عيد بوابة القصر
لم يتبقَ من اسمه وهالتِه الأولى، سوى أطلاله، وإيناع حديقته الغناء، واخضرار شارعه، وآثار بوابته العتيقة. لم يتبقَ منه سوى هذه التفاصيل والتداعيات، بعد أن قضى عليه جنونُ الصراع المتناسل. الصراع الذي لم يفرّط أطرافُه في أيّ مسارٍ يمنح التمكين من الخصم، ويفتح بابًا للنيل من مقُدراته. حتى وإن كانت محايدةً في سياقها التكويني العام. تكوينها الذي احتفظ بهالته المعنوية، في سيمفونية الضوء التي تعزفها صيغتُها الراهنة ألقًا فريدًا في عيد بوابة القصر.
ها هي أطلاله محتفظة باسمه “القصر”. وها هي بوابَتُه المجازيّة نقطةَ التقاءٍ تحتضن جهتي المدينة شرقها وغربها، بعد عقدٍ من سنوات القطيعة والعداء. ها هي تحتضن الجِهَتين، على مسافةٍ قصيرةٍ من عيد الأضحى. الذي تُطرّزه جروح الماضي، فيلوّح بعيدٍ استثنائي، بعد أن أُضيفتْ إلى سعادته صفتُه الجديدة “عيد بوابة القصر”.
أعلنت السلطتان اللتان انقسمت عليهما مدينة تعز عن استعدادهما لفتح الطريق بين رئتيها: “تعز المدينة”، و”تعز الحوبان”. ومن ثمّ بدأت إجراءات التنفيذ بتسارُعٍ وهمّةٍ عالية: إزالة الحواجز الترابية، اجتثاث الأشجار، إزالة مخلفات الصراع. تنظيف منطقة التماس المحصورة بين بوابة القصر الجمهوري، وبداية شارع “الكمب”، من جهته الشرقية.
مستأنِسٌ بأشجاره
منذ أن تهاوت جدران القصر. قبل سنواتٍ تسع. دخل مرحلة موحشةً مُفْرَغَةً من الكائنات البشرية، التي غادرتْه إلى حيث يمكنُها استمرار التشبُّث بالحياة. لم تفعل مثلها كائنات الحياة النباتية الخضراء، التي صمدت في أماكنها، من حديقة القصر، ومحيطه، ومحاذاة أسواره الداخلية والخارجية. استأنس بها انهيارُه، واستأنست به. تعايشت بتسامُحٍ مطلق، مع بنات جنسها من أشجار الجُزر الخضراء في رصيف شارع القصر، التي تتوسطه طوليًّا. ومثلها، كائنات الخضرة على شماله ويمينه، ونسيج الاخضرار الممتد إلى ساحة مبنى كلية الطب القديم وحديقة رئاسة الجامعة.
منذُ انهيار القصر، بدأ عالم الخضرة في التنامي المتسارع. مُتحرِّرًا مما اعتاد عليه من التأطير، الذي كان العامل المختص يجدد حدوده كل يوم. العامل الذي كان يحرص على ألّا تتجاوز الأغصان الدائرة الجمالية، التي أقرّتها ذائقة الإنسان. تلك الذائقة نفسها، هي التي لم تُلقِ بالًا لدائرة الحياة، وهي تتمزق تحت إيقاع مقصّات الصراع.
تحررت أشجار القصر ومحيطه، من مقص الجمال المزعوم. وحلّتْ محله مقصات الصراع، فكانت أخف وطأة على صفوف أشجار الأكاسيا، والنسيج الأخضر بتنوعه وجمالياته. ذلك، لأن مقصات الصراع تستهدف ــ بالدرجة الرئيسة ــ اقتصاص الحياة الإنسانية لا الحياة النباتية الخضراء. وإن نالت نصيبًا من جنونها الفاتك.
نموٌّ في الشقوق
منذ انهيار القصر، اختفى الإنسان من محيطه ومن حديقته. كما اختفى من شارعه، بعد أن هجرتْه الإطاراتُ، التي كانت تتسارع بالسيارات المارّة منه. هُجِر القصر وما فيه وما حوله من صيغة حياةٍ حضرية. التي كانت قد تكاملت: طُرقًا إسفلتية، وممرات مرصوفة بالحجارة الملساء، التي سبق أن نالت عنايةً كاملة، لحظة تثبيتها على بساطٍ من عجينة الإسمنت، قبل أن تنضج ــ هذه العجينة ــ فتلتحم بأحجارها، مُجترحةً جمالياتِ الأزقة والممرات الحضارية المتقادمة.
