسابيع من زفافها إلى محمد عبيد.

تحولات المأساة

لم يكن محمد عبيد يدرك أن نقطة التّحوُّل في حياته، سوف تبدأ من تلك اللحظة، التي أشفق فيها على أصهاره، وهو يتشارك معهم الإحساس بمأساتهم. تلك اللحظة، التي كان فيها معهم مصدومًا، بما جاءت به التحاليل المخبرية، التي تم إجراؤها لواحدٍ من أصْهاره. لم تهدأ حالُ المُصَاب، ولم تُجْدِ الجرعاتُ الكيميائية ــ التي لم تفُتْهُ جُرعةٌ منها ــ في الحدِّ من استشراء المرض في خلايا جسده. سار ت به حالُه إلى تدهور صحّته يومًا بعد يوم، تساقط شعره والتصقَ جلده بعظمه. حتى جاء اليومُ الذي لَفَظَ فيه أنفاسَه الأخيرة، من جسدٍ لم يعد سوى هيكلٍ، لا أمل في أن يُوهب حياةً جديدة.

لم يكنْ يخطر على بال محمد عبيد أن لِمرض صهْرِه ــ هذا ــ إمكانيةَ الامتداد إلى حياة أسرته الصغيرة. لكنه ــ بعد سنةٍ واحدةٍ فقط من وفاة صهره ــ انصعق بما لم يكن في حسبانه. لقد أخرستْه التحاليلُ المخبرية، وبِشَكْلٍ أشد قسوةً، مما كانت عليه حالُه، في ذاك اليوم الذي أسفرتْ فيه التحاليلُ، عن تشخيصٍ دقيقٍ لمرض صهره.

بعد سنة واحدةٍ فقط، كانت النتيجة نفسها، هي التشخيص الذي جاءتْ به التحاليلُ، كاشفةً عن ورمٍ سرطانيٍّ خبيثٍ، داخل رأسِ ولده البِكْر، الذي لم يُسْدلُ الستارُ ــ بعدُ ــ على العام الرابع عشر من عمره.

مُنعطفٌ جديدٌ في حياة أسرة محمد عبيد، مُنعَطفٌ أُنْهِكَ فيه مُحمّد ماليًّا ومعنويًّا. أبٌ فقيرٌ، أجهده السفر بابنه المريض، من وإلى المدينة بشكلٍ دوري، وفقًا لما أقَرّه الأطباء في أحد مشافيها. بلغ الإنهاكُ الماليُّ من الأبِ ذروته، فتعاطف معه جيرانُه وأقاربُه. جمعوا له ما يكفي من النقود، لمواصلة الدواء. وعلى ذلك، لم يكنْ مصيرُ الولد مختلفًا عن مصير خاله. كان الموتُ بانتظاره وجبةً قادمةً، لم تتأخر عنه كثيرًا.

جولة جديدة

سنتان اثنتانِ، كانتا كفيلتينِ بتخفيف حُزن الأسرةِ على فراق ولدها الأول. كما كانتا ــ في الوقت نفسه ــ كفيلتين بأن يستعيد الموتُ شهِيَّتَهُ لوجبةٍ أخرى من الأسرة نفسها. وكعادتها، كانت التحاليلُ المخبرية هي غراب الحزنِ، حينما نعقت بكشفِها عن إصابةِ ابنةِ محمد عبيد بما أُصِيْبَ به شقيقُها المرحوم، الذي كان يكبُرها بسنة واحدةٍ. مضت الأسرة في الطريق نفسه حتى نهايته. طريق المعاناة، الذي سبق أن سلَكَتْه مع مرض الولد البكر. بما في ذلك، قارعة الطريق، التي احتفى الموتُ فيها بالتهامه الفتاةَ وجبةً ثانية.

تمادى الحزنُ، وتناسل في حياة الأسرة. رافق هذا التمادي قلقٌ من هذا المصير المرعب، رافقه خوف الأسرة، من أن يكون هذا المصير هو المصير الحتميّ لأولادها الأربعة: ولدان وابنتان، يتفاوتون عُمْرِيًّا تفاوُتًا محكومًا بتدني مستوى الثقافة الإنجابيةِ لدى الأسرة، التي ليس لها أدنى معرفةٍ بآليات تنظيم الأسرة والإنجاب.

مرّت الأيام والشهورُ ببطءٍ جاثمٍ على كُلِّ صدرٍ في هذه الأسرة المكلومة. لم تظهرْ مؤشراتٌ دالةٌ على أن أحد أفرادها سيكون وجبةً قادمة لوحش الموت، مثلما كانت عليه الحال في وفاة ولديها. وعلى ذلك، لم يخفت قلقُها إلّا بعد مرور وقتٍ، كان كافيًا لإشعارها بأن هذا المرض قد اكتفى منها، بما مضَغَهُ الموتُ من أولادها.