منذ انهياره وهجْرانه، استأنس القصر وشارعه ومحيطه وحدائقه، بحياة الأشجار التي ظفرت بالحرية. الأشجار التي اعتنقت النمو المتسارع، الذي انتصر في استحداث مساراته الجديدة. بدءًا بتفكيك الأرصفة والطبقات الإسفلتية، التي سرعان ما بدأت في التشقق، فتشكلت من خطوط شقوقها أشكالٌ غير متقنة الزوايا والحَوافّ.
كانت قطرات المطر ــ طيلة التسع العجاف ــ تنسرب في شقوق الإسفلت والأرصفة والممرات. فتشهق كلما لامس انسرابُها اللذيذ ظمأ التراب، الذي لم يَرَ النورَ منذ أن اكتسحتْه الحياة بصيغتها الحضرية الخرساء.
رُوِيَت الأرض بلذة الماء، فدفعت بكينونتها الخضراء نباتًا، سرعان ما بدأ نموه في التكسير البطيء المتصل للسياجات الأسمنتية، وطبقات الإسفلت. سرعان ما صارت الأشجار وحدها سيّدة المكان، سيدة الشارع والأرصفة والممرات وساحة القصر. وبذلك، تشكلت حديقة طبيعة خضراء، اكتسحت منطقة التماس، التي كان الإنسان قد زرع فيها أصابع الموت الدمار.
معركة الحديقة العفوية
أعلنت جهتا المدينة عن اتفاقهما على فتح الطريق الذي يخترق الحديقة العفوية، حديقة منطقة التماس. التي بدأت اعتراكها مع الإنسان المتقلّب المرتبك في غاياته وقراراته. بدأت تلك الآلات الخرساء ــ باصفرارها الشرس ــ في انتزاع الحياة من الخضرة العفوية. تلك الخضرة، التي كانت بعض أشجارها ــ في تلك اللحظة ــ تحتفي بعيد ميلادها التاسع.
توالى اجتثاثُ حديقةِ التماس، تتابعت عمليات إزالة عالمها الباذخ بأشجاره الباسمة، التي لم تنهزم، لم تمت واقفة. تشبثت بالحياة، حتى وهي تتهاوى مُزْهَقَةَ الوقوف يانعةَ الروح. حتى وهي تتلاشى تحت ما يُهال عليها من التراب والطوب المُكسّر، والأحجار مختلفة الأحجام. وقشور الطبقات الإسمنتية، وحصى الإسفلت المشتت، وأنصاف الإطارات التالفة. تلك الإطارات، التي احترقت أنصافُها الأخرى ذات يومٍ احتجاجيّ غير مكتمل، ثم تشققت أنصافها الباقية بحرارة الزمن الطويل، الذي مر عليها منذ أن جُمّدت وظيفتُها الطارئة، بسكونٍ متطاوِلٍ في سياجات وحواجز ترابية، مُتَفَرِّقة في أطراف منطقة التماس، التي تفصل بين شرق المدينة وغربها.
تداولت شاشات البث المباشر نقل عمليات اجتثاث الحديقة العفوية، كانت أشجارها تتهاوى برضىً باسمٍ. احتارت الأفهام في تفسير ابتسامات الغصون والأوراق المترعة بالحياة، حتى تفتّق تأويلٌ ماكنٌ في خاطر المساء المطل على مسرح الإزالة، تأويلٌ قرأ في تلك الابتسامات الخضراء مُباركةَ الشجر للإنسان ما لاح فيه من بشائر التسامح والتصالح، المشرئب ــ بإخلاص ــ إلى فضاءٍ من التوافق والعمل الخلّاق، الهادف إلى التحام الحياة واستعادة المدينة ألقها المفعم بالخير والمحبة والسلام.
ازدحامٌ وتقاطعان
منذ انهيار قصر المدينة الحالمة، فَقَدَ تقاطعُ خطوطِ السير ــ على شماله في “جولة الحوض” وعلى يمينه في “جولة القصر” ــ وظيفته في تنظيم الحركة المرورية من المدينة وإليها وفيما بين شوارعها الداخلية. صارت وظيفة هاذين التّقاطُعين مغايرةً لما كانا عليه. صارا علامتين فاصلتين، تنتهي عند كل منهما ــ وتبدأ ــ مساحة النفوذ الموزعة بين طرفي الصراع.
وعلى نحو مفاجئ، لاحت بشائر عودتهما إلى وظيفتهما الرئيسة، تنظيم الحركة المرورية لا خنقها. لاحت البشائر، مع الإعلان عن بدء إجراءات فتح الطريق، اكتظت مساحة “الجَوْلتَين” بالتجمعات البشرية، المحتدمة لهفةً وانتظارًا للحظة العبور.
كلُّ واحدةٍ من جولتي التقاطع ــ هاتين ــ تضجّ بشتى الفئات الاجتماعية. تحتضن شتى الأعمار المتفاوتة، وشتى الغايات المتنوعة: أمٌّ قادمة من “تعز الحوبان”، إلى “جولة القصر”. بعدما اتصلت بها ابنتها من “تعز المدينة”، أبلغْتها أنها في الطريق إليها لزيارتها. لم تتمالك الأم نفسها، فخرجت لاستقبال ابتنتها. لم تتذمر من الانتظار في “جولة القصر”، مثلما لم تتذمر ابنتها من الانتظار في الجهة الأخرى “جولة الحوض”.
وكهلٌ ينتظر لحظة العبور من المدينة إلى “الحوبان”؛ لزيارة أخيه المقعد هناك. فلم يره منذ سنواتٍ تسع، إذ لم يكن في مقدوره تحمّل التكلفة المادية التي يتطلّبُها السفر إليه عبر الطرق البديلة الوعرة. التي يصل السفر فيها إلى ساعات ثمان. بينما الوصول إلى الأخ المقعد، عبر الطريق ــ الذي تجري إعدادات فتحه ــ لا يتجاوز ربع ساعة من الزمن.
اللحظة الفارقة
تعددت قصص المعاناة الإنسانية بين “الجولتين”. كل قصةٍ منها كانت منقسمة على ذاتين الأولى في “جولة القصر”، والثانية في “جولة الحوض”. حتى دقّت ساعة انفتاح الطريق(1)، فتدفقت الأمواج البشرية، راجلةً وعلى متن السيارات والدراجات النارية. في مسارين مزدحمين: الأول من المدينة إلى شرقها، والثاني من “تعز الحوبان”، إلى قلب الحالمة.
اتخذ الطرفان المتفقان على فتح الطريق عددًا من الإجراءات، فكانت بضعةُ أمتارٍ أمام بوابة القصر مسرحًا لها. المزدحمون المتلهفون كُلٌّ للوصول إلى غايته، لم يتذمروا من رتابة تلك الإجراءات التنظيمية لمسارات الدخول إلى المدينة والخروج منها. على ما اقتطعتْه من مساحة شاسعة من زمن سعادتهم الجديدة. لم يفرطوا في معايشة فرحتهم، بصيغتها التي تشكّل بها عيد بوابة القصر. لم يفرطوا في تحوّل العيد إلى عيدين، في تلك المساحة التي تستلقي أمام بوابة القصر. تحت أقدام تدفقهم البشري، وترتيبات ذهابهم وإيابهم.
تدافع فيهم عيد بوابة القصر جَذَلًا، وترقرق فيهم سعادةً، أطفأت ظمأ الشوق الممتد تسع سنوات. ذاك الظمأ الوجداني. الذي انسكب انطفاؤه ابتساماتٍ حانيةٍ، في غصون الأشجار وهي تعانق مصيرها تحت سلاسل الاجتثاث الصفراء. وعزاؤها أنها لم تمت واقفة، وإنما تنازلت عن حياتها النباتية البحتة. تنازلت لتحيا اخضرارَ محبّةٍ متجددة، في حضن كل أمٍّ أعشبَ قلبُها بعودة ابنها البعيد إليها، على بساطٍ من السرعة الخاطفة. تلك السرعة التي أينع بها عيد بوابة القصر، ناسجًا عيدًا آخر. فكان به عيد المدينة عيدين، عيد الأضحى، وعيد قلوب الأمهات والآباء والأحبة. تلك القلوب التي اخضرت باجتثاث المسافة الفاصلة بين شرق المدينة وحضنها الحنون.
- تم تدشين فتح الطريق بين شرق مدينة تعز و(الحوبان)، في الثالث عشر من يونيو 2024. بفتح طريق جولة القصر، الكمب، حوض الأشراف. ↩︎