حالان وزاويتان

لم يكن في بالِ أحَدٍ منهم، أن البؤس يُعِدُّ لهم مأساةً أخرى. إلى أن داهمتهم تلك التَّحَالِيْلُ المَخْبَرِيّة بخبرٍ مؤسف. كان مضمونُ النّبأ ــ هذه المرة ــ مختلفًا، وأخفّ سلبيةً عمّا انصعقت به الأسرة من قبل. لقد كشفت التحاليل المخبرية، عن إصابة محمد عبيد ذاته بفيروس الكبد الوبائي. كما كشفت عن التهابات حادّة في جهازه الهضمي، مع مضاعفاتٍ مختلفة في كل جزءٍ من أجهزة الجسم الأخرى.

افتتحت مُستجدات الفحوصات الطبية ــ هذه ــ في حياة عائلة العيد الفقير، جولةً جَدِيْدةً من معاناةٍ شرسة، معاناةٍ نازفةٍ بالإنهاك الماليِّ المتواليّ. ذاك الإنهاك، الذي تُحَتِّمُه احْتياجاتُ الدواءِ باهض الثمن، ولا مناص من المداومة على تعاطيه، فذلك أقل ما يمكن اتّخاذه من سُبل العناية برب الأسرة. ذلك أقل ما يمكن التشبُّثُ به، حتى تحظى الأسرةُ بتأجيلٍ محدود لمرحلة الانهيار في صحة محمد عبيد. الذي كان ــ بعد بضعة أشهر ــ على موعدٍ مع كارثةٍ جديدة، جلطةٍ دماغية أقعدت شريكة حياته الفراش.

قال الأطباءُ إن حال الزوجة سوف تتحسن تدريجيًّا،. لكن لم يظهر على حالها ما يحيل على بصيص أملٍ، مما جاء على لسانِ أطباء المخ والأعصاب. لم تظهر إحالةٌ على بُشرى قادمة، حتى وقد مر على أملهم ما يقارب ثلاث سنوات. وخلال ثلاثية سنين الأمل ــ هذه ــ كان المرض يتدرّج في إحكام قبضته على صحة الزوج. لم تنتهِ السنوات الثلاث إلا وصحته في وضع حرج، بعدما لم يستطع توفير ثمن دوائه ودواء الزوجة المشلولة. ألقتْ به شراسةُ المرض طريحًا على الفراش، في الزاوية المقابلة للزاوية التي ترقد فيها الحبيبةُ المغلوبة على أمرها.

أصهار اللحظة القاسية

بحسْرةٍ ومرارةٍ، يجتهد الأولاد في العناية بأبوَيهما البائسين، ينظرون إليهما وملامحُ الكبت لدموعهم تشي باعتذارهم عن عدم استطاعتهم البِرّ بهما وإسعافهما إلى المشفى. تشي باعتذار الأبناء عن عدم امتلاكهم من الشجاعة ما يُحَفِّزهُم على طلب المساعدة من أحد. وبتواطؤٍ ورضا، اتفق الوالدان مع أولادهم في قرارهم. على أن قرار الأبناء المحزونين ــ هذا ــ لم يكن بحاجةٍ إلى كلمات تفصح عنه، بعدما كانت معانيه واضحةً في ملامحهم وسحناتهم الحزينة.

وصل أخوالَهم ــ من غيرهم ــ خبرُ الحالِ البائسة، التي وصلت إليها صحّة أمهم، فهرعوا للاطمئنان إليها. انصدم ضيوف العائلة بمشهدٍ بالغ القسوة والمأساة، لمْ تَكُنْ أخْتُهم وحْدَها المُمَزّقة بشراسة المرض. لقد كانت الأم مُقعدةً في زاوية من غرفتها، وفي الزاوية الأخرى مثلها الزوج كان طريحَ الفراش. كان الزوج ــ لحظة وصول أصهاره ــ فاقدًا القدرة على اجتراح جملةٍ ترحيبيةٍ بهم. كان مستلقيًا على ظهره، مُوكلًا الترحيب بهم إلى عينيه، اللتين ذهبتا تتحدثان إليهم بمعانٍ دامعة.

قام الأصهار بإسعاف الزوجين ــ معًا ــ إلى المشفى القريب. تم إجراء الفحوصات اللازمة لهما، ومنها كانت فحوصات كورونا كوفيد19. هناك أطَلّتْ كارثةٌ جديدةٌ، وعلى لسان التحاليل المخبرية كالعادة. فبينما كانت نتيجةُ فحوصات الزوجة سلبيةً، جاءت نتيجة فحوصات الزوج إيجابية، وهو ما استدعى عزْلَه وحجره صحيًا. لم تمر سوى أيامٍ قليلة، حتى انتشى الموتُ بوجبته الأشهى، مختطفًا حياة محمد عبيد، مُلقيًا بعائلته إلى هاوية الحزن والفاقة. صادر الموت حياة رب عائلة العيد الفقير، التي يسحقها البؤس: أيتامًا أربعة، وأرملةً مشلولةً.

غادر محمد عبيد الحياة، واستمر العيد في عائلته حلقاتٍ متواليةً، تُضاف إلى سلسلة المعاناة النازفة، في عائلة العيد الفقير، التي اعتادت على أن يكون عيدُها أكبر من همٍّ، وأصغرُ من وباءٍ.


(1) يورونيوز، “مع بداية عام جديد.. اليمنيون يكابدون مرارة الفقر ونقص الغذاء”، موقع euro news))، 6يناير 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *